الأصحاح 31
"وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً اِنْتَقِمْ نَقْمَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْمِدْيَانِيِّينَ ثُمَّ تُضَمُّ إِلَى قَوْمِكَ. فَكَلَّمَ مُوسَى الشَّعْبِ قَائِلاً. جَرِّدُوا مِنْكُمْ رِجَالاً لِلْجُنْدِ فَيَكُونُوا عَلَى مِدْيَانَ لِيَجْعَلُوا نَقْمَةَ الرَّبِّ عَلَى مِدْيَانَ" (ع 1- 3).
استحضر الشعب موسى إلى نهاية وكان هو الذي يقود، وكان الجميع يخضعون له، وهو في هذا رمز للمسيح الذي يقودنا في البرية، وينبغي أن نخضع له ونكون تحت سلطانه كالرب والسيد. وكان على موسى أن ينفذ قضاء الرب على ميدان الذي يشير إلى المؤثرات التي تفسد علاقة المؤمنين بالرب لأن مديان كان يرتبط بإسرائيل بالقرابة الجسدية التي كثيراً ما تكون سبباً في إفساد هذه العلاقة ويجب إدانتها. ووضع أنفسنا تحت سيادة الرب يضمن لنا إدانة هذه المؤثرات. وحين نتأمل رسالة كورنثوس الأولى نعرف أن ما كان يحذر منه الرسول بولس إنما هو الانحراف عن وصايا الرب (1 كو 14: 37). ووضع أنفسنا تحت سيادة الرب يتحقق بحفظ وصاياه، ويكون لنا التدريبات التي تساعدنا على ذلك. كان نتيجة مشورة بلعام أن ارتكب بنو إسرائيل الشر، ونجد إشارة إلى بلعام في (رؤيا 2: 14). كانت وصية الرب للشعب الأرضي هي الانفصال عن شعوب الأرض وعدم مصاهرتهم وهذه هي وصيته لنا نحن مؤمني العهد الجديد أن لا نكون تحت نير مع غير المؤمنين (2 كو 6). وهذه هي المصيدة التي دخلت دائرة الاعتراف المسيحي- السير وراء وصايا الناس بسبب عدم الانفصال. والقرابة الجسدية جعلت من ميدان الآلة المناسبة لاستخدام بناته في إغواء رجال بني إسرائيل، كما أن بلعام له بعض المعرفة بالله واستخدم لغة التقوى التي تناسب غرضه. ويخبرنا الكتاب أن هذا التعليم هو الذي أفسد دائرة الاعتراف المسيحي إذ كان له التأثير على جماعة الرب وأبعد الكثيرين منهم عن دائرة التمتع بالله.
وحين نقرأ كورنثوس الأولى 10 نجد تحذيراً من تعليم بلعام الذي يفسد الشركة عن طريق جذب المؤمنين إلى الارتباطات العالمية التي هي في الحقيقة وثنية. وهذا النوع من الشر كان يجب مقاومته من البداية، وهذا ما بدأت تتنبه إليه جماعة الرب ولكن بعد أن استفحال أمره. وترينا كنيسة برغامس ارتباط الكنيسة بالعالم حيث أن الامبراطور الروماني جعل في الكنيسة أساقفة وجعل لهم صفة الرئاسة ويسجل الروح القدس عن هذه الكنيسة أنها تسكن حيث كرسي الشيطان، حيث نجد الاعتراف بالمسيح مع وجود العصيان والتمرد وصارت الأمور الروحية متوافقة مع العالم.
مارست كنيسة برغامس تعليم بلعام الذي يربط الكنيسة بالعالم وأتلف كل ما هو من الله وقاد إلى الأوثان، وهذا شيء خطير بالنسبة لله لأنه يسلب الله كل ما يخصه. واستمرت التأثيرات المفسدة في دائرة الاعتراف المسيحي طوال السنين الماضية وحرمت المؤمنين في هذه الدائرة من امتيازاتهم الروحية.
ونتيجة للنقمة التي نفذت أمكن أن يأخذ الشعب غنايم كثيرة وأن يثروا ثراءً عظيماً هم والكهنة واللاويون أيضاً، استحضرت تقدمات كثيرة إلى خيمة الاجتماع، وهذا يرينا أن أي إدانة حقيقية للشر بين القديسين لا بد أن يكون لها ربح حقيقي، الأمر الذي ترمز إليه تلك الذبائح.
ونستطيع أن نرى الصفة المقدسة لهذه الحرب التي كان لفينحاس الكاهن نصيب فيها، دخلها وأمتعة القدس وأبواق الهتاف في يديه، كل شيء أن تكون له الصفة الكهنوتية أي كل ما يليق بالله. ينبغي أن يستبعد منها تماماً ما هو جسدي، تحركات مقدسة تتناسب مع أقداس الرب. وتصرف فينحاس بغيرة مقدسة، وكان ينبغي أن يتوافق معه كل إسرائيل في توقيع النقمة إذ ينبغي أن يدين كل ما جعله يخطئ، وهذا هو فكر الله، إدانة الأشياء التي تحول قلوبنا عن الحق.
كان هناك فشل خطير في تنفيذ دينونة الله على ميدان لأنهم مع أنهم قتلوا كل الذكور وملوك مديان الخمسة وبلعام لكنهم سبوا نساء مديان (ع 7- 9)، وكان فينحاس شريكاً في هذا الأمر استدعى ذلك غضب موسى إذ قال "هل أبقيتم كل أنثى حية. إن هؤلاء كن لبني إسرائيل حسب كلام بلعام سبب خيانة للرب في أمر فغور فكان الوبأ في جماعة الرب" (ع 15، 16). ومن ص 25 نعرف من هو فينحاس وكيف أنه غار غيرة الرب وكان يجب أن لا يتساهل في شيء، كانت أمتعة القدس في يده وكان يهتف من خلال أبواق الهتاف، ولكن هذه هو الإنسان، وهذا تحذير خطير لنا. كان ينبغي أن بني إسرائيل يقتلون كل امرأة عرفت رجلاً وأيضاً كل ذكر من الأطفال. وهكذا نرى أن المديانيين قد أدينوا ولكن ترك كل شيء كمصيدة، وهذا ما نراه في دائرة الاعتراف المسيحي إذ أدينت فيها أشياء وتركت أشياء أخرى كمصيدة. ولو نفذ إسرائيل النقمة على مديان تماماً لما قاسوا من مديان بعد ذلك، كان الله يريد أن يكون شعبه في توافق معه، ليس فقط أن يكونوا قديسين بل يشتركوا في قداسته، والذي يحب الله يرغب في الوصول إلى هذا المستوى العالي وإلا فسوف يفشل في الشهادة له.
أما الأشياء الأخرى التي غنموها فكان ينبغي تطهيرها حسب ما جاء في (سفر العدد ص 19) لأن كل من يمس نجساً يتنجس، كما أن الخيمة كانت عرضة أن تتنجس بهذه الأشياء لو لم تطهر. والتطهير يمتد إلى كل ثوب وكل متاع من جلد وكل مصنوع من شعر معز وكل متاع من خشب (ع 20) ولا يوجد استثناء. كل شيء يجب أن يجتاز في النار أو الماء (ع 23).
ونتعلم من كورنثوس الثانية 6 أن النمو لا يأتي إلا عن طريق الانفصال عن كل ما هو عالمي، قد يحاول البعض تحسين الأمور العالمية ولكن هذا ليس سوى فساداً.
وتمثل الغنائم التي أخذت من مديان ما هو من الله ولكنه أخذ واستخدم بطريقة ليست بحسب فكر الله ولكنها هنا في هذا الأصحاح في يد الشعب محفوظة في مكانها الصحيح ويمكن استخدامها لمجد وفي خدمته.
وحين نتدرب تحت سيادة الرب على إدانة الارتباطات العالمية مميزين ما هو أصلاً من الرب وقد تحول في العالم الديني عن وضعه الأصلي إلى ما هو بخلاف ذلك مثل كلمة الكنيسة والكهنوت والأساقفة والخدمة والشركة والسجود والقديسين، نستخلصها ونطهرها بتمريرها في النار أو الماء، فعندئذ نكون قادرين على عمل ما هو مسر لله.
والغنائم تنقسم إلى قسمين متساويين، قسم يعطي للذين باشروا القتال الخارجين إلى الحرب والقسم الآخر لكل الجماعة (ع 27). وفي أي جهاد روحي فالذين يحتملون عنفوان شدته يحصلون على غنى أعظم بسبب التدريبات التي يتدربون بها، كما إن إعطاء بقية الجماعة قسماً إنما هو من مجرد النعمة، وهذا يتفق مع الوصية التي أعطاها داود بعد ضربه للعمالقة (1 صم 30: 24، 25) "لأنه كنصيب النازل إلى الحرب نصيب الذي يقيم عند الأمتعة فإنهم يقتسمون بالسوية". والغالب في كل كنيسة (رؤ 2، 3) يحصل على أجرة خاصة، ولكن ينبغي أن نتأكد أن هناك أيضاً شيئاً يحصل عليه المحارب، وهو متاح لكل الجماعة لو كانت لها الرغبة في الحصول عليه إذ تظهر التقدير لهذه الغنائم، قد يجتاز المؤمن في ضيق ويحصل على النصرة لكن التدريب الناتج من الخلاص من الضيق هو لكل الجماعة.
ولكن يوجد نصيب للرب أو رفيعة له (ع 29) تؤخذ من رجال الحرب وتعطى لألعازار الكاهن، وهي تمثل خدمة كهنوتية مباشرة لله وهذا يعطيها وضعاً سامياً مع أنها صغيرة، أما التي تؤخذ من كل الجماعة لا يذكر عنها أنها رفيعة للرب فهي ذات مستوى روحي أقل من تلك التي تؤخذ من رجال الحرب مع أن التي تؤخذ من كل الجماعة لها حجم أكبر، والتي تؤخذ من رجال الحرب هي في نظر الله خدمة كهنوتية أما التي تؤخذ من كل الجماعة فهي في نظره خدمة لاوية. إن رجال الحرب هم الذين يخدمون الخدمة الكهنوتية وهي ثمر همة روحية تنتصر على المؤثرات الفاسدة. والله لا يريدنا أن نعرف فقط أنه يوجد في خدمتنا شيء لتعضيد الخدمة اللاوية بل يريد أن يكون لنا التمييز لكي نعرف ما هو كهنوتي. من الممكن أن نمارس كمية كبيرة من الخدمة بدون الاهتمام بقيمته الكهنوتية ولكن يجب أن نهتم بما هو عظيم في نظر الله.
وهكذا نجد نتيجة لها ثلاثة أفرع- الكاهن الذي يمثل الخدمة المباشرة لله ويحصل على رفيعة من رجال الحرب، واللاوي ويشير إلى الخدمة العامة بالارتباط بالخيمة ويحصل على نصيبه من كل الجماعة، بينما بنو إسرائيل يحصلون على رفيعة تذكارية أمام الرب من تقدمات وكلاء الجماعة ورؤسائها (ع 48- 54) وهي تأتي في صورة جميلة في نهاية الأصحاح. لم يتأخر فرد واحد من كل الجماعة التي حاربت في إحضار كل الذهب الذي غنموه تقدمة رفيعة للرب، وكان في تقدير قلوبهم أن الأمر يخص الرب وينبغي أن يحصل على الأفضل. لم يكن هناك مجد باطل أو فخر من جانبهم، كانوا ممتلئين من الشعور أن المجد كله ينبغي أن يعود للرب، كانوا كما لو كانوا في الشعور بالكفارة حيث يغطيهم كل ما هو في مجد نعمته ومحبته (ع 50).
"تَذْكَارًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَامَ الرَّبِّ" (ع 54). هناك فضة تذكارية عبارة عن نصف الشاقل من الفضة وكان على الشعب أن يعطيه فدية لنفوسهم وقد ورد في خروج 30: 11- 16، 38: 25- 27 أما هنا في سفر العدد ص 31 فكان التذكار لبني إسرائيل أمام الرب من ذهب، ويمثل الذهب ما هو نقي أمام الله. ويستخدم الذهب في العالم لزيادة الشعور بالذات في الإنسان ولزيادة ما هو فاسد ووثني، ولكن هنا إذ يقبل ويودع في خيمة الاجتماع فقد صار لإثراء الخيمة، وهو تذكار أمام الرب (ع 54) صارت هذه الأشياء مقدسة لسرور الرب ومجده، وهكذا نرى أنه حتى في البرية يوجد مكان في الخيمة للأشياء الثمينة. وحدثت هذه الأمور في نهاية البرية لتكون رمزاً للأيام الأخيرة، الأشياء الروحية التي تؤخذ من يد الأعداء بعد أن تطهر بالنار أو الماء يصبح لها قيمة ثمينة في نظر الله، وما هو من الله يجب أن يحارب من أجله، وهذه الأشياء ثمينة أيضاً أمام المحاربين وتم ربحها خلال تدريب روحي من جانبهم، ولها أيضاً قيمة تذكارية أمام الله. ومع أنها أخذت من رجال الحرب فقط كان لها قيمة تذكارية لكل الشعب إذ لا ينبغي أن يفكر هؤلاء الرجال في أنفسهم كأنهم جزء منفصل عن بقية الشعب بل هم يمثلون بني إسرائيل جميعاً. إن كنوز خيمة الاجتماع تذكار لكل القديسين، وهي قاعدة عامة أن ما يقدم من القديسين المحاربين من سجود وتسبيحات إنما يحسب رفيعة للرب محفوظة في خيمة الاجتماع ومحسوبة تذكاراً أمام الرب لكل القديسين.
- عدد الزيارات: 1812