الأصحاح 28
"وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً. أَوْصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ قُرْبَانِي طَعَامِي مَعَ وَقَائِدِي رَائِحَةُ سَرُورِي تَحْرِصُونَ أَنْ تُقَرِّبُوهُ لِي فِي وَقْتِهِ" (ع 1، 2).
ينبغي قراءة هذا الأصحاح مع الأصحاح التالي لأنهما يكونان مجموعة واحدة من التعاليم والحقائق التي نجد ملخصها في العددين الأول والثاني حيث يقول عن التقدمات المشار إليها في هذين الأصحاحين "قرباني- طعامي- وقائدي- رائحة سروري" ولا شك أن يقصد بها ما هو المسيح من نحو الله فهو طعام الله وموضوع سروره. ونحن ميلون أن ننظر إلى المسيح فقط كمن أكمل لنا عمل الفداء ونهمل الحق الخاص بالمسيح كموضوع شبع الله وسروره. ومع أن ذبيحة الخطية جاء ذكرها في هذين الأصحاحين عدة مرات (22 مرة) ومع ذلك فهي ليست الموضوع الرئيسي لهما بل موضوعهما الرئيسي أن المسيح هو الشخص الذي فيه شبع الله وسروره، فالصباح يعقب المساء واليوم يتلو اليوم والأسبوع يليه الأسبوع والشهر يعقبه الشهر من بداءة السنة إلى نهايتها. وفي خلال هذا كله المسيح هو العبير الرائع الجميل الذي ينعش قلب الله.
ولا شك أن امتلاك الأرض كان دافعاً هاماً للشعب لكي يخدم الرب، لقد أصبحوا الآن تحت التزام قوي لخدمته، وهذا ما نراه هنا رمزياً إذ لا نجد ذبائح اختيارية بل تقدمات قد ألزمهم بها يهوه لكي يقدموها "فِي وَقْتِهِ" (ع 2) وهذا يرينا خدمة الرب ليست أمراً اختيارياً لنا أن نمارسه أو نتركه حسب رغبتنا ولكن شعبه الذي يحبه ينبغي أن يشعروا أنه من دواعي لذتهم أن يخدموه، وهم يفعلون ذلك بمطلق حريتهم لكنهم في نفس الوقت ملزمون أن يعملوه، إن الله يريد أن يقدم له قربانه وطعامه ووقائده، ويتطلع إلى المؤمنين لكي يقدموا له المسيح كموضوع سروره، نرى كل هذا الإضافة إلى النذور والتقدمات الاختيارية أو ذبيحة السلامة التي لا نجد لها ذكراً هنا لأن الموضوع ليس شركة القديسين بل نصيب الله في المسيح.
والذبائح المشار إليها مكملة لتلك الذبائح التي ذكرت في سفر اللاويين التي جاء ذكرها بالارتباط بخيمة الاجتماع، لأن الله لم يعطنا منذ البداية كل ما في فكره بل أبقى هذه التقدمات لكي يكشف عنها في الوقت المناسب بعد حوالي أربعين سنة، وفي نهاية رحلة البرية، وهذا يتفق مع إعلانات العهد الجديد إذ أن كل الحق لم يُعطَ لنا في يوم الخمسين بل أضيف الكثير فيما أعطى للرسول بولس وفيما أعطى أيضاً للرسول يوحنا. كان الله يحتفظ بهذه الحقائق لينعش بها القديسين في الأيام الأخيرة، أُعطيت في الوقت المناسب إذ كان الرب في الفترة التي أعقبت يوم الخمسين يُجهّز قلوب المؤمنين لقبول هذه الحقائق، ولقد وصل إلينا نحن كل شيء بالروح القدس بعد تجهيزنا لاستقبال كل ما هو مذخر لنا في المسيح، ولم يُعطَ الله لنا شيئاً فوق الطاقة بل أعطينا القدرة على استيعابه وتقديمه لله كموضوع سروره.
والأعياد المرتبة من الله كما وردت في لاويين 23 تعتبر شيئاً رائعاً في وقتها، ويكمن التعليم ليس في الأعياد نفسها فقط بل أيضاً في التفصيلات المرتبطة من تقدمات ومقترنة بها للأعياد. وأعطى عيد الباكورات وعيد الخمسين ليكونا رمزاً لوقتنا الحاضر، لكن الموضوع الرئيسي هنا ما يخص شبع الله وسروره وأيضاً يعطينا في نفس الوقت إدراكاً أكبر عما لنا في المسيح.
ونقطة البدء لكل التقدمات المشار إليها هنا هي الخروفان الحوليان الصحيحان اللذان يجب تقديمهما محرقة يومية صباحاً ومساء لكل يوم (ع 3)، ويقصد الرب بهما أن شعبه يبدأ يومه وبنيه بتقديم المسيح، يريد أن يحفظ قلوبنا في الشعور أننا أمامه وفي توافق تام مع رائحة المسيح الذكية. وسبق أن الله رتب هذين التقدمتين على جبل سيناء مُحْرَقَةٌ دَائِمَةٌ (ع 6). وعشر الإيفة من الدقيق الملتوت بربع الهين من زيت الرض وسكيبها من الخمر ربع الهين للخروف الواحد يجذب أفكارنا إلى أن أساس هذا القبول أمام الله هو موت المسيح وكيف أنه كان مكرساً لله، وكان الخمر يسكب في القدس وهذا يشير إلى أن تقدير الله لهذا العمل يرتبط بعمله بطريقة كهنوتية فيقترن به التميز والمشاعر المقدسة بعيداً عن المشاعر بحسب الطبيعة في قرب مقدس لله وأن هاتين التقدمتين لا تعملان طبقاً لعادة يومية بل لشبع الله إذ يقول عنهما "قرباني طعامي.. وقائدي رائحة سروري".
وفي يوم السبت يقدم أيضاً خروفان حوليان صحيحان وعشران من دقيق ملتوت بزيت تقدمة مع سكيبه. وهذا علاوة على الخروفين اللذين كانا يقدمان محرقة يومية، ونظراً لأن السبت يقترن بالراحة فإن هذه التقدمة طعام إضافي له. والراحة رمز لراحة الله في العالم العتيد أي الملك الألفي وهي محققة له في المسيح، ويستطيع المؤمنون أن يتمتعوا بها الآن بطريقة روحية (عب 4: 3). ونظراً لأن السبت أمر أسبوعي مقرر فإن هذا يذكرنا رغم كوننا لا نحفظ السبت لكن لنا نحن أيضاً يوم مقدس وهو أول الأسبوع، ولا نحفظه بطريقة ناموسية ومع ذلك فإننا نكون فيه للرب أكثر من أي يوم آخر، وينبغي أن تقدم فيه للرب تقدمات تناسبه حيث يجتمع فيه المؤمنون معاً لكسر الخبز ويقدمون ذبائح الشكر حول تذكار شخصه ويخبرون بموته إلى أن يجيء. وذبائح الشكر التي تقدم يومياً لا تقلل من ضرورة تقديم ذبائح الشكر بصفة خاصة حول العشاء.
"وَفِي رُؤُوسِ شُهُورِكُمْ تُقَرِّبُونَ مُحْرَقَةً لِلرَّبِّ" (ع 11) نرى هنا تزايد التقدمات "ثَوْرَيْنِ ابْنَيْ بَقَرٍ وَكَبْشًا وَاحِدًا وَسَبْعَةَ خِرَافٍ حَوْلِيَّةٍ صَحِيحَةٍ.... هذِهِ مُحْرَقَةُ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ أَشْهُرِ السَّنَةِ. وَتَيْسًا وَاحِدًا مِنَ الْمَعْزِ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ لِلرَّبِّ فَضْلاً عَنِ الْمُحْرَقَةِ الدَّائِمَةِ يُقَرَّبُ مَعَ سَكِيبِهِ" (ع 11- 15) وهذا يرينا أنه عبر الأيام والأسابيع والشهور ينبغي أن يكون لنا تدريب. يمر الشهر وراء الشهر إلى أن نصل إلى نهاية السنة الروحية التي عبرها يستعرض الله أمامنا طرقه الروحية. ويتكلم المكتوب عن سنة الرب المقبولة (إش 61: 2، لو 4: 19) الأمر الذي يعطينا دائرة كاملة من الفصول، وحين يكتمل هذا المنظر أمامنا نستطيع أن نرى المدينة السماوية التي "في وسط سوقها وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتي عشرة ثمرة وتعطي كل شهر ثمرها" (رؤ 22: 2) والسنة الروحية تستحضر أمامنا ما هو المسيح كمصدر الشبع الدائم للمؤمنين في الأوقات المختلفة التي تنقسم إلى شهور لأن الشهور تقف بالارتباط بالسنة كما أن الساعات ترتبط باليوم، وفي (تثنية 32: 13) التي تتكلم عن بركة يوسف نقرأ "مباركة من الرب بنفائس السماء بالندى وباللجة الرابطة تحت" تلك النفائس التي تظهر بمرور الشهور. وهكذا لا يمكن للمؤمن أن يستوعبها ككل ولكن ينبغي أن يعرف ما هو مذخر له في المسيح ويتمتع به على مدى الشهور.
إنها بداية مباركة للشهور حينما يشرق المسيح أمامنا كفصحناً صائراً طعام الإيمان في صفته كالفصح ولكن هذا هو بداية الشهور ثم تتوالى بقية الشهور. إن الرب يتكلم مظهراً ذاته للمؤمن المحب (يو 14: 21). وإظهار المسيح كما لو كان شهراً جديداً في تاريخ نفوسنا. البعض منا عرف مرور الفصول حين أشرق المسيح علينا بطريقة جديدة وتذوقنا عندئذ ثمره بطريقة لم نعرفها من قبل ولكن لا يوجد أحد منا استطاع أن يختبر كل بركات السنة الروحية مرة واحدة إذ توجد ظهورات أخرى من المسيح للمؤمن تماماً كما سيكون في المدينة السماوية هناك ثمر جديد لشجرة الحياة يمكن التمتع بها على توالي الشهور.
ونلاحظ أن هذه التقدمات الكثيرة التي تقدم أول كل شهر هو نفس التقدمات التي تقترن بعيد الفطير (ع 17) وعيد الباكورات (ع 26). وهذان العيدان هما رمز لوقتنا الحاضر لأن سنة الرب المقبولة تجرى في طريقها، دائرتها العظيمة تستحضر في المشهد كل نعمة الله المتنوعة في المسيح والقديسون في الجماعة مدعوون أن يعيدوا عيد الفطير (1 كو 5: 7: 8) بتنقية الخميرة العتيقة لكي تكون الجماعة عجيناً جديداً. وعيد الباكورات أي عيد الأسابيع يظهر أن الجماعة هي الإناء الحاضر للروح القدس على الأرض. ومثل هذه الحقائق الروحية العظيمة ينبغي أن تثمر نصيباً عظيماً لله. والوقت الحاضر غني في أنه يستطيع أن يثمر لله من هؤلاء الذين يتمتعون بالميراث.
ويشير الثوران إلى إدراك عظيم من المفديين للمسيح حتى أن المسيح يستحضر لله بطريقة تتوافق وتتناسب مع ما أعلنه الله وهو شيء مسر لقلب الله.
ويشير الكبش إلى المسيح كمدرك من مؤمن بالغ يعرف رائحته الذكية وتكريسه بطاعته حتى الموت. أما السبعة الخراف الحولية تظهر أن القديسين لهم تقديرهم في كماله كالشخص الوديع الصابر في آلامه والذي رضي أن يقاد للموت وهو خاضع لكل ما وضع عليه لسرور الرب حنى أن القديسين يستطيعون أن يقدموه بهذه الصفة.
والتيس الواحد من المعز يقدم كذبيحة خطية للرب مظهراً أن كل هذا يقدم له من شعب لا يقول أنه بلا خطية بل يعرفون أن المسيح هو الشخص الذي مجد الله تماماً من جهة الخطية وهم يقدمونه كطعام للرب.
- عدد الزيارات: 1621