Skip to main content

الأصحاح 23

بني بالاق ملك موآب لبلعام سبعة مذابح. وأصعد بلعام على كل مذبح ثوراً وكبشاً (ع 1، 2). ويرينا هذا الأمر أن بلعام كان له بعض المعرفة بالذبائح التي كان يقدمها شعب الله طبقاً للشريعة. عمل بلعام ذلك دون أن يكون له أي تقدير لمعاني هذه الذبائح وما تشير إليه. وهذا ما يفعله كثير من الناس غير المولودين من الله إذ قد يصل بهم الأمر أن يتكلموا عن المسيح وموته وقيامته دون إدراك قيمة هذا الأمر والبركات الثمينة المترتبة عليه للمؤمن. ومهما كانت الدوافع السيئة التي تحكم بلعام وبالاق فقد كان هذا الأمر بسماح من الله. كان ذلك مثل نبوة قيافا في (يوحنا 11: 50- 52) التي نطق بها لدينونة نفسه، وكان في كلامه إعلان من جانب الله عن حق ثمين خاص بالمسيح. وإذ كان لبلعام نور كاف أن المحرقة سوف تكون مقبولة عند الله فكان يجب أن يعرف أنها لا يمكن أن تكون أساساً للعنة بل لبركة.

ولم يكن إسرائيل يعلم ما كان يدور في ذلك الوقت بين يهوه العظيم وهذا العدو اللعين، وربما كان الشعب يتذمر في خيامه في نفس اللحظة التي كان فيها الله يعلن جمال وكمال إسرائيل على فم بلعام. تمنى بالاق أن يلعن بلعام إسرائيل ولكن تبارك اسم الله لأنه لا يسمح لأي إنسان أن يلعن شعبه، وأحياناً يتداخل الله مع شعبه بنفسه ويحكم على أمور كثيرة فيهم ولكنه لا يسمح قط لأحد أن يفتح فاه ضدهم. وقد رأى الله من الضروري أن يظهر لشعبه حقيقة حالته ولكنه لا يأذن لغريب أن يظهر شيئاً من ذلك وقد يجد الناس فينا أخطاء كثيرة ولكن من جهة مقامنا لا يرانا الله إلا في جمال وكمال المسيح. وعندما يتطلع الله ليرى شعبه لا يبصر فيه إلا عمل يديه، وبمجرد أن يتقدم الواشي ليتهم شعب الله نجد الله يتنازل ليواجه المشتكى بنفسه ويرد كل التهم. ولا يبني الله رده على حقيقة شعبه في ذاته وإنما يفعل ذلك متجهاً نحو عمله الكامل إذ يراهم في المسيح. ولا شك أن مجد الله يتطلب ظهور شعبه في مظهر الجمال والكمال المستمدين من جمال وكمال المسيح. وهذا ما نراه واضحاً في الأصحاح الثالث من نبوة زكريا حيث نرى العدو مجتهداً في مقاومة الكاهن العظيم النائب عن شعب الله، وكان جواب الله أنه أمر الواقفين قدامه أن ينزعوا عنه الثياب القذرة ويلبسوه ثياباً مزخرفة ويضعوا على رأسه عمامة طاهرة بمثابة تاج للكاهن. وعلى هذا المنوال تماماً نجد في سفر نشيد الأنشاد العريس وهو يتأمل العروس فيصفها قائلاً "كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة" (نش 4: 7)، وهكذا الحال في إنجيل يوحنا الأصحاح الثالث عشر حيث تطلع الرب إلى تلاميذه ويشهد عنهم قائلاً "الذي قد اغتسل.... هو طاهر كله".

ولا ينبغي أن هذا الحق المجيد يجعلنا نهمل حالتنا العملية لأن الروح القدس يستخدم معرفتنا بمقامنا وسيلة لرفع مستوى حياتنا العملية، ويقول الرسول "فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس" (كو 3: 1) ولهذا جعل الله بلعام ينطق بأمثاله الأربع، وكانت فرصة محاولة لعن شعب الله استعراضاً لمنظر إسرائيل المجيد.

"فَوَضَعَ الرَّبُّ كَلاَمًا فِي فَمِ بَلْعَامَ وَقَالَ ارْجعْ إِلَى بَالاَقَ وَتَكَلَّمْ هكَذَا" (ع 5) قد يجتمع بالاق وبلعام ورؤساء موآب، والكل يتجمهرون ليسمعوا لعن شعبي إسرائيل، وقد يبني هؤلاء سبعة مذابح ويصعدون ثوراً وكبشاً على كل مذبح، وقد تؤثر فضة بالاق وذهبه وتعمى بصيرة النبي الكذاب الطماع، قد يتم هذا كله بل قد يجتمع قوات الأرض والجحيم بشدتها وظلماتها ولكنها لا تستطيع أن تحرك الفم قيد شعرة بلعنة أو تهمة ضد شعب الله. ولكي يتيسر لنا أن نرى حالة شعب الرب وهم يضيئون بهاء وحقاً ألبسهما إياه الرب مع علينا إلا أن نصعد إلى "رأس الصخور" وتكون لنا العين المفتوحة التي تتطلع إلى شعبه من وجهته هو تبارك اسمه فتراه في رؤيا القدير.

ويقول بلعام أيضاً "هُوَذَا شَعْبٌ يَسْكُنُ وَحْدَهُ وَبَيْنَ الشُّعُوبِ لاَ يُحْسَبُ" (ع 9) وهنا نرى انفصال شعب الله الظاهر الملموس عن باقي الشعوب، ونرى شعباً لا يجوز له تبعاً لفكر الله من جهته بأي حال من الأحوال أو الأسباب أو في أي وقت من الأوقات أن يمتزج ويختلط ببقية الشعوب أو يحسب بينها. ومع أن هذا ينطبق على نسل إبراهيم ولكنه ينطبق أيضاً على جميع المؤمنين بالمسيح الآن لأن الله أفرزهم له من بين الناس. هم قديسون بالدعوة وأيضاً هم "مدعوو يسوع المسيح" (رو 1: 6) يتمتعون بالفداء والولادة الجديدة كما يتمتعون بعطية الروح القدس. كانوا في فكره معروفين عنده قبل أن يوجدوا مختارين في المسيح من قبل تأسيس العالم مكتوبة أسماؤهم في سفر الحياة، الخراف الأخر التي ليست من هذه الحظيرة (يو 10: 16). قبل أن يبدأ بولس كرازته في كورنثوس قال له الرب "لأن لي شعباً كثيراً في هذه المدينة" (أع 18: 10). نحن لسنا قديسين لأننا في وقت معين آمنا بالمسيح وأصبحنا له، بل لأن الله دعانا في مقاصد نعمته. ويقول الرسول بولس "الذي أفرزني من بطن أمه ودعاني بنعمته" (غلا 1: 15) إننا نرى مفرزين له منذ وجودنا هنا على الأرض. عند ولادتنا ثانية نأخذ الطابع العملي لفرزنا عن هذا العالم عن طريق تدريبات يجريها الله معنا قبل الإيمان وبعده. "وأما نحن فينبغي لنا أن نشكر الله كل حين لأجلكم أيها الإخوة المحبوبون من الرب أن الله اختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح وتصديق الحق" (2تس 2 :13) وذكر الرسول بولس عشرة انواع من الشرور في (1كو 6 :9, 10) وأضاف قائلاً "هكذا كان أناس منكم لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبرح إلهنا". والاغتسال يشير إلى التطهير الأدبي من نجاسة العالم, والتقديس يشير إلى الانفصال لله. فكيف يمكن إذن أن أناساً انفصلوا بعمل الله فيهم يأتون تحت لعنة, قد بدأ فيهم الله يتكون من سلسلة ذهبية تبدأ منذ الأزل وتمتد إلى الأبد، فنحن معروفون ومبررون وممجدون، وهذه السلسلة غير قابلة للكسر، وقوتها تكمن في الله نفسه وسمو محبته.

ويجذب الله انتباهنا كمختاريه- إنها جماعة لا تعد ولا تحصى "مَنْ أَحْصَى تُرَابَ يَعْقُوبَ وَرُبْعَ إِسْرَائِيلَ بِعَدَدٍ" (ع 10). إن الله لا يقنع بالقليل، يريد أن يكون بيته ممتلئاً.

كان بلعام متأثراً بما رأى ولو لحظة وقال "لِتَمُتْ نَفْسِي مَوْتَ الأَبْرَارِ وَلْتَكُنْ آخِرَتِي كَآخِرَتِهِمْ" (ع 10). إن معظم الناس يرغبون في هذا "موت الأبرار" ولكنهم لا يرغبون أن يعيشوا عيشة الأبرار لأنها حياة الانفصال عن العالم.

ومع أنه كان هناك رفض حاسم للعن الشعب ولكن بالاق لم يعدل عن رغبته في لعن الشعب، وفكر بالاق أنه إذا لم يكن بالإمكان لعن كل الشعب فعلى الأقل البعض منه لذلك استحضر بلعام لكي يرى أطراف الشعب "فَقَالَ لَهُ بَالاَقُ هَلُمَّ مَعِي إِلَى مَكَانٍ آخَرَ تَرَاهُ مِنْهُ. إِنَّمَا تَرَى أَقْصَاءَهُ فَقَطْ وَكُلَّهُ لاَ تَرَى فَالْعَنْهُ لِي مِنْ هُنَاكَ" (ع 13). وينبغي أن نتذكر أنه عندما تذمر الشعب في الأصحاح الحادي عشر تبع ذلك خروج نار من عند الرب وأحرقت في طرف المحلة. ومن هذا نفهم أنه من أطراف الشعب بدأت التذمرات. وربما وصل إلى علم بالاق هذه الأخبار، وبكل يقين كان الشيطان يعرف ذلك. وعلى أي حال فإن طرف المحلة كان هو الأبعد عن الأقداس. وفكر بالاق أن هؤلاء هم الذين يمكن لعنهم. ويحاول العدو الاستفادة من انخفاض الحالة الروحية ليستحضر على المؤمنين يد الرب، هو المشتكي عليهم أمام الله نهاراً وليلاً، ولا شك أنه كثيراً ما يوجد أساس لشكواه.

وكان على بالاق أن يعرف من نفس المثل أنه حتى أطراف الشعب لا يمكن لعنها "من سيشتكي على مختاري الله. الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين" (رو 8: 33)، وهذا مرتبط بالحق أن "هبات الله ودعوته هي بلا ندامة" (رو 11: 29)، "الله ليس إنساناً فيكذب أو ابن إنسان فيندم". وسبق أن قال "أنا الرب وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين وأنقذكم من عبوديتهم وأخلصكم بذراع ممدوة وبأحكام عظيمة وأتخذكم لي شعباً وأكون لكم إلهاً.. وأدخلكم إلى الأرض.. وأعطيكم إياها ميراثاً. أنا الرب" (خر 6: 6- 8). كان الله هو الذي يتكلم، فهل يقول ولا يفعل. كان في مقاصد محبته أن يتخذ لنفسه شعباً ويباركهم بالرغم من كل قوات العدو المضادة، ولذلك قال بلعام "إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أُبَارِكَ فَإِنَّهُ قَدْ بَارَكَ فَلاَ أَرُدُّهُ" (ع 20).

ولكن كيف يتخذ الله له شعباً مضمون البركة، وهل هو قادر على تبريرهم من كل خطاياهم لأن التبرير ضروري حتى لا تكون هناك شكوى ضدهم؟ الطريق الوحيد لذلك أنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلهم. ومكتوب عن الشعب "بالرب يتبرر ويفتخر كل نسل إسرائيل" (إش 45: 25). والرب عادل في تبريره سواء للشعب الأرضي على أساس الذبائح التي كان يقدمها وتشير إلى المسيح أو على أساس ذبيحة المسيح لمؤمني العهد الجديد. لقد حمل المسيح في جسده خطايا هؤلاء وأولئك، وعلى هذا الأساس يقول بلعام أن الله يبصر إثماً في يعقوب ولا رأى تعباً في إسرائيل. (ع 21) قد بقول العدو يوجد شر وتعب هناك في كل جماعة ولكن يهوه سر أن يمحوها كغيمة من أجل اسمه، وإذا كان قد طرحها خلفه فمن ذا الذي يمكنه أن يحضرها أمام وجهه؟ الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين؟ الله يرى أن شعبه قد صار خالياً من كل شائبة، ولذلك يستطيع أن يسكن في وسطه ويسمعه صوته. والمرجع في هذا إلى ما فعل الله وليس ما فعل إسرائيل. ولو وضع عمل إسرائيل على بساط البحث لوجد بلعام وبالاق مجالاً متسعاً لكيل اللعنات، ولكن مجداً للرب لأن شعبه يرتكز على ما فعله هو، وإذا كان قد أخذ على عاتقه عوضاً عنا بأن يرد كل تهمة توجه ضدنا فمن المحقق والحالة هذه أن السلام الكامل هو نصيبنا في هذه الحياة.

وليس الأمر هنا تبريراً شرعياً فقط على أساس عمل المسيح بل أن الرجل المبرر يمتلك روح الله كقوة انتصار على الجسد والشر الناتج منه، وهذا يظهر في القول "الرَّبُّ إِلهُهُ مَعَهُ وَهُتَافُ مَلِكٍ فِيهِ" (ع 21، 22) فملكوته هناك ليس فقط بالكلام بل بالقوة أيضاً.

ونلاحظ أنه في الأمثلة الأربعة يستخدم بلعام الاسمين يعقوب وإسرائيل. ويشير يعقوب إلى المؤمنين في حياة المسئولية والتدريب، ويشير إسرائيل إلى مركزهم كأفراد بالنسبة لله ودعوتهم لهم. وفي كلا المشهدين لا تستطيع قوة الشر أن تتعاظم ضدهم لأنهم عمل الله "في الوقت يقال عن يعقوب وعن إسرائيل ما فعل الله" ليس الأمر هنا ما هو فكر الله وما هو قصده لكن ما هو عمله فيهم بطريقة ثابتة ومستقرة سواء من جهة المسئولية كما جاء في رسالة رومية أو ما هو شرعي في المسيح كما جاء في (2 كورنثوس 5: 7) القديسون هم عمل الله وهو صنعهم لمجده.

تصور هذه الأمثلة قصد الله من جهة شعبه أنهم ليسوا في الجسد بل كثمار عمل الله متوافقين في الفكر والمشاعر مع الروح كالبئر في ص 21: 16- 18 وأصبحت لهم الكفاءة الروحية لإدراك هذه الأفكار الثمينة والحقائق الإلهية، فالانتصار مضمون على هذا الخط. ولذلك يقال في ختام هذا المثل "هُوَذَا شَعْبٌ يَقُومُ كَلَبْوَةٍ، وَيَرْتَفِعُ كَأَسَدٍ. لاَ يَنَامُ حَتَّى يَأْكُلَ فَرِيسَةً وَيَشْرَبَ دَمَ قَتْلَى" (ع 24).

ولا عجب أن قال بالاق "لاَ تَلْعَنْهُ لَعْنَةً وَلاَ تُبَارِكْهُ بَرَكَةً" (ع 25). لقد حزن بسبب ما قيل عن يعقوب وإسرائيل أنهم الثمار الرائعة لعمل نعمة الله. ونظراً لأنه يوجد الكثير الذي يقال عن المؤمنين في ضوء هذا النور لذلك سمح الله لبالاق أن يعمل محاولة أخرى للعن الشعب، وهكذا يعطي الروح القدس فرصة لكي يرسم أمامنا المزيد من جمال وجاذبية القديسين في البرية وهم مصورون كعمل الله.

استحضر بَالاَقُ بَلْعَامَ إِلَى رَأْسِ فَغُورَ الْمُشْرِفِ عَلَى وَجْهِ الْبَرِّيَّةِ (ع 28) لم يكن بالاق يقدر أن يرى وقتئذ سوى البرية. كان ذلك يبدو أمامه لعنة موافقة، لم يكن يقدر أن يرى شيئاً من مناظر القدير الذي كان على وشك أن يصفها، ليس العجائب التي أعطى لبلعام أن ينطق بها بل عمل الله فينا حين نكون سالكين بالروح في البرية.

  • عدد الزيارات: 1900