الأصحاح 21
نرى الشعب من هذه النقطة منتصراً على أعدائه وهم- الكنعانيون، والأموريون، وأهل باشان، والمديانيون، كان هؤلاء جميعهم أعداء إسرائيل على الناحية الشرقية للأردن، وكان ينبغي الانتصار عليهم وتمثل هذه الشعوب الأسس الجسدية التي تعوق شعب الله عن كل ما هو روحي، ويمثل الكنعانيون الذين يعني اسمهم تجار- الناس الذين يرغبون في الأمور المادية ويعملون للحصول عليها.
"فَنَذَرَ إِسْرَائِيلُ نَذْرًا لِلرَّبِّ وَقَالَ إِنْ دَفَعْتَ هؤُلاَءِ الْقَوْمَ إِلَى يَدِي أُحَرِّمُ مُدُنَهُمْ" (ع 2). يظهر النذر الذي عمله بنو إسرائيل الهمة والتكريس اللذين لم نرهما سابقاً فيهم هذا السفر، وكان هذا نتيجة شربهم من الصخرة التي تشير إلى المسيح، ويشير إلى الماء المتفجر من الصخرة إلى الروح القدس (يو 7: 37- 39) وحين نشرب من هذا الماء الحي فلا بد أن ينشئ فينا الهمة والتكريس، وفي تنصيب ألعازار الكاهن الذي يعني اسمه الله يعينني نرى إعلان فكر الله لشعبه من جهة كهنوت المسيح الأمر الذي ينشئ فينا أيضاً همة في النفس ويعطي تأكيداً أن الله بكل صفاته موجود لحسابنا على الطريق، يعطي النصرة على كل ما هو ضدنا، وحين توجد لدينا الفكرة أنه من الضروري الانتصار على أعدائنا الروحيين فإن الله يعطينا هذه النصرة، ننتصر على محبة العالم وأموره المادية، العالم الذي هو في طريق التحلل (2 بط 3: 10- 14) وتظهر تفاهته حين يقارن بعطايا المحبة الإلهية، وننتصر على الشيطان والجسد.
في ع 3 يشار إلى انتصار للشعب، واستحضر هذا الانتصار نوراً كشف الحالة الرديئة للشعب، وهذا يرينا أننا حين نحصل على انتصار محدد على أعدائنا يصبح لدينا الاستعداد للتفكير أنه ليس لدينا شيء أكثر لنتعلمه عن الجسد، ولكننا نقرأ هنا "وَارْتَحَلُوا مِنْ جَبَلِ هُورٍ فِي طَرِيقِ بَحْرِ سُوفٍ لِيَدُورُوا بِأَرْضِ أَدُومَ فَضَاقَتْ نَفْسُ الشَّعْبِ فِي الطَّرِيقِ" (ع 4) وهذا يرينا أن وقت النصرة هو الوقت الذي يجب فيه أن نكون حذرين من أنفسنا "إذا من يظن أنه قائم فلينتظر أن لا يسقط" (1 كو 10- 12) ووقت النصرة عكس وقت الهزيمة الذي يجهز المؤمن لبركة أعظم ينالها من نعمته. وما حدث كان اختباراً إذ تحولوا رجوعاً عن الأرض، سافروا مسافة طويلة نحو الجنوب في اتجاه البحر الأحمر، وقد يحدث هذا معنا إذ بعد الحصول على انتصار روحي ومنعش ونكون على وشك التقدم نذهب رجوعاً إلى ما وراء حيث كنا منذ زمن لنبدأ رحلة جديدة، الأمر الذي يكشف رداءة الجسد.
"وَتَكَلَّمَ الشَّعْبُ عَلَى اللهِ وَعَلَى مُوسَى قَائِلِينَ لِمَاذَا أَصْعَدْتُمَانَا مِنْ مِصْرَ لِنَمُوتَ فِي الْبَرِّيَّةِ لأَنَّهُ لاَ خُبْزَ وَلاَ مَاءَ وَقَدْ كَرِهَتْ أَنْفُسُنَا الطَّعَامَ السَّخِيفَ" (ع 5) إنه أمر مخيف أن نعرف أنه بعد خلاص الله الذي اختبرناه لسنين عديدة لا يزال فينا فكر الجسد الذي هو عداوة لله. وحين نتأمل في شكواهم لا نجد عذراً لتذمرهم، كان ينبغي أن يتذكروا كل ما عمله الله لهم في الماضي، كان لهم في البرية الطعام من السماء، وكان طعامهم أفضل طعام في العالم، وكان لهم الماء من الصخرة، ولكنهم لم يجدوا لذة في تجهيز الله لهم وذلك يكشف حالة قلب الإنسان تجاه أفكار الله، وينطبق على الإنسان ما قاله الله في 1 مل 8: 38 "كل شعبك إسرائيل الذين يعرفون كل واحد ضربة قلبه" ويقولون كما قالت رفقة "إن كان هكذا فلماذا أنا؟" (تك 25: 22) قالت هذا القول حين تزاحم الولدان في بطنها، وقد يحدث هذا معنا حين تبدأ أفكار الله في الإشراق في قلوبنا، وفي نفس الوقت لا نكون قد استوعبنا مقاصد محبته ولم نعمل علة إدانة الجسد فينا.
"فَأَرْسَلَ الرَّبُّ عَلَى الشَّعْبِ الْحَيَّاتِ الْمُحْرِقَةَ فَلَدَغَتِ الشَّعْبَ فَمَاتَ قَوْمٌ كَثِيرُونَ مِنْ إِسْرَائِيلَ" (ع 6).
كان القدماء ينظرون إلى الحية كرمز للشفاء، وذلك استناداً على النظرية التي تقول أن أكثر الأدوية فاعلية هي السموم الأشد خطورة. وعلى هذا الأساس بدأ من بعض الشعب الأرضي يعبدون الحية النحاسية حتى حكم حزقيا الملك، وكانت الحية حمراء اللون لأنها من النحاس، والذي تلدغه الحية يحمر لونه وترتفع درجة حرارته، وهنا نرى أن افتقاد الله لشعبه بالحيات المحرقة استحضر تفاهة الجسد، والذي يعمل في الجسد هو الشيطان "التنين العظيم الحية القديمة المدعو إبليس والشيطان الذي يضل العالم كله" (رؤ 12: 9) والشيطان عدو لله، ولدغة الحية المحرقة تعني روحياً إقناع إلهي بما هو الجسد وأن وراءه الشيطان، إن عدم الإيمان والعصيان والتذمر واحتقار ما يعطيه الله في محبته لدغة من الشيطان تمنع تذوق تجهيزات الله العظيمة للناس في المسيح، وعند معرفتنا هذا الحق ندين الشر فينا، بهذا فقط نستطيع تقدير محبة الله العظيمة لنا.
"فَأَتَى الشَّعْبُ إِلَى مُوسَى وَقَالُوا قَدْ أَخْطَأْنَا إِذْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الرَّبِّ وَعَلَيْكَ فَصَلِّ إِلَى الرَّبِّ لِيَرْفَعَ عَنَّا الْحَيَّاتِ" (ع 7) هذا هو الاعتراف الأول الصحيح بالخطية في هذا السفر والتعبير الذي ورد في ص 14: 40 "قد أخطأنا" لا يعتبر اعترافاً صحيحاً لأنه كان مصحوباً بالتصميم على التعدي على وصايا الرب، كان اعترافهم هناك اعترافاً شفاهياً بدون إدراك ما تعنيه هذه الكلمات ولكن هنا اعترافهم مقترناً بالحكم على الذات وأن الله القدوس هو المصدر الوحيد الذي يمكن أن يعترفوا له بخطاياهم وعندئذ ينالون الغفران.
"فَصَلَّى مُوسَى لأَجْلِ الشَّعْبِ. فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى اصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلَى رَايَةٍ فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا فَصَنَعَ مُوسَى حَيَّةً مِنْ نُحَاسٍ وَوَضَعَهَا عَلَى الرَّايَةِ فَكَانَ مَتَى لَدَغَتْ حَيَّةٌ إِنْسَانًا وَنَظَرَ إِلَى حَيَّةِ النُّحَاسِ يَحْيَا" (ع 7- 9).
الحية النحاسية رمز للمسيح، وكما رفعت الحية على الراية رفع المسيح على الصليب، كما أنها ترينا أن كل ما في الإنسان من شر يمكن تتبعه إلى الحية، فكانت الحية من النحاس ويشير النحاس إلى القضاء ودين شر الإنسان في جسد ربنا يسوع المسيح له المجد على الصليب، والحية تشير أيضاً إلى عداوة الشيطان لله وكان عاملاً في الإنسان تحت مظهر الغيرة لله، تم هذا في رؤساء اليهود وكان مصحوباً بالوحشية والشراسة، كما ظهرت هذه العداوة من جانب الشعب أيضاً والجنود والرومان، والعداوة التي ظهرت لله من الإنسان لم تظهر بمثل هذه الرداءة في الشيطان وملائكته الذي لم يجرؤ أن يبصق في وجه ابن الله المبارك. وكل ما كان يرغب فيه الشيطان ولم يتجرأ عليه ظهر في الإنسان، وهذا يرينا ضرورة إدانة الجسد حليف الشيطان فينا. لقد دينت الطبيعة العتيقة التي فينا في جسد المسيح على الصليب شرعاً، ويجب أن توضع هذه الطبيعة في حكم الموت بقوة الروح القدس "الله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد" (رو 8: 3).
رفعت الحية كرمز على الراية في السنة الأربعين من خروج الشعب من مصر، ولكن محبة الله جعلت من الممكن أن نبدأ حياتنا الروحية بالتطلع إلى المسيح مرفوعاً على الصليب لأجلنا، وكل من يشعر أنه لدغ من الخطية وفي طريقه إلى الموت عليه أن ينظر إلى المسيح، ولا توجد قوة تستطيع أن تؤثر في الشخص المقبل إلى المسيح بالإيمان لكي تعوقه من الوصول إليه.
"فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا"- أي أن كل شخص ضرب للموت بلدغة الحية يقدر أن يتطلع بعيداً عن نفسه إلى ما جهزه الله لذلك وعندئذ ينال الحياة، والذي كان في فكر الله وقتئذ نراه في كمات الرب يسوع له المجد إلى نيقوديموس "كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 14- 16) الذين نالوا الحياة من الشعب القديم بصدد اقترابهم وتطلعهم إلى ميراثهم المجيد. وحين أعطى الرب يسوع له المجد التطبيق الحاضر على الرمز، أدخل إلى المشهد الحياة الأبدية، لم تكن محبة الله مدركة من الناس، والحياة الأبدية التي يتكلم عنها ليست مجرد نوع من الحياة لهذا العالم، بل حياة من نوع مختلف ونظام مختلف عن كل ما يعرفه الإنسان بحسب الطبيعة، حياة خارج نطاق الموت وعلى الإنسان أن يتطلع إلى المسيح ليحصل عليها، الذي أسلم نفسه للموت كالشاهد على محبة الله وهو لم يمت فقط بل قام أيضاً ودخل إلى دائرة جديدة كالمقام من الأموات، هي دائرة محبة لله التي جهزها الله للإنسان، هي الحياة الأبدية كما هي معروفة في ابن الله، هي خارج الحياة في الجسد. ينظر كثير من المؤمنين إلى الحياة الأبدية أنها مجرد ضمان أبدي ولكنها تعني أكثر من ذلك- تعني الإدراك والتمتع بمحبة الله.
والرب يسوع له المجد حين تكلم إلى نيقوديموس عن هذا الرمز كان في فكره أن يعطي ما يرمز إليه هذا الرمز وهو شخصه وضرورة رفعه على الصليب. وكلام الرب عن الحياة الأبدية كان لإيقاظ الأشواق الحية لمعرفة ما هو متضمن في هذه الحياة التي ينالها ويتمتع بها المؤمن بالمسيح. كانت أرض كنعان عطية ثابتة لإسرائيل من الله، أعطاهم الوعد بها قبل أن يتحركوا من مصر ويمتلكوها فعلاً، ولكن الحياة الأبدية بالمسيح تمتلك بمجرد الإيمان به "خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني وأنا أعطيها حياة أبدية" (يو 10: 27، 28).
وتتضمن الحياة الأبدية عطية الروح القدس "وأما الروح فحياة بسبب البر" (رو 8: 10) مكتوب "وإن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون" (رو 8: 13) "ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية الموت"(رو 8: 2) بعيداً عن الروح ليس لدينا قوة أن نعيش في حرية من ناموس الخطية والموت في ظروف البرية. لقد دان الله الخطية في الجسد لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح (رو 8: 4). إدانة الجسد في ابن الله المرفوع على الصليب إنما تتم في قوة جديدة دخلت المشهد وهي قوة الروح القدس، بهذه القوة ننتصر على الجسد وتتم مشيئة الله في نفس الظروف التي فيها سابقاً تتمنا إرادتنا الذاتية، وبدون هذا لا يمكن أن نعيش الحياة التي بحسب فكر الله.
كان في فكر الله حين أعطانا الروح القدس تلك الدائرة من الحياة- الحياة الأبدية والتي ترمز إليها الحياة عبر الأردن، وكان الشعب الأرضي يتحرك نحوها.
"ارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَنَزَلُوا فِي أُوبُوتَ. وَارْتَحَلُوا مِنْ أُوبُوتَ وَنَزَلُوا فِي عَيِّي عَبَارِيمَ فِي الْبَرِّيَّةِ الَّتِي قُبَالَةَ مُوآبَ إِلَى شُرُوقِ الشَّمْسِ" (ع 10، 11).
كانوا يرتحلون الآن شرقاً ويدورون حول بحر الملح أو البحر الميت، كانوا يرتحلون وظهورهم نحو الأرض، وكانت هذه نقطة مهمة في تاريخهم لكي يتحولوا بعد ذلك ناحية الشمال، كانوا يتجهون أولاً إلى الشرق. ويشير الشرق إلى مجيء النور المجيد الذي في فكر الله ومقاصده نحو المؤمنين، وهو نفس النور الذي سوف يشرق عند مجيء المسيح، وهو يشرق الآن بطريقة روحية عندما يرتسم المسيح أمامنا، لقد سبق أن أشرق في قلوبنا عند إنارة معرفة مجد الله في وجه ربنا المبارك، ولكنه يشرق بنور جديد عند ارتسامه أمامنا ونحن سائرون في الطريق. وكان تحول المحلة تجاه شروق الشمس نقطة تحول مهمة تجاه الأرض، وهي ترمز إلى التغيير العظيم المستحضر في المؤمنين حين يتحولون إلى المسيح وترتسم أمامهم مقاصد محبته ونعمته في المسيح. كان هذا يوماً رائعاً من أيام بني إسرائيل. انطبق عليهم ما قاله إرميا في ص 50: 4 "معاً يسيرون سيراً ويبكون ويطلبون إلى الرب إلههم"، وهو يوم رائع أيضاً في تاريخ كل نفس حين تتحول إلى المسيح في دائرة النور.
ونلاحظ وجود الماء من هذه النقطة فصاعداً، وهذا الماء فياض "مِنْ هُنَاكَ ارْتَحَلُوا وَنَزَلُوا فِي وَادِي زَارَدَ مِنْ هُنَاكَ ارْتَحَلُوا وَنَزَلُوا فِي عَبْرِ أَرْنُونَ الَّذِي فِي الْبَرِّيَّةِ، خَارِجًا عَنْ تُخُمِ الأَمُورِيِّينَ. لأَنَّ أَرْنُونَ هُوَ تُخْمُ مُوآبَ بَيْنَ مُوآبَ وَالأَمُورِيِّينَ. لِذلِكَ يُقَالُ فِي كِتَابِ حُرُوبِ الرَّبِّ وَاهِبٌ فِي سُوفَةَ وَأَوْدِيَةِ أَرْنُونَ وَمَصَبِّ الأَوْدِيَةِ الَّذِي مَالَ إِلَى مَسْكَنِ عَارَ وَاسْتَنَدَ إِلَى تُخُمِ مُوآبَ" (ع 12- 15).
نراهم الآن مرتحلين وقد تم شفاؤهم نراهم منتصرين نتذكر عدة أسماء لأماكن مروا بها والتي أمكن منها أن يتطلعوا إلى الأرض وأيضاً إلى رمال الصحراء التي صارت وراءهم، كانوا مقبلين من الأرض ذات المجاري الكثيرة، وكتاب حروب الرب المشار إليه هنا يتكلم عن هذه المجاري التي أعطتنا إنعاشاً روحياً وفرحاً حين تطلعنا إلى الرب يسوع كالمصدر الوحيد للإنعاش. لم يكن الشعب قد وصل إلى الأرض بعد ولكن تطلعه إليها وارتسام محبة الله في مقاصده أمامه كانت منعشة له في الطريق وكذلك لنا نحن الذين نتحرك في دائرة النور الإلهي.
"وَمِنْ هُنَاكَ إِلَى بِئْرٍ. وَهِيَ الْبِئْرُ حَيْثُ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى اجْمَعِ الشَّعْبَ فَأُعْطِيَهُمْ مَاءً" (ع 16- 20).
نرى إسرائيل الآن يرنم، كانت أفواههم قبل ذلك ممتلئة بالتذمرات، وكانت ترنيمتهم الأولى على البحر الأحمر بعد عبورهم له وكانت تنطق بالمعركة، أما الترنيمة الثانية فتنحصر في البثر التي تم حفرها.
حين وصل الشعب إلى الأرض وجد نفسه في أرض تختلف كل الاختلاف عن البرية حيث جاهد ليصل إلى الأرض التي وجد فيها انعاشاً في كل خطوة من خطواته، حارب وانتصر وكانت الحروب ليست له بل للرب. ونحن إذا أردنا أن نصل إلى دائرة البركات السماوية فعلينا أن نحارب حروب الرب لأن الرب يحسب أعداءنا أعداؤه وانتصاراتنا هي انتصاراته. كل هذا نتيجة تطلعنا إلى المسيح المرفوع على الصليب، ونحن في ضعفنا ليس علينا أن نجاهد ضد قوى أعظم منا، ولكن كجنود في جيش الرب فلنا قوة روحه لتضمن لنا النصرة ضد المقاومين. تقدم الشعب من هذه النقطة وكان منتصراً حتى وصل إلى أريحا. إن حوادث هذا الأصحاح علامات على الطريق تشير إلى الانتصارات المؤسسة على التطلع إلى الحية المرفوعة على الراية والتحول إلى الشمس المشرقة حيث الحرب للرب. وع 16 يتكلم عن البئر والماء كرمز للروح القدس فائضاً في المؤمن "الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 14) فنرى الترنيم وأساسه معرفة فكر الرب في حرية محبته وسيادته.
حين نتطلع إلى الروح القدس كماء من الصخر فإن انتباهنا يوجه بصفة خاصة إلى المسيح الذي أعطى الروح القدس نتيجة ضربه (خر 17) أو كمرسل منه بعد ارتفاعه إلى المجد (عدد 20) ولكن في يو 4 بينما يشير الماء الحي إلى الروح القدس كعطية الله وعطية المسيح فإن الرب يركز على الصورة التي يأخذها الروح في المؤمن- يصير فيه ينبوعاً أو بئر ماء يفيض إلى الحياة أبدية أي يأخذ بأفكار المؤمن ومشاعره إلى الحياة الأبدية التي في المسيح والتي هي المسيح نفسه.
"اجمع الشعب فأعطيهم ماء"- العاطي هنا هو الرب. ويقول الرب يسوع في يو 4: 10 للسامرية "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً".
"حينئذ ترنم إسرائيل بهذا النشيد. أصعدي أيتها البئر أجيبوا لها" كان فكر الرب أن يعطيهم ماء ليوقظ مشاعرهم لرغبة ملحة في أن تفيض البئر وتصعد وذلك بالترنم له. "فاض قلبي بكلام صالح" (مز 45: 1).
"بئر حفرها رؤساء. حفرها شرفاء الشعب بصولجان بعصيهم ومن البرية إلى متانة" فكرة الآبار التي ينبغي حفرها ترد بصفة خاصة في تك 26: 18، والحفر يشير إلى الحركة النشيطة للحصول على الفائدة المتاحة من النبع الذي ينبع إلى حياة أبدية ويقود إلى السمو الروحي ليس فقط قبول الحق الخاص بسكني الروح القدس. وهذا ما نراه في الرؤساء الذين حفروا البئر وقدسوها. وهذا لا يتأتى إلا بوضع الجسد في حكم الموت بقوة الروح القدس، وعندئذ يتم الامتلاء بالروح القدس ويتحقق القول الذي ورد في يو 4 أن "الماء ينبع إلى حياة أبدية".
وتقودنا كلمة الله إلى معرفة المكانة العظيمة للروح القدس لا سيما في رسائل رومية، 1 كورنثوس، غلاطية "فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون ولكن الذين حسب الروح فبما للروح" (رو 8: 5). حيث تكون الأمور الروحية هي موضوع مشغوليتنا بالروح القدس "لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون" (رو 8: 13)، "لأنه من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً. ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية" (غل 6: 8) وفي أفسس 4: 30 نجد التعبير "لا تحزنوا روح الله" إن الذين لهم امتياز حضوره ينبغي أن يزيلوا كل ما يعوق جريان مائه.
ونرى هنا في الرمز أكثر من فيضان الماء في المؤمنين كأفراد إذ يقول الرب هنا "اجمع الشعب فأعطيهم ماء" ويرينا هذا الأمر إنعاشاً بين جماعة القديسين حيث يجتمعون بقوة الروح القدس، ولكن قبل أن يجتمعوا يجب أن يوضع الجسد في حكم الموت بقوة الروح القدس، وعندئذ ستكون هناك تعزيات وامتلاء بالروح القدس أي يأخذ الروح القدس مجاله بين المؤمنين ويمتلكهم تماماً وتكون كل عبادتهم بالروح القدس.
في الجزء الأخير من الأصحاح نرى انتصار الشعب على سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان، ويمثل سيحون الملك النشيط، ويصف النشيد الوارد في سفر العدد (ص 21: 27- 30) الغنائم التي غنموها من هذا الملك، أما عوج فيمثل تساهل الجسد. لقد أخذت كل مدن الوارد ذكرها في عدد 21 وهي تمثل مملكتي هذين الملكين، ويقول موسى في (تث 2: 36) في استعراضه للماضي "لم تكن قرية قد امتنعت علينا. الجميع دفعه الرب إلهنا أمامنا"، وهذا يتفق مع رومية 8 حيث نرى هناك أناساً يمتازون بسكن الروح القدس ولهم قوة خاصة للانتصار على الجسد، ويحب الرب أن يستعرض أمامنا الانتصارات السابقة، وفي تذكيرنا بها تشجيع لنا للانتصار في المعارك المقبلة، كما أن عدم امتناع أي مدينة أو قرية على الشعب يرينا أنه لا يوجد جزء من الجسد يستعصي الانتصار عليه المؤمن السالك بقوة الروح القدس ومكتوب إن كان الله لنا فمن علينا (رو 8: 31). إن كل صفات الله موضوع لحسابنا في الطريق للانتصار على الجسد. وفي سقوط هذا المدن أمام الشعب برهان أن الله كان لهم، كانت لهذه المدن أسوار وعوارض- سقطت كلها أمام قوة الله، وكان في هذا تشجيع لهم في حروبهم القادمة.
امتلكت هذه الأرض بواسطة سبطي رأوبين وجاد ونصف سبط منسى، ولم يخطئوا حين طلبوا أن يظلوا في هذه الأرض ولكن فشلهم يكمن في اكتفائهم بها، وسكنوا قايين فيها، ولم يتطلعوا إلى الأرض التي عبر الأردن لكي يشاركوا إخوتهم في امتلاكها، تلك الأرض التي سر الرب أن يعطيها لشعبه، فكروا فيما هو مناسب لهم فقط، ولم يفكروا لما هو مناسب لسرور الله، كان الرب يريد منهم أن يعبروا الأردن إلى أرض كنعان هي التي رمز لما أعطاه الله لمؤمني العهد الجديد من بركات روحية سماوية في المسيح، يوجد مؤمنون كثيرون قانعون بالتبرير بالنعمة. وبرحمة الله في ظروفهم المختلفة، ولكن ليس هذا هو قصد الله من جهتهم في مسيرته ونعمته، هو يريد منا أن نعرف عظمة صلاحه ونعمته بدخولنا دائرة البركات السماوية. وامتلاكنا عملياً لهذه البركات.
- عدد الزيارات: 1787