الأصحاح 12
رأينا في الأصحاح السابق شيئاً من الاختبارات الفاحصة، ويستمر هذا الأمر هنا في هذا الأصحاح. وكل منا يتعرض للفحص والاختبار حتى هؤلاء ذوي المراكز الروحية الممتازة، اختبر موسى في ص 11، ونرى هنا اختباراً لمريم وهرون حيث وجدا نفسيهما في البوتقة الإلهية، كانت مريم نبية مميزة، وهي التي قادت النساء على شاطئ البحر الأحمر إلى الترنم فرحاً بنصرة الرب على الأعداء، وكان هرون كاهناً مميزاً للرب، كانا ذوي مركز ممتاز، ولكن حين وضعا تحت الفحص الإلهي كشف هذا الفحص جذور الشر فيهما، الشر غير المحكوم عليه منهما "وَتَكَلَّمَتْ مَرْيَمُ وَهَارُونُ عَلَى مُوسَى بِسَبَبِ الْمَرْأَةِ الْكُوشِيَّةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا" (ع 1) وحين نظن أننا ندين غيرنا ففي الحقيقة نحن ندين أنفسنا.
وكان اتخاذ موسى هذه الزوجة الكوشية اختباراً لمريم وهرون اللذين لم يعطيا موسى مركزه المميز المعطي له من الله، كانت رغبتهما أن يكونا في نفس مستوى موسى "هَلْ كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَحْدَهُ؟ أَلَمْ يُكَلِّمْنَا نَحْنُ أَيْضًا" (ع 2) تحول إكرام الرب لهما إلى الاهتمام بذواتهما، الأمر الذي أعمى أعينهما عن رؤية طريق الله إذا كان من الواضح أن الرب أعطى لموسى هذا المكان الفريد. إن نفس الجسد الذي اشتكى ضد النظام الإلهي محتقراً المن واشتهى شهوة الجسد، نجده الآن راغباً في مكان روحي ممتاز حتى لو كان في هذا الأمر عدم خضوع لله، إن الجسد في هرون ومريم (ص 12) ليس أفضل من الجسد في الشعب (ص 11)، وكان على مريم وهرون أن يتعلما بالتدريب المؤلم درس الخضوع لسيادة الله.
كان موسى رمزاً للمسيح كابن على بيته، وملك في يشرون، والله لا يقبل إطلاقاً أن نعطي للمسيح مركزاً أقل من هذا، والمسيح هو الذي يرسل الخدام ويعطيهم المواهب اللازمة "سبى سبياً وأعطى الناس عطايا.... وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين" (أف 4: 8- 11). والتكلم بشر على خدام الرب المرسلين منه ليس سوى مضادة للمسيح. ونرى نفس هذه الخطية في كورنثوس حين تكلم المؤمنين هناك على الرسول بولس بسبب انتفاخهم (1 كو 4: 18، 19) وافتكروا أن بولس يسلك حسب الجسد (2 كو 10: 2) وأن حضوره بالجسد كان ضعيفاً (2 كو 10: 10)، وأنه يطمع في المؤمنين (2 كو 12: 17، 18) كان بولس قد رأى الرب واختطف إلى السماء الثالثة، وكان سفيراً للمسيح- أي ممثلاً شخصياً له، كانت أقواله بالوحي أقوال الله، كتب أربع عشرة رسالة من رسائل الوحي- ولذلك كان احتقار المكان الذي أعطي له من الرب احتقاراً للشخص الذي أعطاه هذا المكان. كان موسى يعمل كعبد الرب أو خادمه، وكلمة خادم التي وردت في عب 3: 5 تعني كرامة خاصة أسبغها الرب على موسى، وتأتي كلمة "عبدي" مرتين في عدد 12 (ع 7، 8)، كان يعمل خادماً أميناً بما كلفه الرب به. ويقول بولس عن نفسه وعن زملائه أنهم خدام المسيح.
ونرى في المكتوب أن الله سر أن يكون له خدام بطريقة محددة مثل موسى ويشوع وصموئيل وعزرا ونحميا وزبابل وبطرس وبولس ويوحنا وتيموثاوس، وكانوا يعملون من أجله ويحملون حمله، هذه هي ملامح الله في كل العصور، ونستطيع أن نراها في القول في القول "فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم العلوفة في حينها" (لو 12: 42). إن الوكيل الأمين الحكيم المقام من الله يعمل من أجل الله بفطنة وحكمة تبرهن اختيار الله له، مثل هؤلاء تتوافر فيهم الوداعة والأمانة، ملامح المسيح الجميلة التي بها يختبر الادعاء الكاذب.
وإذا وجد شخص تكلم الرب عنه بهذه الطريقة "خادمي" أو "عبدي" والمعطي تكليفاً محدداً منه، فلا بد أن الشيطان يسعى لعمل ما عمله في مريم وهرون- في إثارة الجسد لكي يقاوموا هذا الخادم مهما كانت خدمته سامية، ونحن نحتاج إلى الدرس الموجود هنا لأيامنا الحاضرة- إن الكلام ضد خدام الرب إنما هو تحد لحقوق الله وللمسيح كابن على بيته. ونرى خطورة هذا الأمر في التعبير "فسمع الرب"، "وَأَمَّا الرَّجُلُ مُوسَى فَكَانَ حَلِيمًا جِدًّا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ" (ع 3) لم يكتب موسى هذا العدد مدفوعاً برغبة في مدح نفسه بل تكلم أناس الله القديسين المسوقين من الروح القدس رأى أنه من الضروري أن يكتب هذا العدد ليوضح الروح التي أعطيت له من الله في نعمته والتي استطاع موسى أن يقابل بها كل الظروف المحيطة به، ولم يقابل موسى ما حدث من مريم وهرون بمثله بل تصرف بحلم عظيم، تصرف كالإناء المميز للروح القدس، لم يتصرف تصرف الناس، بل ترك كل شيء في يد الله، كان الأمر يخص يهوه، وكان لا بد أن يثبت يهوه حقوقه، وأن له الحق أن يتخذ لنفسه خادماً مميزاً.
أخذ يهوه الأمر بين يديه، ودعا الثلاثة إلى الخروج خارج خيمة الاجتماع، ثم أمر مريم وهرون بالخروج وخاطبهم مباشرة قائلاً "اسْمَعَا كَلاَمِي. إِنْ كَانَ مِنْكُمْ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ، فَبِالرُّؤْيَا أَسْتَعْلِنُ لَهُ. فِي الْحُلْمِ أُكَلِّمُهُ. وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَلَيْسَ هكَذَا، بَلْ هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي. فَمًا إِلَى فَمٍ وَعَيَانًا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ، لاَ بِالأَلْغَازِ. وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ. فَلِمَاذَا لاَ تَخْشَيَانِ أَنْ تَتَكَلَّمَا عَلَى عَبْدِي مُوسَى"(ع 6- 8). أعطى الرب موسى وضعاً فريداً، لم يضعه في مستوى النبي العادي، كان قريباً جداً منه، وكان الكلام ضده يعني ظهور برص الجسد- ما في الجسد من شر. وضرب الرب مريم بالبرص، أظهر أصل الشر الذي قاد إلى هذه الحالة، كانت مريم هي القائد، واعترف هرون حالاً بالخطية قائلاً "فَقَالَ هَارُونُ لِمُوسَى: «أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، لاَ تَجْعَلْ عَلَيْنَا الْخَطِيَّةَ الَّتِي حَمِقْنَا وَأَخْطَأْنَا بِهَا. فَلاَ تَكُنْ كَالْمَيْتِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ رَحِمِ أُمِّهِ قَدْ أُكِلَ نِصْفُ لَحْمِهِ" (ع 11، 12)، والاختبار الإلهي للمؤمنين بينما يكشف عمل الجسد فيهم، لكنه يستحضر أيضاً ما هو أعمق من ذلك، يستحضر عمل الله فيهم وذلك بقدرتهم بالحكم على أنفسهم وطلب الرحمة، ولقد أصبح لهرون القدرة على تقدير الشر الذي ارتكبه، وفكرة ثور الخطية الذي يقدمه الكاهن عن خطيته والوارد ذكره في لا 4: 3 "إن كان كاهن الممسوح يخطئ لإثم الشعب يقرب عن خطيته التي أخطأ ثوراً ابن بقر صحيحاً للرب ذبيحة خطية". ونرى في هذا دليلاً على إمكانية خطأ الكاهن ونزوله إلى مستوى الشعب- الأمر الذي انحدر إليه هرون ومريم. كان في فكر هرون حين نطق بهذه الأقوال ما جاء في لا 4، 14 أنه في الإمكان نقل هذه الخطية عنهم، ومع أن هرون عرف حقيقة رداءة خطيته، لكنه عرف أيضاً أنه في موت الذبيحة رفع هذه الخطية عنهم، لأن هذه الذبائح كانت رمزاً للمسيح، وإن كانت الرموز قد انتهت الآن، ولكن لنا الآن الحقيقة، وكل من يؤمن بالمسيح وعمله على الصليب تغفر خطاياه، والمؤمن مقتنع بعمل الجسد فيه يرى في التجهيز الإلهي ما يصحح به نفسه، ويرد نفسه رداً كاملاً.
كان ينبغي على مريم أن تخجل سبعة أيام تبقى فيها خارج المحلة، ثم ترد ثانية، والسبعة الأيام لكي يأخذ التدريب طريقه في نفس الشخص المخطئ ويصبح لديه الاقتناع الكامل بصحة ما عمله الله.
تأخر الشعب كله عن الارتحال لاستيعاب هذا التدريب، أظهر عمل الجسد، وأدين في اثنين لهما مركزهما في الجماعة، وكان على الكل أن يستفيد مما حدث لأن الجسد كان في الكل، وكان ينبغي تنقية الخميرة العتيقة من كل الجماعة وهو نفس ما يجب أن نعمله نحن لكي تصبح الجماعة كلها عجيناً جديداً كما هي فطير.
ومن الناحية الرمزية فإن ارتباط موسى بتلك المرأة الكوشية رمز لذلك السر العظيم- سر اتحاد الكنيسة بالمسيح رأسها، ونقرأ عن هذا السر هنا في نور خاص ناتج من تذمر مريم وهرون، وهو أن مظاهر النعمة الإلهية توجد دائماً مقاومة الذين يدعون القرابة الطبيعية، كان ما حدث رمزاً لما حدث بعد ذلك- إن امتداد النعمة للأمم كان سبباً في إضرام نار الكراهية من قلوب اليهود. ويقول الرسول بولس مخاطباً الأمم في (رو 11: 30، 31) "فإنه كما كنتم أنتم مرة لا تطيعون الله ولكن الآن رحمتم بعصيان هؤلاء هكذا هؤلاء (اليهود) أيضاً الآن لم يطيعوا لكي يرحموا هم أيضاً برحمتكم (بالرحمة التي رحمتم بها)".
قدم موسى نفسه أولاً لإسرائيل إخوته حسب الجسد، لكنهم بعدم إيمان رفضوه، وأعطى ذلك الفرصة لرحمة تلك المرأة الكوشية الأممية وكان زواجها منه في الوقت الذي كان موسى فيه مرفوضاً من إخوته، وكما غضب الرب على مريم وهرون بسبب تذمرهما على موسى غضب كذلك على اليهود وتشتت اليهود في جميع أنحاء الأرض بعد محاصرة تيطس الروماني لأورشليم وحرقها، ولكنهم سيعودون مرة أخرى بشفاعة الشخص الذي رفضوه وتكون عودتهم من مجرد الرحمة والنعمة، ويدخلون كما دخل الأمم، ولاشك أن ذلك سيؤدي في النهاية إلى نزع الكبرياء منهم، وهذا الأمر جعل بولس ينطق بتلك التسبيحة المجيدة "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء..." (رو 11: 33، 36) هم الآن خارج المحلة في حالة البرص، وبعد أن يتم تدريبهم يقبلون ثانية. ونلاحظ أن الرب في هذه الحادثة ضرب مريم فقط ولم يضرب هرون ليس فقط لأنها كانت القائدة بل أيضاً أنها رمز للأمة اليهودية. ثم أن هرون أيضاً لم يضرب لأنه رمز للمسيح رئيس الكهنة.
- عدد الزيارات: 1812