الفصل العاشر - حرب الملائكة - حرب الملائكة
حرب الملائكة
"فقال لي لا تخف يا دانيال لأنه من اليوم الأول الذي جعلت فيه قلبك للفهم ولإذلال نفسك قدام إلهك سمع كلامك وأنا أتيت لأجل كلامك. ورئيس مملكة فارس وقف مقابلي واحداً وعشرين يوماً وهوذا ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين جاء لإعانتي وأنا بقيت هناك عند ملوك فارس. وجئت لأفهمك ما يصيب شعبك في الأيام الأخيرة لأن الرؤيا إلى أيام بعد" (دانيال 10: 12 - 14).
عاد الزائر السماوي فشجع دانيال المرتعد قائلاً "لا تخف يا دانيال" وما أجمل أن يسمع دانيال اسمه مقترناً بكلمة لا تخف.. فالرب يرسل ملاكه للمؤمن المشتاق للفهم والمستعد أن يدفع الثمن ليقول له "لا تخف". ثم أكد الزائر السماوي أنه من اليوم الأول الذي فيه جعل دانيال قلبه للفهم، وأذل نفسه بالامتناع عن الطعام الشهي واللحم والخمر، سمع كلامه. ويقول له "وأنا أتيت لأجل كلامك".. فالصلاة التي يرفعها المؤمن المكرس تسمع فوراً وتسجل في سجلات السماء...
ويقيناً أنه كان يلذ لنا أن نعرف الكلام الذي نطق به دانيال في صلاته خلال الثلاث أسابيع أيام... وفي ظننا أنه طلب من الرب أن يكشف له عن خطته لمستقبل شعبه فقد كان دانيال يحمل هذا الشعب على قلبه في كل صلاة. وأين لنا برجال كدانيال، وكنحميا يبكون وينوحون ويصومون للتدهور الذي يرونه حادثاً في كل الدوائر في حياة شعب الله؟ (اقرأ نحميا 1: 1 - 11)
لم يحصل دانيال على استجابة صلاته من اليوم الأول الذي فيه جعل قلبه للفهم، وكان السر وراء تأخير الاستجابة هو حرب الملائكة في الأجواء السماوية.
ولأول مرة في العهد القديم نرى صورة للحرب الدائرة في الأجواء العليا، ونرى كيف تؤثر هذه الحرب فينا نحن المؤمنين، بل في سائر سكان الأرض.
فالزائر السماوي يقول لدانيال "ورئيس مملكة فارس وقف مقابلي واحداً وعشرين يوماً".
لقد تعطل مجيء هذا الزائر السماوي واحداً وعشرين يوماً، وهي المدة التي قضاها دانيال في إذالال نفسه، بسبب "رئيس مملكة فارس".. والمنظر هنا يرينا حرباً روحية في السماويات.. فرئيس مملكة فارس هنا ليس هو ملك فارس الأرضي، لأن ملوك فارس الأرضيين يسميهم الوحي "ملوك فارس" (دانيال 10: 13). ولكن هذا الرئيس المقاوم هو الملاك المسيطر على مملكة فارس. ونحن نقرأ عن الملاك ميخائيل "وفي ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك" (دانيال 12: 1) فإذا كان للشعب القديم رئيساً هو "ميخائيل" فيكون من المنطقي أن يكون للشعب الفارسي رئيساً من الملائكة الساقطين.
ونقرأ في سفر أشعياء أن الرب سيحاسب هؤلاء الملائكة "ويكون في ذلك اليوم أن الرب يطالب جند العلاء في العلاء وملوك الأرض على الأرض" (أشعياء 24: 21).
ونفس المعنى نجده في كلمات إرميا النبي "قال رب الجنود.. هأنذا أعاقب أمون نو وفرعون ومصر وآلهتها وملوكها فرعون والمتوكلين عليه" (إرميا 46: 25).
فرئيس مملكة فارس هو الملاك الساقط المسيطر على مملكة فارس، وهو يمثل القوى الروحية الفائقة التي وراء الآلهة الوثنية التي تعبدها مملكة فارس. فوراء أصنام هذه الأمم قوى الشياطين كما يقول بولس الرسول "بل إن ما يذبحه الأمم فإنما يذبحونه للشياطين لا لله" (1 كورنثوس 10: 20).
والمنظر الذي تكشف عنه رؤيا دانيال يرينا مملكة إبليس ونظامها الدقيق الموضوع للسيطرة على العالم الشرير. ويصف بولس الرسول هذا التنظيم بكلماته "فإن مصارعتنا ليست من لحم ودم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أفسس 6: 12).
رئيس مملكة فارس وقف ضد الزائر السماوي واحداً وعشرين يوماً.. وهنا نجد تفسيراً لتأخير استجابة بعض صلواتنا، ونرى كذلك القوى الروحية الخفية المؤثرة في الأحداث العالمية.
فمن غير هذه القوى الروحية المسيطرة على العالم يتسبب في التوتر العالمي، والفوضى التي عمت الشعوب، والتغييرات التي حدثت وتحدث في وقت قصير ضد رغبة الناس؟!؟
ثم جاء ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين ليعين الزائر السماوي في مهمته، وانتصر الزائر السماوي بمعونة ميخائيل وهو هنا يقول "أبقيت هناك عند ملوك فارس".
ومن عبارة "وهوذا ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين" نفهم أن الملائكة القديسين لهم رتب مختلفة، ولهم نظامهم الأنيق، فهناك الملائكة الذين قيل عنهم "أعظم قوة وقدرة" (2 بطرس 2: 11) ويبدو أن قوتهم وقدرتهم بسبب إمكانيتهم المثول في حضرة الله بغير قيود. وهناك الملائكة الذين يوجدون في الاجتماعات المسيحية (1 كورنثوس 11: 10) و(رؤيا 2 و 3) وهم يوجدون فيها لمراقبة العابدين وحراستهم.
إن العالم غير المنظور يسيطر على العالم المنظور ويحركه لإتمام خطط الله فيه (1 ملوك 22: 19 - 23).
أعلن الزائر السماوي لدانيال عن سبب مجيئه "وجئت لأفهمك ما يصيب شعبك في الأيام الأخيرة لأن الرؤيا إلى أيام بعد" (دانيال 10: 14). وتعبير الأيام الأخيرة في هذا النص مأخوذ من تكوين 49: 1 والأيام الأخيرة هنا تشير إلى وقت مجيء المسيا مع تضمنها للأحداث التي تسبق هذا المجيء.
"فلما تكلم معي بمثل هذا الكلام جعلت وجهي إلى الأرض وصمت" (دانيال 10: 15).
لقد كان الموقف مرهباً، إزاءه لم يستطع دانيال أن يرفع عينيه ووجهه إلى الزائر السماوي، ووقف صامتاً من الدهشة.
"وهوذا كشبه بني آدم لمس شفتي ففتحت فمي وتكلمت وقلت للواقف أمامي يا سيدي بالرؤيا انقلبت على أوجاعي فما ضبطت قوة. فكيف يستطيع عبد سيدي هذا أن يتكلم مع سيدي هذا وأنا فحالا لم تثبت في قوة ولم تبق في نسمة. فعاد ولمسني كمنظر إنسان وقواني" (دانيال 10: 16 - 18).
من هو الذي جاء كشبه ابن آدم ولمس شفتي دانيال، وأعطاه القدرة على الكلام بعد أن أخرسه الخوف، وقد شرح دانيال لهذا الزائر إحساسه وأوضح له حالته. ثم عاد دانيال إلى حالة ضعفه الشديد وهو أمر لا غرابة فيه من رجل زاد على الثمانين من عمره. ولكن هذا الزائر الملائكي عاد ولمسه وقواه. ونحن نقرأ عن الرب يسوع عندما كان هنا على أرضنا بالجسد يصارع في الصلاة أنه "ظهر له ملاك من السماء يقويه" (لوقا 22: 43) "وقال لا تخف أيها الرجل المحبوب سلام لك. تشدد تقو. ولما كلمني تقويت وقلت ليتكلم سيدي لأنك قويتني" (دانيال 10: 19).
لقد شجع هذا الزائر الملائكي دانيال بكلماته "لا تخف أيها الرجل المحبوب" وقد أكدت كلماته لدانيال مكانته عند الرب وأزالت خوفه، سيما أنه قال لدانيال "تشدد تقو" والتكرار للتأكيد. وقد قال دانيال "ولما كلمني تقويت" استعاد دانيال هدوءه العقلي والنفسي وأصبح مستعداً أن يسمع ما سيقوله هذا الزائر السماوي.
ومخاطبة دانيال لهذا الزائر الملائكي بقوله "سيدي" كانت هي الأسلوب الذي يستخدمه الشخص العبراني في حديثه لمن هو أعلى منه.
"فقال هل عرفت لماذا جئت إليك. فالآن ارجع وأحارب رئيس فارس. فإذا خرجت هوذا رئيس اليونان يأتي" (دانيال 10: 20).
السؤال الذي قدمه المتحدث لدانيال لم يقدمه منتظراً إجابة منه، وإنما قدمه ليسترعي انتباهه لما سيقوله له. وقد استطرد يقول "فالآن ارجع وأحارب رئيس فارس" ويبدو لي أن المعنى هنا "والآن أعود لمتابعة الحرب مع رئيس فارس حتى احتفظ بالنصرة" ولعل هذا يشير إلى الصعوبات والعقبات التي كان سيلاقيها الشعب القديم تحت حكم فارس في إعادة بنائهم أسوار المدينة المقدسة والهيكل ومعونة الرب لهم في هذه الظروف.
ويتابع الزائر السماوي كلماته لدانيال فيقول "فإذا خرجت هوذا رئيس اليونان يأتي" أي إذا خرجت من حربي مع رئيس فارس ستبدأ حرب أخرى مع رئيس اليونان.
هذه هي حرب الملائكة، وهي تتصل بنا نحن سكان الأرض دون أن ندري، وستستمر هذه الحرب إلى أن يأتي ربنا يسوع، ونحن نقرأ عن حرب الملاك العظيم ميخائيل مع إبليس في هذه الكلمات "وحدثت حرب في السماء. ميخائيل وملائكته حاربوا التنين وحارب التنين العظيم الحية القديمة المدعو إبليس والشيطان الذي يضل العالم كله طرح إلى الأرض وطرحت معه ملائكته" (رؤيا 12: 7 - 9) لقد طرد ميخائيل إبليس من السماء.
ويتابع الزائر السماوي حديثه لدانيال فيقول "ولكني أخبرك بالمرسوم في كتاب الحق. ولا أحد يتمسك معي على هؤلاء إلا ميخائيل رئيسكم" (دانيال 10: 21).
هذه الكلمات تؤكد لنا أن هناك خطة إلهية مرسومة، وأن المستقبل قد قرره الله نفسه في كتابه "كتاب الحق" وما أجمل أن نعرف أن الكتابة والقراءة ليست اختراعاً إنسانياً لكنها قوة تربط البشر بالملائكة والله. تربطهم بالله لأنه بإصبعه كتب الكلمات العشر على لوحي الحجر في سيناء. وتربطهم بالملائكة لأنه من الواضح أن الملائكة قد قرأوا كلمة الله، وقد استشهد إبليس حين جرب يسوع في البرية بنصوص كتابية.
وكتاب الحق المشار إليه هنا، ليس هو الكتاب المقدس أو سفر دانيال بالذات وإنما هو الكتابة التي رسمها الله وقررها وسجلها عنده، هو كتاب الخطة الإلهية المرسومة.
والمتحدث يقول لدانيال لن يقف معي أحد ضد رئيس فارس واليونان إلا ميخائيل رئيسكم، وقد سمي ميخائيل بهذا الاسم لأنه الرئيس المنوط به أمور الشعب القديم. "ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك" (دانيال 12: 1).
ومن حديث الزائر السماوي عرف دانيال مدى الضغوط والآلام التي سيتعرض لها شعبه تحت الحكم الفارسي واليوناني.
إن سيادة الله المطلقة على أحداث التاريخ، وعلى الأمم والشعوب والأفراد تبدو واضحة خلال إصحاحات سفر دانيال.
- عدد الزيارات: 17951