Skip to main content

الفصل الأول - دانيال كاتب السفر

تحتم علينا دراسة أي سفر من أسفار الكتاب المقدس أن نتعرف على شخصية كاتبه والخلفية التاريخية التي أحاطت بكتابته. ومع أننا نذكر جيداً كلمات بولس الرسول القائلة "كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر. لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح" (2تيموثاوس 3: 16- 17)وكلمات بطرس الرسول القائلة "لأنه لم تأتي نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2 بطرس1: 21) إلا أننا نعرف أن الأداة البشرية التي ساقها الروح القدس لكتابة كلمات النبوة لها مكانتها.

وعلى هذا فلا بد لنا أن نتعرف على شخصية دانيال النبي، وأن نعرف شيئاً عن الخلفية التاريخية لسفره.


الخلفية التاريخية لسفر دانيال

وسنبدأ أولاً بالحديث عن الخلفية التاريخية لسفر دانيال، ونجد هذه الخلفية في سفر أخبار الأيام الثانية في الكلمات "كان يهو ياقيم ابن خمس وعشرون سنة حين ملك إحدى عشر سنة في أورشليم وعمل الشر في عيني الرب إلهه. عليه صعد نبوخذ نصر ملك بابل وقيده بسلاسل نحاس ليذهب به إلى بابل. وأتى نبوخذ نصر ببعض آنية بيت الرب إلى بابل وجعلها في هيكله في بابل" (2 أخبار 36: 5- 7) وهذه الكلمات تتفق تماماً مع بداية الإصحاح الأول في سفر دانيال.

"في السنة الثالثة من ملك يهو ياقيم ملك يهوذا ذهب نبوخذ نصر ملك بابل إلى أورشليم وحاصرها. وسلم الرب بيده يهو ياقيم ملك يهوذا مع بعض آنية بيت الله فجاء بها إلى أرض شنعار إلى بيت إلهه وأدخل الآنية إلى خزانة بيت إلهه" (دانيال 1: 1- 2)، [اقرأ أيضاً 2 ملوك 23: 36- 37].

وقد استخدم دانيال الأسلوب البابلي في حساب التاريخ فقال "في السنة الثالثة من ملك يهو ياقيم" وقد كان البابليون يحسبون السنة الأولى لحكم الملك بعد سنة توليه العرش، بينما استخدم ارميا الأسلوب العبري فقال "في السنة الرابعة ليهو ياقيم" (ارميا46: 2) وكان العبرانيون يحسبون سنوات حكم الملك من أول يوم يرتقي فيه العرش، وهكذا ينتفى وجود أي تناقص في كلمة الله. في السنة الثالثة لملك يهو ياقيم بالحساب البابلي حاصر نبوخذ نصر أورشليم، وصار يهو ياقيم عبداً لنبوخذ نصر الذي تركه على العرش بوعد الولاء له (2ملوك 24: 1)وقد استمر يهو ياقيم خاضعاً لنبوخذ نصر ثلاث سنين ثم عاد فتمرد عليه، الأمر الذي دفع نبوخذ نصر إلى استخدام غزاة الشعوب الخاضعة له لغزو يهوذا، وخلال هذا الغزو قبض على ياقيم وقيده بسلاسل نحاس ليذهب به إلى بابل، ويبدو أن يهو ياقيم استمر مقيداً حتى انتهى حكمه بموته في أورشليم (2ملوك 24: 6).

خلال هذا الغزو البابلي الأول أُخذ دانيال إلى بابل، وكان هذا حوالي سنة 605 قبل الميلاد في السنة الثالثة لنلك يهو ياقيم ملك يهوذا.

في ذلك الوقت لم يؤخذ إلى بابل إلا عدداً قليلاً، وكان الذين أُخذوا في غالبيتهم من الشبان من نسل الملك ومن الشرفاء كما نقرأ في الكلمات "وأمر الملك أشفنز رئيس خصيانه بأن يحضر من بني إسرائيل ومن نسل الملك الشرفاء فتيان لا عيب فيهم حسان المنظر حاذقين في كل حكمة وعارفين معرفة وذوي فهو بالعلم والذين فيهم قوة على الوقوف في قصر الملك" (دانيال 1: 3- 4).

من هؤلاء الشبان كان دانيال كاتب هذا السفر.

وتعال معي الآن لنتعرف على هذه الشخصية العظيمة.


دانيال من نسل الملك حزقيا

كان دانيال كما كتبه السفر من نسل الملك، ويغلب أنه كان من نسل حزقيا الملك، وقد بنينا هذا الاعتقاد على ما جاء في سفر أشعياء، وهناك نقرأ أن مرودخ بلادان بن بلادان ملك بابل أرسل رسائل وهدية إلى حزقيا الملك لأنه سمع أنه مرض وصح، وقد فرح حزقيا ملك بابل وأراهم كل ما وجد بيته وخزائنه، وحينئذ جاء أشعياء النبي إلى الملك حزقيا وقال له: من أين جاء هؤلاء الرجال ؟ فقال حزقيا: جاؤا من بابل. وسأل أشعياء حزقيا: ماذا رأوا في بيتك؟ فقال حزقيا رأوا كل ما في بيتي. ليس في خزائني شيء لم أرهم إياه.

"فقال أشعياء لحزقيا اسمع قول رب الجنود. هوذا تأتي أيام يحمل فيها كل ما في بيتك وما خزنه آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل. لا يترك شيء يقول الرب. ومن بنيك الذين يخرجون منك الذي تلدهم يأخذون فيكونون خصياناً في قصر ملك بابل" (أشعياء 29: 5- 7).

من هذا يبدو واضحاً أن دانيال في الغالب كان من نسل الملك حزقيا.


دانيال شاب غض حسن المنظر وحكيم

من النص الوارد في الإصحاح الأول من سفر دانيال يمكننا القول بأن دانيال كان فتى لا عيب فيه، وقد اتفق علماء الكتاب المقدس على أن عمره حين أخذ إلى بابل لم يزد عن سن الخامسة عشرة، كان دانيال من الناحية الجسمية حسن المنظر، وكان من الناحية العقلية حاذقاً قي كل حكمة، وعارفاً معرفة، وذا فهم بالعلم. وبغير شك أنه كان إلى جانب هذا كله قوي الشخصية قادراً على الوقوف في قصر الملك نبوخذ نصر أعظم ملوك بابل على الإطلاق، بل يمكننا القول بأنه أعظم ملك ظهر على مسرح التاريخ العالمي. ومع دانيال نجد أصحابه حننيا وميشائيل وعزريا. (دانيال1: 3- 7).


دانيال في فترة التعليم والتدريب

كان غرض الملك نصر من إحضار هؤلاء الشبان الممتازين إلى بابل أن يستخدمهم في خدمة البلاط الملكي. وكان لابد لهؤلاء الشبان أن يمروا في فترة تدريب وتعليم لمدة ثلاث سنين، وكان الهدف أن يتعلموا كتابة الكلدانيين ولغتهم ليؤهلوا لخدمة صاحب الجلالة.

ويبدو أن رئيس الخصيان أراد أن يجعل من دانيال وأصحابه شباناً يخلصون كل الإخلاص للبلاط البابلي وينسون تماماً أصلهم العبراني "فجعل لهم رئيس الخصيان أسماء فسمى دانيال بلطشاصر وحننيا شدرخ وميشائيل ميشخ وعزريا عبدنغو" (دانيال 1: 7). وهكذا غيَّر رئيس الخصيان أسماءهم العبرية وأعطاهم أسماء وثنية.

فسمى "دانيال"، ومعنى اسمه "الله قاضي" "بلطشاصر" ومعناه "أمير بيل أو ليحفظ الإله بيل حياته"

وسمى "حننيا" ومعنى اسمه العبري "المعطى من الله" "شدرخ" ومعناه "المستنير بإله الشمس".

وسمى "ميشائيل" ومعنى اسمه العبري "من مثل الله؟" باسم "ميشخ" ومعناه "من مثل فينوس؟".

وسمى "عزريا" ومعنى اسمه العبري "من يعنيه الله؟"  "عبدنغو" ومعناه "خادم الإله نغونبو كاتب الآلهة".

ولقد كان القصد من إعطائهم هذه الأسماء الجديدة، هو إذابة شخصيات هؤلاء الفتيان في المجتمع البابلي الوثني، وغسل أدمغتهم من كل آثار إيمانهم بالإله الحقيقي الحي. لكن رئيس الخصيان فشل تماماً في الوصول لإلى غرضه فمع أنه غير أسمائهم إلا أنه لم يستطيع أن يغير شخصياتهم، أو إيمانهم بإلههم الحي، أو ثقتهم التامة في صدق كلمته.. إن الإيمان الحقيقي لا يذوب مهما كانت شدة النار تحت بوتقة الإذابة.


دانيال وأزمة الطهارة الشخصية

عندما جاء دانيال وأصحابه للتدريب والتعليم في قصر الملك البابلي "عين لهم الملك وظيفة كل يوم بيومه من أطايب الملك ومن خمر مشروبه لتربيتهم ثلاث سنين وعند نهايتها يقفون أمام الملك" (دانيال 1: 5).

كانت هذه أولى الأزمات التي مرت بدانيال وأصحابه، ويمكن أن نسميها "أزمة امتحان الطهارة الشخصية" أو "أزمة ضغوط البيئة الاجتماعية، أ, المدرسية، أو الجامعية".

ها نحن نرى دانيال الفتى الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره، صاحب الشخصية القوية، وقد أصبح مهاجراً رغم أنفه، أخذ بالقوة العسكرية من أورشليم حيث الترنيم، والتسبيح، وعبادة الإله الحقيقي الحي، إلى بابل بلد النجاسات والأصنام والسحر. وها هو يرى نفسه في القصر الملكي البابلي يعيش تحت سلطة ملك أوتوقراطى "أيا شاء قتل وأيا شاء استحيا وأيا شاء رفع وأيا شاء وضع" (دانيال 5: 19) ويرى أن هذا الملك قد عين له ولأصحابه الطعام الذي يأكله من أطايب الملك وخمر مشروبه.

ويرى دانيال في هذا الطعام الملكي الشهي نجاسةً وشراً، ذلك لأن هذا الطعام الملكي كان يقدم أولا للآلهة الوثنية، آلهة بابل، وكان الأكل منه يعني الولاء لهذه الآلهة، وهو أمر يتناقض تماماً مع تعليم كلمة الله التي آمن بها دانيال.

"أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي" (خروج 20: 2- 3). لقد أدرك دانيال الحقيقة التي سجلها بعده بأجيال طويلة بولس الرسول في كلماته "لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس الشياطين. لا تقدرون أن تشتركون في مائدة الرب وفي مائدة الشياطين" (1كورنثوس 10: 21).

فكيف يتصرف دانيال في هذه الأزمة؟ كيف يقدر أن يجتاز الامتحان العسير؟

"أما دانيال فجعل في قلبه أنه لا يتنجس بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه" (دانيال 1: 8).

إن الحياة الداخلية هي قوة الحياة العملية الخارجية، فإذا لم يعزم القلب لا يمكن أن نمارس المبدأ في الحياة الواقعية. ودانيال عرف أن أطايب الملك وخمر مشروبه نجاسة، وقرر في قلبه أن لا يتنجس بهذه الأطايب وهذه الخمر.


دانيال مع الأقلية الأمينة

كان من أسباب قوة دانيال، ارتباطه بمجموعة صغيرة من الشبان الأمناء وهم شدرخ وميشخ وعبدنغو. ويقيناً أن الله قد أبقى لنفسه بقية أمينة في كل وسط شرير، كما قال لإيليا النبي "وقد أبقيت في إسرائيل سبعة آلاف كل الركب التي لم تجث للبعل وكل فم لم يقبله" (1 ملوك19: 18) وأنا أنصح كل مؤمن يريد أن يعيش الحياة الطاهرة وسط العالم الشرير أن يبحث عن هذه الأقلية الأمينة ويرتبط بها، وبهذا لا يحس بأنه وحده في مجتمع شرير.

*كان السر الأول وراء نصرة دانيال هو عزم القلب، وعزم القلب على الحياة الطاهرة يعطي للشباب الشجاعة الأدبية والروحية لمواجهة النجاسات المنتشرة في عالم اليوم.

وهكذا تقدم دانيال "وطلب من رئيس الخصيان أن لا يتنجس" (دانيال1: 8).

*وكان السر الثاني وراء نصرته هو ارتباطه بمجموعة من الشبان الأمناء مثله.

*وكان السر الثالث والفعال هو إيمانه الكامل في قدرة الله، فالإيمان هو العامل الفعال وراء كل نصرة في الحياة.

وتقدم دانيال إلى رئيس السقاة بتواضع شديد "فقال دانيال لرئيس السقاة الذي ولاه رئيس الخصيان على دانيال وحننيا وميشائيل وعزريا. جرب عبيدك عشرة أيام فليعطونا القطانى لنأكل وماء لنشرب. ولينظروا إلى مناظرنا أمامك وإلى مناظر الفتيان الذين يأكلون من أطايب الملك ثم أصنع بعبيدك كما ترى" (دانيال 1: 11- 13).

وبهذه الروح المتواضعة " سمع لهم هذا الكلام وجربهم عشرة أيام" (دانيال 1: 14). لكن وراء هذا القبول نجد عمل الله في قلب رئيس الخصيان "وأعطى الله دانيال نعمة ورحمة عند رئيس الخصيان" (دانيال 1: 9)وبغير هذه النعمة وهذه الرحمة ما كان ممكناً أن يسمع رئيس السقاة لاقتراح دانيال وأصحابه ويعرض نفسه لحكم الموت. إن الله يسيطر بقوته ليس فقط على قلوب الرؤساء من الدرجة الثانية بل على قلوب الملوك "قلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يميله" (أمثال 21: 1).

عندما قُدِّم يسوع للمحاكمة أمام بيلاطس الوالي الروماني قال له بيلاطس "ألست تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أطلق:" (يوحنا 19: 10) "أجاب يسوع لم يكن لك على سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق" (يوحنا 19: 11).

فليت هذا الفكر يمتلكنا كمؤمنين لنعرف أن إلهنا هو سيد الأرض كلها.

أكل الشبان الأربعة القطانى، ويراد بالقطانى عند علماء العرب جميع الحبوب التي تطبخ كالعدس والفول واللوبيا والحمص، واستخدم الله بقدرته هذه الحبوب البسيطة بقوة سرت في أجسادهم وجعلت مناظر هؤلاء الشبان الذين قرروا الاحتفاظ بطهارتهم أفضل من مناظر الشبان الآكلين من أطايب الملك والشاربين من خمره.

"وعند نهاية العشرة أيام ظهرت مناظرهم أحسن وأسمن لحماً من كل الفتيان الآكلين من أطايب الملك. فكان رئيس السقاة يرفع أطايبهم وخمر ومشروبهم ويعطيهم قطانى" (دانيال1: 15- 16) وهكذا أرانا الله أن لقمة يابسة نأكلها ونحن في سلام معه خير من ذبائح كثيرة نأكلها في خصام "لقمة يابسة ومعها سلامة خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام" (أمثال 17: 1).


دانيال الفهيم بالرؤى والأحلام

كان دانيال مع طلعته البهية، وطهارته العملية فهيماً بالرؤى والأحلام، وكان هذا الفهم عطية من الله "أما هؤلاء الفتيان الأربعة فأعطاهم الله معرفة وعقلاً في كل كتابة وحكمة وكان دانيال فهيماً بكل الرؤى والأحلام" (دانيال 1: 17).

وقد نجح دانيال وأصحابه في الامتحان الذي أجراه لهم الملك نبوخذ نصر، واحتلوا مكانهم الرفيع بين حكماء بابل "وعند نهاية الأيام التي قال الملك أن يدخلوها بعدها أتى بهم رئيس الخصيان إلى أمام نبوخذ نصر. وكلمهم الملك فلم يوجد بينهم كلهم مثل دانيال وحننيا وميشائيل وعزريا. فوقفوا أمام الملك. وفي كل أمر حكمة فهم الذي سألهم عنه الملك وجدهم عشرة أضعاف فوق كل المجوس والسحرة الذين في مملكته" (دانيال 1: 18- 20).


دانيال الشاب المصلي

تميز دانيال في كل حياته بأنه كان رجل الصلاة، فعندما أعطاه الملك وقتاً ليخبره بحلمه وتعبيره نقرأ عنه الكلمات:

"حينئذ مضى دانيال إلى بيته وأعلم حننيا وميشائيل وعزريا أصحابه بالأمر. ليطلبوا المراحم من قبل إله السماوات من جهة هذا السر لكي لا يهلك دانيال وأصحابه مع سائر حكماء بابل" (دانيال 2: 17)

لقد عرف دانيال أن الطريق السلطاني للخروج من الأزمات هو "الصلاة". وهذا هو الطريق الذي سارت فيه حنة فأخذت بالصلاة سؤال قلبها وأعطاها الله صموئيل "1 صموئيل 1: 9- 20). واختبر داود قوة الصلاة وانتصر على العمالقة. (1 صموئيل 30).

ولقد لجأ دانيال إلى الصلاة الجماعية لمعرفة السر الذي طلبه الملك، تماماً كما لجأت الكنيسة الأولى إلى الصلاة الجماعية أو بتعبير أدق إلى الصلاة المتحدة فأنقذ الله بطرس من يد الملك هيرودس. (أعمال 12: 1- 17).

وصلاة المؤمنين المتحدين في قلوبهم وغرضهم تقدر كثيراً في فعلهم. ألم يقل لنا ربنا المبارك "وأقول لكم أيضاً إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهم من قبل أبي الذي في السماوات" (متى 18: 19) لقد كان سر قوة المؤمنين الأول أنهم "رفعوا بنفس واحدة صوتاً إلى الله" (أعمال 4: 24) وفي الإصحاح التاسع من سفر دانيال نقرأ صلاة دانيال الطويلة التي سنتحدث عنها بالتفصيل في مكانها.


دانيال الذي لم يحب حياته حتى الموت

يصف بولس الرسول الأشرار فيقول عنهم "اتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق الذي هو مبارك إلى الأبد آمين" (رومية 1: 25).

أما دانيال فكان أميناً لإلهه، ولم يعط ولاءه التام لأحد غيره. فلما أصدر الملك داريوس أمره الملكي "بأن كل من يطلب طلبة حتى ثلاثين يوماً من إله أو إنسان إلا منه.. يطرح في جب الأسود" (دانيال 6: 7).

يسجل الوحي المقدس الكلمات "فلما علم دانيال بإمضاء الكتابة ذهب إلى بيته وكواه مفتوحة في عليته نحو أورشليم فجثا على ركبتيه ثلاث مرات في اليوم وصلى وحمد قدام إلهه كما كان يفعل قبل ذلك" (دانيال 6: 10).

كانت الصلاة عادة يومية في حياة دانيال. والذي اعتاد أن يلجأ إلى الله في وقت صفاء السماء سيجده قريباً منه عندما تتجمع السحب الداكنة.

لم يجد دانيال سبباً لتغيير عادته في الصلاة والحمد قدام إلهه رغم صدور أمر الملك، ذلك لأنه آمن بالمبدأ الكتابي الجليل "ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس" (أعمال 5: 29).

إن على المؤمن أن يطيع السلطات الحاكمة في كل القوانين المدنية، إلا تلك التي تتعارض مع تعاليم الله. فطاعة الله فوق طاعة الملك.

لكن دانيال لم يصل إلى هذه الدرجة من الأمانة في الولاء لإلهه إلا لأنه لم يحب حياته حتى الموت.

يصف يوحنا الرسول الغالبين بكلماته " وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت" (رؤيا 12: 11).

ويقيناً أن دانيال كان من الغالبين. وبسبب أمانته لإلهه طرح في جب الأسود.


دانيال رجل الكتاب المقدس

الصلاة ودراسة الكتاب المقدس بدقة وجدية عنصران هامان في بناء الشخصية المسيحية القوية التي تقاوم تيارات العالم الشرير، وتثبت أمام ضغوط الحياة والأزمات. ولقد كان دانيال رجل الكتاب المقدس تماماً كما كان رجل الصلاة. ولم تكن دراسة دانيال للأسفار المقدسة دراسة عابرة، بل دراسة واعية فاهمة، وكان اهتمام دانيال بالنبوات التي أهمل دراستها الكثيرون اهتماماً كبيراً.

وتعال معي لنرى مدى اهتمام دانيال بنبوات الكتاب المقدس.

"في السنة الأولى لداريوس بن أحشويرش أنا دانيال فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى ارميا النبي لكمالة سبعين سنة على خراب أورشليم" (دانيال 9: 1- 2).

لقد درس دانيال كلمة النبوة بفهم وعرف متى كملت السبعين سنة التي تنبأ عنها ارميا، ووجه قلبه إلى الله.

ويقيناً أن المؤمنين الغالبين لهم ذات الاهتمام بكلمة النبوة، إن النبوات تشغل أكثر من 60% من الكتاب المقدس وإهمال دراسة النبوات يعني إهمالنا لأكثر من 60% من محتويات الكتاب الكريم، وهذا عار عظيم.

لقد كتب بولس للقديسين في رومية قائلاً "هذا وإنكم عارفون الوقت" (رومية 13: 11). وكتب للقديسين في تسالونيكى يقول "وأما الأزمنة والأوقات فلا حاجة لكم أيها الأخوة أن أكتب إليكم عنها لأنكم أنتم تعلمون بالتحقيق أن يوم الرب كلص في الليل هكذا يجيء. لأنه حينما يقولون سلام وأمان حينئذ يفاجئهم هلال بغتةً كالمخاض للحبلى فلا ينجون. وأما أنتم أيها الأخوة فلستم في ظلمة حتى يدرككم ذلك اليوم كلص" (1 تسالونيكى 5: 1- 4).

فليتك تتبع مثال دانيال، ومثال القديسين الأوليين فتهتم بدراسة النبوات.


دانيال الصديق الوفي

تجرد دانيال عن الأنانية والمصلحة الشخصية في صداقته، وقد ارتبط قلبياً بأصحابه حننيا وميشائيل وعزريا. ولجأ إليهم ليصلوا معه. ولما كشف له الله حلم نبوخذ نصر الملك وتعبيره "حينئذ عظم الملك دانيال وأعطاه عطايا كثيرة وسلطة على كل ولاية بابل وجعله رئيس الشحن على جميع حكماء بابل" (دانيال 2: 48).

وهنا يظهر إخلاص دانيال لأصحابه، ووفائه الكامل لهؤلاء الأصحاب "فطلب دانيال من الملك فولى شدرخ وميشخ وعبدنغو على أعمال ولاية بابل" (دانيال 2: 49).

ويا لها من صورة رائعة للصداقة الوفية (أمثال 18: 24).

وليتنا نكون أصدقاء أوفياء من هذا الطراز.


دانيال الأمين في خدمته المدنية

كان من بين الصفات التي امتاز بها دانيال الأمانة التامة في خدمته المدنية في القصر الملكي. فرغم أنه أخذ بالرغم منه من بلده، لكنه عاش أميناً في خدمته لكل الملوك الذين ملكوا خلال مدة حياته، وكانت أمانته من الوضوح حتى شهد بها أعداؤه، والفضل ما شهدت به الأعداء.

"ثم إن الوزراء والمرازبة كانوا يطلبون علة يجدونها على دانيال من جهة المملكة فلم يقدروا أن يجدوا علة ولا ذنباً لأنه كان أميناً ولم يجد فيه خطأ ولا ذنب" (دانيال 6: 4).

وبسبب علمه وحكمته وأمانته شغل دانيال أعظم المراكز في الإمبراطورية البابلية. ففي خلال حكم نبوخذ نصر "عظّم الملك دانيال وأعطاه عطايا كثيرة وسلطه على كل ولاية بابل وجعله رئيس الشحن على جميع حكماء بابل" (دانيال 2: 48).

وفي خلال حكم بيلشاصر أصبح دانيال الشخص الثالث في المملكة "حينئذ أمر بيلشاصر أن يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من الذهب في عنقه وينادوا عليه أنع يكون متسلطاً ثالثاً في المملكة" (دانيال 5: 29).

وفي خلال حكم داريوس المادى كان دانيال أحد الثلاثة الوزراء الكبار المسؤلين عن مالية الدولة "حسن عند داريوس أن يولي على المملكة مئة وعشرين مرزباناً [المرزبان كان بمقام أعلى من الوالي] (دانيال 3:3) يكونون على المملكة كلها. وعلى هؤلاء ثلاثة وزراء أحدهم دانيال لتؤدى المرازبة إليهم الحساب فلا تصيب الملك خسارة. ففاق دانيال هذا على الوزراء والمرازبة لأن فيه روحاً فاضلة وفكر الملك بأن يوليه على المملكة كلها" (دانيال 6: 1- 3).


دانيال الرجل المحبوب

اثنان في العهد القديم أعطاهم الله ألقاباً عظمى، الأول إبراهيم الذي قال عنه "إبراهيم خليلي" (اشعيا 41: 8) والثاني دانيال الذي أسماه الله "الرجل المحبوب" (دانيال 10: 11).

لقد عاش دانيال قريباً جداً من قلب الرب الذي أحبه، وتذكر حياته البارة في سفر حزقيال، إذ يضعه الرب في صف نوح وأيوب فيقول "إن أخطأت إلى أرض وخانت خيانة فمددت يدي عليها.. وأرسلت عليها الجوع وقطعت منها الإنسان والحيوان. وكان فيها هؤلاء الرجال الثلاثة نوح ودانيال وأيوب فإنهم إنما يخلصون أنفسهم ببرهم يقول السيد الرب" (حزقيال 14: 13- 14- 20).

هذا هو دانيال النبي كاتب هذا السفر النبوي الجليل، الذي شهد حزقيال عن بره، وشهد الرب يسوع عن صدق نبوته.. ليتنا نتمثل بإيمانه، وطهارة حياته، ووفائه لأصدقائه، ودراسته الدقيقة للكتاب المقدس ونبواته، وأمانته في خدمته المدنية.. وأن نكون مهتمين بحياة الصلاة مثلما إهتم بها دانيال، وأن نفهم نبوات الكلمة المقدسة كما فهم.

" اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله. انظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثلوا بإيمانهم" (عبرانيين 13: 7).

  • عدد الزيارات: 45840