Skip to main content

الفَصلُ الثَّالِث "خُصُوماتٌ بينَ التَّلاميذ"

(رُومية 14: 1- 15: 13)

أن نحيا في الأعالي معَ القِدِّيسينَ الذين أحبَبنَاهُم هُوَ أمرٌ مَجيد. ولكن أن نحيا في هذا العالَمِ الدُّنيَوي معَ الذين نعرِفُهُم، فهذا أمرٌ بَغيض!

لقد خدَمتُ كراعي كنيسة لخَمسَةِ عُقُودٍ منَ السِّنين. وكُلُّ من إختَبَرَ مسؤُوليَّةَ العِنايَةِ الرَّاعَويَّة بِِشَعبِ الرَّب لمثلِ هذه المُدَّة الطَّويلة، يفهَمُ مِقدارَ صُعُوبَةِ العَيشِ هُنا في هذا العالم معَ القِدِّيسينَ الذين نعرِفُهُم. هكذا كانت الحالُ دائماً.

عندَما ندرُسُ رَسائِلَ بُولُس، يتَّضِحُ لنا أنَّ الكنائِسَ التي أسَّسَها بُولُس الرَّسُول لم تَكُن للأسَف كنائِسَ كامِلَة. وتُوضِحُ رِسالتا بُولُس إلى أهلِ كُورنثُوس هذا الواقِع بشكلٍ جَلِيّ. يُظهِرُ الإصحاحُ الرَّابِع عَشَر من هذه الرِّسالَة إلى أهل رُومية أنَّ التَّلاميذَ في رُومية لم يَكُن لديهِم كنيسة كامِلَة كذلكَ، لأنَّهُم لم يَكُونُوا قِدِّيسينَ كامِلين.

عندما كانت تُوجَدُ مشاكِل في الكنائِسِ التي أسَّسَها بُولُس، كانت هذه المَشاكِل تُنتِجُ تُحفَةً لاهُوتيَّةً من هذا الرَّسُول، وهُوَ يكتُبُ بوَحيِ الرُّوحِ القُدُس مُقَدِّماً حُلُولاً لهذه المشاكِل. بما أنَّ اليَهُودَ لاحَقُوا بُولُس ليُشَوِّشُوا المُؤمنينَ في كَنيسَةٍ أو أُخرى، مُعَلِّمينَ إيَّاهُم أنَّهُ يتوجَّبُ على المُؤمنينَ الأُمَمِيِّينَ أن يتبرَّرُوا بِحِفظِ نامُوسِ مُوسى، حصَلنا نتيجَةً لذلكَ على تُحفَةٍ لاهُوتيَّةٍ عنِ التَّبريرِ بالإيمان – التي هي مُصَغَّرٌ لهذه الرِّسالَة لأهلِ رُومية – رسالة بُولس للغَلاطِيِّين.

لقد كانَ لدَى المُؤمنينَ الكُورنثِيِّينَ أسئِلَةً فِكريَّةً بِخُصُوصِ القِيامَة. ولقد أدَّت هذه الأسئِلَة إلى وُجُودِ إصحاحِ القِيامَةِ العظيم في الكتابِ المُقدَّس، بالإضافَةِ إلى إصحاحَينِ يُمكِنُ تسمِيتُهُما "القِيامَة المُطَبَّقَة." (1كُورنثُوس 15؛ 2كُورنثُوس 4، 5).

لم تَعرِفْ تلكَ الكنيسة كيفَ تُحِبُّ، وكانت مُشَوَّشَةً حِيالَ عمَلِ الرُّوحِ القُدُس في الكنيسة. لِهذا حصَلنا على إصحاحِ المَحَبَّةِ العَظيم في الكتابِ المُقدَّس، وعلى الإصحاحاتِ التي تَسبِقُهُ وتَليهِ، والتي تُعتَبَرُ تُحَفاً لاهُوتِيَّةً في مَوضُوعِ عملِ الرُّوحِ القُدُس في الكنيسة (1كُورنثُوس 12- 14).

ولقد دَفَعَتِ الخلافاتُ بينَ التَّلاميذ في رُوما بُولُسَ ليَكتُبَ هذا الإصحاح، الذي يُعتَبَرُ تُحفةً يُمكِنُ تسمِيَتُها، "المحبَّة المُطَبَّقَة." مَرَّةً جديدَةً لَدَينا مَثَلٌ عن إصحاحٍ يعتَرِضُ إنسيابَ الفِكرِ، لأنَّ التقسيمَ لا يَقَعُ في المكانِ المُناسِب. المَوضُوعُ الذي يُشيرُ إليهِ بُولُس هُنا في الأصحاح الرَّابِع عَشَر، يستَمِرُّ إلى العددِ الثَّالِث عشَر منَ الإصحاحِ الرَّابِع عشَر.

يختَتِمُ هذا المقطَعُ الطَّويلُ من كلِمَةِ اللهِ التَّعليمَ الرَّائِع الوارِد في هذه الرِّسالَة. في باقي الإصحاح الخامِس عشَر، يُشارِكُ بُولُس قُرَّاءَهُ بأهدافِ مُهِمَّتِهِ الإرسالِيَّة. في الإصحاحِ السَّادِس عشَر، كتبَ تَحِيَّاتٍ شَخصِيَّة لأربَعَةٍ وعِشرينَ شَخصاً يَعرِفُهُم في الكنيسَةِ في رُوما، ومن تِسعَةِ أشخاصٍ كانُوا مَعَهُ في كُورنثُوس من حيثُ كانَ يكتُبُ رسالَتَهُ. ولكن التَّعاليم والتطبيقات اللاهُوتيَّة في هذه الرِّسالَة تنتَهي في العدد 13 من الإصحاح 15.

لقد كتبَ ثلاثَةَ إصحاحاتٍ للكُورنثِيِّين، التي تُقَدِّمُ مَبادِئَ تُوازِي ما ينصَحُ بهِ هُنا هؤُلاء التَّلاميذ في رُوما (1كُورنثُوس 8- 10). هذان المَقطَعانِ كِلاهُما يُعتَبَران تُحفَةً لاهُوتيَّة، لأنَّهُما يُعَلِّمانِنا كيفَ نعيشُ على الأرضِ معَ القِدِّيسنَ الذين نَعرِفُهُم. المبدَأُ الأساسيُّ في هاتَينِ النَّصيحَتَينِ العميقَتَين هُوَ أنَّ محبَّةَ بُولُس قد تمَّ وَصفُها بِشَكلٍ جَميلٍ في إصحاحِهِ الشَّهير عنِ المحبَّة (1كُورنثُوس 13: 4- 7).

لقد كانَ المُؤمِنُونَ اليَهُود والأُمم يَعبُدُونَ ويعيشُونَ غالِباً معاً في الجيلِ الأوَّل في كنائِسِ العهدِ الجديد. رأينا أنَّ بُولُس يُخاطِبُ اليَهُودَ والأُمَم عبرَ هذه الرِّسالَة بكامِلها. كانَ هذا لأنَّهُ كانَ يُحاوِلُ أن يربَحَ اليَهُود الذين لم يَكُونُوا مُقتَنِعينَ بأنَّ يسُوعَ هُوَ المسيح، المَسيَّا المَوعُود بهِ في العهدِ القَديم. وكانَ هذا لأنَّهُ كانَ يُوجَدُ الكثيرُ منَ اليَهُودِ في كَنيسَةِ رُوما منَ الذين آمنُوا بالمسيح، وإعتَرَفُوا بهِ رَبَّاً عليهِم وكانُوا جُزءاً حَيَويَّاً منَ الكنيسة.

الكَثيرُ منَ الخُصُوماتِ بينَ هؤُلاء التَّلاميذ في رُوما كانت بِسَببِ نزاعاتٍ مُتأصِّلَةٍ بالفُرُوقاتِ بينَ المُؤمنينَ اليَهُود والمُؤمنين. هذه القضايا نفسُها تمَّت مُعالَجَتُها في المجمَعِ الكَنَسِيِّ الأوَّل الذي نَقرأُ عنهُ في الإصحاحِ الخامِس عشَر من سفرِ الأعمال. فهل ينبَغي على المُؤمنينَ الأُمَم أن يَتَهَوَّدُوا في طريقَةِ عيشِهِم لإيمانِهِم وحياتِهِم في المسيح؟ وهل يتوجَّبُ على تلاميذ يسُوع اليَهُود أن يتخلُّوا عن كُلِّ طُقُوسِهِم اليَهُوديَّة المُتَعلِّقَة بما يأكُلُونَ أو لا يأكُلُون، والطريقَة التي بها يحتَفِلُونَ بها بأعيادِهم؟

كانت هُناكَ خلافاتٌ تختَصُّ بحفظِ الأيَّام، والأصوام، وشُرب الخَمر وقضايا أُخرى التي يُمكِنُ رَبطُها بكَونِ اليَهُودِ والأُمَم عاشُوا وعبدُوا الرَّبَّ يسُوع المسيح وخدَمُوهُ معاً في الكنيسة الأُولى في رُوما. لم تَكُنْ كُلُّ هذه النِّزاعاتِ ناتِجَةً عن ذلكَ الإختِلاط بينَ التَّلاميذ اليَهُودِ والأُمم. فلقد كانَ لديهم الكثير منَ التَّحدِّياتِ المُتَشابِهة لوِحدَتِهِم الرُّوحيَّة التي نَجِدُها في كنائِسِنا اليَوم.

أحد التَّحديات التي نُواجِهُها في علاقاتِنا معَ مُؤمِنينَ آخرينَ في كنائِسنا، هو قَضِيَّةُ "الحَرَام." تُعَلِّمُنا كَلِمَةُ اللهِ عن المبادِئ الأخلاقيَّة المُطلَقَة. بإمكانِنا القَول أنَّ هذه القضايا هي قضايا الأسوَد والأبيَض: الزِّنى، الفِسق، السَّرِقَة، الكَذِب، وتصرُّفات أُخرى سَلبِيَّة تُحَظِّرُها كَلِمَةُ الله. ولكن، كانت هُناك قضايا أُخرى مُتَعلِّقَة بسُلوكِ المُؤمنين، التي لم يُعالِجْها الكتابُ المُقدَّس بِوُضُوح. بإمكانِنا تسمِيَة هذه الأُمور "القضايا الرَّمادِيَّة" في السُّلوك المَسيحيّ. الكثيرُ منَ الكنائِس تَجِدُ حُلُولاً لهذه القضايا الرَّمادِيَّة بكتابَةِ لوائِح منَ السُّلوك اللائِق والسُّلوك غير اللائِق بأعضاءِ كنائِسِهم.

أحياناً يُمكِنُ تَسمِيَةُ هذه اللَّوائِح "القَداسَة الجُغرافِيَّة." هذا لأنَّهُ في أجزاء مُختَلِفَة منَ العالم، وحتَّى في قضايا مُختَلِفَة في بَلَدٍ ما، ما يعتَبِرُهُ المُؤمنونَ سُلوكاً صحيحاً أو مغلُوطاً لتلميذِ يسُوع، يختَلِفُ بشكلٍ كبيرٍ من مكانٍ إلى آخر. كمُؤمنٍ جديدٍ سافَرتُ 800 كيلومتراً لألتَحِقَ بكُلِّيَّةِ لاهُوتٍ لكَي أسَتَعِدَّ للخدمة.

الكنيسةُ التي إختَبَرتُ فيها الإيمان بالمسيح، كانَ لديها كتابٌ أزرَق تُدرَجُ فيهِ كُلُّ الأُمور التي لا يَحِقُّ للمُؤمنينَ في تلكَ الكنيسة أن يقُومُوا بها. ولن تُقبَلَ عُضواً في تلكَ الكنيسة، ولن يَكُونَ بإمكانِكَ أن تُصبِحَ قائِداً في تلكَ الكنيسة، إلا إذا وافَقتَ على ذلكَ الكتاب الأزرَق الذي يتضمَّنُ قوانِينَ سُلُوكِ المُؤمن. إحدَى قوانِين تلكَ الكنيسة كانت أنَّهُ لا يَحِقُّ للمُؤمن أن يُدَخِّنَ التَّمباك.

ذَهَبتُ مَرَّةً إلى كنيسَةٍ جَبَلِيَّةٍ صغيرة دُعِيتُ إليها كواعِظٍ ضَيف صباحَ يَومِ أحد، ويبدُو أنَّ كُلَّ أعضاء تلكَ الكنيسة كانُوا يُدَخِّنُونَ، بما فيهم راعي الكنيسة. وكانت زراعَةُ التَّمباك هي مصدَرُ عَيشِ مُعظَمِ النَّاس الذين كانُوا يحضُرونَ تلكَ الكنيسة، بما في ذلكَ القَسِّيس. وبينما كانَ ينفُخُ دُخانَهُ بِوجهِي، أخبَرَني أنَّهُ لن يَسمَحَ لي بالوَعظِ في كَنيسَتِهِ ذلكَ الأحد، لأنَّني كُنتُ قد سافَرتُ يومَ الأحدِ ذاكَ لأصلَ إلى كنيستِهِم. قالَ لي أنَّ كُلَّ واعِظٍ ينبَغي عليهِ أن يعرِفَ أنَّ السَّفَرَ يومَ الأحدِ هُوَ خَطِيَّة! وبينما كُنتُ في صدمَةٍ بسببِ الدُّخان الذي كانَ ينفُخُهُ ذلكَ الواعِظ، عَرَّفني على شَيءٍ لم يَكُنْ مكتُوباً في الكتابِ الأزرَق الذي وضَعَتْهُ كنيستَي التي كانت تبعُدُ حَوالَي 800 كلمتراً من تلكَ الكنيسة.

وبعدَ عِدَّةِ سَنواتٍ وبعدَ أن كُنتُ قد أصبَحتُ راعي كنيسة لِسنَواتٍ، قُمتُ بِزيارَةٍ لمُدَّةِ أُسبُوعٍ لخادِمٍ وكأنَّهُ بُولس القَرن العِشرين في اليُونان. لقد كانَ هذا الرَّجُلُ مُحامِياً، وكانَ راعي "كنيسة اليُونان الحُرَّة." في تلكَ الأيَّام كانَت كُلُّ كنيسة في اليُونان غير الكنيسة الأُورثُوذكسيَّة، تُعتَبَرُ خارِجَةً على القَانُون. ولهذا قضى هذا الرَّاعي وقتاً طَويلاً بإخراجِ شَعبِهِ منَ السِّجن. ولقد كانَ لدَيَّ الإمتِياز بأن أعِظَ في كنيستِهِ الكبيرة في أثينا، وفي بعضٍ من الكنائس الخمسة والسَّبعين الصَّغيرة التي أسَّسُوها في أماكن مثل كُورنثُوس وتسالُونيكي.

كانَ هذا الرَّاعِي يكرِزُ بالإنجيل بِغَيرَةٍ وحماس باللُّغَةِ اليُونانِيَّة، في مطعَمٍ يَعجُّ بالزَّبائن، بعدَ أن كُنَّا ننتَهي من تناوُلِ وجباتِ طَعامِنا. ورُغم أنَّني لم أتمكَّنْ منَ فهمِ ما كانَ يَقُولُهُ، ولكنَّني كُنتُ أتأثَّرُ كثيراً عندما كُنتُ أرى دُمُوعاً تنهَمِرُ على وُجُوهِ أُولئِكَ الذين كانُوا يُصغُونَ إليهِ.

ولكن عندما كُنَّا نتناوَلُ الطَّعامَ معاً، تعجَّبتُ أنَّهُ كانَ يشربُ النَّبيذ. فكُلُّ نوعٍ من أنواعِ المشرُوباتِ الرُّوحيَّة كانَ ممنُوعاً تماماً في الكتاب الأزرَق الذي وضعَتْهُ كنيستِي. ولقد تعلَّمْتُ أنَّ أُولئكَ الذين يشرَبُونَ الكُحُول ليسُوا مسيحيِّينَ حقيقيِّين. في نهايَةِ الأُسبُوع، سألَني إن كانَ شُربُهُ للخَمرِ قد أزعَجَني. فأجَبتُهُ بأنَّ بُولُس كتبَ لتيمُوثاوُس أن يأخُذَ قليلاً منَ الخمرِ لأجلِ أسقامِ معدتهِ. فأجابَني، وهُوَ الذي وُلِدَ في اللُّغَةِ اليُونانِيَّة، "لقد قالَ بُولُس لتيمُوثاوُس أن يأخُذَ القَليلَ منَ الخمرِ لأنَّهُ كانَ مريضاً. فلو كانَ تيمُوثاوُس صحيحاً، لطَلَبَ منهُ أن يتناوَلَ الكثيرَ منَ الخَمر!"

لقد تعلَّمتُ أنَّ الإبتعاد حوالي 800 كلم عنِ المنزِل، أو إجتياز المُحيط، عرَّفني على "كتابٍ أزرَق" مُختَلِف، فيما يتعلَّقُ بقَوانين ما كانَ يُعتَبَرُ سُلُوكاً صَواباً أم خطأً بالنَّسبَةِ لتلميذٍ ليسُوع المسيح. لهذا يُمكِنُ تَسمِيَةُ نظرَة "الكتاب الأزرَق" للسُّلُوكِ المسيحيّ، بِ"القداسَة الجُغرافِيَّة."

عندما يتبكَّتُ الخُطاةُ التَّائِبُونَ على خطاياهم، يُقَرِّرُونَ أحياناً أنَّ كُلَّ سُلُوكِهِم قبلَ أن يُولَدُوا من جديد، لم يَكُنْ خَطأً فقط بالنِّسبَةِ لهُم، بل بعدَ أن أصبَحُوا الآنَ تلاميذَ ليَسُوع المسيح، تغَيَّرَ كُلُّ أسلُوبِ حياتِهِم، وكُلّ ما لَهُ علاقَة بماضِيهم صارَ خطيَّةً، ليسَ لهُم فقط، بل لباقي المُؤمنينَ أيضاً. يقتَنعُ المُؤمنُونَ أحياناً بأنَّهُ في كُلِّ مرَّةٍ يُبَكِّتُهُم الرُّوحُ القُدُسُ على خَطأٍ ما، فلا بُدَّ أن يَكُونَ هذا الأمر خطأً لكُلِّ مُؤمنٍ آخر في الكنيسَة.

أنا لا أكتُبُ أو أُفَكِّرُ الآنَ بتلكَ القَضايا البَيضاء والسَّوداء التي ذَكَرتُها سابِقاً، مثل الخطايا التي يمنَعُها الكتابُ المُقدَّسُ صراحَةً. يُعَلِّمُ بُولُس بعضَ المَبادِئ التَّطبيقيَّة في هذا الإصحاح الذي ينبَغي أن يُطَبَّقَ على سُلُوكِ المُؤمنين – ماذا نلبَسُ، ماذا نأكُلُ، وماذا نشرَبُ، وما إذا كُنَّا نعتَبِرُ يومَ الأحَدِ هُوَ يَوم الرَّب مثل يوم السَّبت، وما يُمكِنُ إعتِبارُهُ تَسلِيَةً عالَمِيَّةً، وقضايا أُخرى كثيرَة لم يُعالِجْها الكتابُ المُقدَّسُ صَراحَةً. مثلاً، تدخين التَّمباك ليسَ مذكُوراً في الكتابِ المُقدَّس. عندما يتَّفِقُ المُؤمِنُونَ أنَّ تَصَرُّفاً مُعَيَّناً هُوَ خطأ، وفي حالَةٍ لا يتكلَّمُ فيها الكتابُ المُقدَّسُ عن هذا السُّلوكِ المغلُوط، نُسَمِّي هذا التَّصرُّف الرَّمادِيّ "حَرام."

مثلاً، جاءَ في أحدِ كُتُبِ القوانين المَسلَكِيَّة لإحدَى كُلِّيَّاتِ اللاهُوت التي تَرجِعُ إلى حوالي العام 1800، أنَّ النَّومَ على وِسادَةٍ مُريحَة، أو تناوُلَ مغطَسِ ماءٍ ساخِنٍ، هي خطأً لأنَّها من بابِ التَّنعُّمِ العالَمِيِّ في الحياة. ولكنَّني لا أرى أحدَاً بتاتاً اليوم يعتَبِرُ هكذا تصرُّفاتٍ أنَّها حَرَام. رُغمَ ذلكَ، أُولئِكَ الذين لديهم قناعاتٍ راسِخَة تجاهَ ما يَعتَبِرُونَهُ حرام، هُم مُقتَنِعُونَ أنَّ هذه القضايا قد تمَّت مُعالَجَتُها في الكتابِ المُقدَّس بالمَبدَأ. على هذا الأساس، يعتَبِرُ الكَثيرُ منَ المُؤمنينَ أنَّ التَّدخينَ مثلاً هُوَ خطأ، لأنَّهُ ضارٌّ بالصِّحَّة. ولَكِنَّني كُنتُ أتمنَّى أن أجِدَ كَنيسَةً تضَعُ السُّمنَةَ أو الإفراط في الوزن ضمنَ المُحَرَّماتِ في كتابِها الأزرَق. يُخبِرُنا الأطِبَّاءُ أنَّ الإفراطَ بالسُّمنَة يُمكِنُ أن يُخَسِّرَنا ثُلثَ عُمرِنا. ولكن يبدُو أنَّ المُؤمنينَ لم يَتَّفِقُوا على أنَّ السُّمنَةَ ينبَغي أن تَكُونَ من بينِ المُحَرَّمات.

أُشارِكُ معَكُم وُجهَةَ النَّظَرِ هذهِ، من بابِ المُقدِّمَة، لكَي تَقدُرُوا حقَّ التقدير هذه التُّحفَة التي أعطاها بُولُس لكنيسة رُوما، التي تُظهِرُ لنا كيفَ يُمكِنُنا أن نَكُونَ مُستَعمَرَةَ محبَّةٍ، وسماءً على الأرض، خلالَ إيجادِنا حُلُولاً للنِّزاعاتِ التي تُفَرِّقُنا.

وبينما يختُمُ بُولُس رسالَتَهُ إلى أهلِ رُومية، يُقدِّمُ ستَّةً وثلاثِينَ عدداً لمُعالجَةِ المَوضُوعِ نفسِهِ الذي خصَّصَ لهُ ثلاثَةَ إصحاحاتٍ بكامِلها في رِسالَتِهِ الأُولى إلى الكُورنثِيِّين (1كُورنثُوس 8- 10). هذا المَوضُوع هُوَ بجَوهَرِهِ عن كيفَ ينبَغي أن نعيشَ هُنا على الأرض، معَ القِدِّيسينَ الذين نَعرِفُهُم، عندما نَكُونُ على خِلافٍ معَهم. في كِلَي هذينِ المقطَعَينِ الكِتابِيَّين، يُعَلِّمُ بُولُس مبادِئَ عَميقَة ينبَغي أن تَسُودَ على مَواقِفِنا وعلى علاقاتِنا، خلالَ تعامُلِنا معَ القَضايا التي تُفَرِّقُنا كَمُؤمنين، بينما نُعَزِّزُ العلاقات التي نتمتَّعُ بها معَ المسيحِ ومعَ بَعضِنا البَعض.

كانت تُوجَدُ قَضِيَّةٌ أساسيَّةٌ ينبَغي مُعالَجَتُها في الرِّسالَةِ إلى الكُورنثِيِّين. فالكَثيرُ منَ المُؤمنينَ الكُورنثِيِّينَ كانُوا يعبُدُونَ الأوثانَ قبلَ أن يُقبِلُوا للخلاصِ ولِلعَيشِ كإخوةٍ وأخواتٍ في المسيح من خلالِ خدمَةِ الرَّسُول بُولُس. وكانَ اللحمُ الذي يُقَدَّمُ ذبائِحَ في تلكَ الهياكِل الوَثَنِيَّة، كانَ يُباعُ بأثمانٍ رَخيصَة في أسواقِ اللحُوم في مدينَةِ كُورنثُوس.

وكانت تتضمَّنُ عبادَةُ الأوثانِ تلكَ مُمارَساتٍ لاأخلاقِيَّة شَنيعَة. ولكنَّ الكثيرَ من تلاميذِ يسُوع الكُورنثِيِّين كانُوا يعتَقِدُونَ أنَّهُ يَحِقُّ للمُؤمنينَ أن يشتَرُوا ويأكُلُوا ذلكَ اللَّحم. ولكن أُولئكَ الذين كانُوا مُنخَرِطينَ بِعُمقٍ في عبادَةِ الأوثانِ تلكَ، إعتَقَدُوا أنَّها كانت خَطيئَة أن يأكُلُوا ذلكَ اللَّحم، الذي إختَلَطَ بِخَطِيَّةِ عبادَةِ الأوثان الرَّدِيئَة، وبالسُّلوكِ الفاسِد الذي كانُوا يُحاوِلُونَ أن يتخَلُّوا عنهُ إلى الأبد. أصبَحَ هذا مصدَرَ نزاعٍ أساسِيٍّ في كَنيسَةِ كُورنثُوس.

جَوهَرُ هذه الإصحاحاتِ الثَّلاثَة التي كتبَها بُولُس لِلكُورنثِيِّين، كانَ أنَّ القَضِيَّة لم تَكُنْ ما إذا كانَ تناوُل هذا اللحم صواباً أم خطأً. بل كانَ العامِلُ الهامُّ والدَّقيق هُوَ، "إلى أيَّةِ دَرَجَةٍ تُحِبُّ أخاكَ أو أُختَكَ في المسيح، اللذين يَظُنَّانِ أن أكلَ هذا اللحم المُقدَّم لِوَثَن هُوَ خطأ؟ فلقد أحبَّ المسيحُ هَؤُلاء لدرَجَةِ أنَّهُ ماتَ لأجلِهِم. فهل تُحِبُّهُم أنتَ لتَتَخَلَّى عن حقِّكَ بأكلٍ صحنٍ منَ اللحمِ، لكي لا يعثُرَ أخاكَ أو يشعُرَ بالإهانة؟"

بالإضافَةِ إلى مبدَأِ المَحَبَّة، يختُمُ بُولُس هذه الإصحاحاتِ الثَّلاثَة بثلاثَةِ مبادِئ ينبَغي أن تَقُودَ الكُورنثِيِّينَ وتقُودَنا خلالَ تطبيقِنا لهذا التَّعليم (1كُورنثُوس 10: 30، 31). المبدَأُ الأَوَّلُ هُوَ، "فمهما فعلتُم مِنْ أَكلٍ أو شُربٍ، فإفعَلُوا الكُلَّ لِمَجدِ الله." المبدَأُ الثَّانِي هُوَ خلاصُ الآخرين، أي البَرَكة الرُّوحيَّة والبُنيان للأخِ الأضعَف، الذي يعتَقِدُ أنَّهُ منَ الخطأِ أن نتناوَلَ ذلكَ اللحم. والمبدَأُ الثَّالِث هُوَ التَّأكُّد من أنَّنا لا نطلُبُ منفَعَتَنا الخاصَّة.

وَصَفَ بُولُس أُولئكَ الذين يعتَقدُونَ أنَّهُم لا ينبَغي أن يأكُلُوا ذلكَ اللحم المُقدَّم للأوثان، بأنَّهُم بمثابَةِ "الأخ الأضعَف." فلقد بَدَأَ هذا المقطعَ العَظيم إلى أهلِ رُومية، بتقديمِ هذا المفهُوم نفسه. فعلينا أن نقبَلَ أو نستَقبِلَ في شَرِكَتِنا أُولئِكَ المُعتَبَرِينَ بأنَّهُم ضُعفاء. ثُمَّ يكتُبُ تلكَ الأعداد السِّتَّة والثَّلاثين، التي يُعالِجُ فيها القَضايا التي تُسَبِّبُ نزاعاتٍ بينَ أُولئكَ التلاميذ في رُوما.

وكَمِفتاحٍ لهذا المقطَعِ الكِتابِيَِّ الطَّويل، أوَدُّ أن أبدَأَ تفسيري بمُقدِّمَةٍ مُوجَزة لما يُعلِّمُهُ بُولُس هنا. فإذا قَرأنا كَلِمَةَ اللهِ ونحنُ لا نبحَثُ عن شَيءٍ، فلَن نَجِدَ شَيئاً. سوفَ تُريكُم صفحاتِي التَّالِيَة ماذا ينبَغي أن تبحَثُوا عنهُ عندما تدرُسُونَ الطَّريقَة التي ختمَ بها بُولُس هذه الرِّسالة:

بينما تقرأُونَ وتدرُسُونَ هذا المقطع، لاحِظُوا كم يُشارِكُ بُولُس بمبادِئَ معَ هَؤُلاء المُؤمنين في رُوما، التي تتوازَى معَ المبادِئ التي علَّمها للكُورنثِيِّين. فلقد حضَّهُم على إيجادِ حَلٍّ لهذه النَّزاعاتِ على أساسِ الضَّمير (14، 22، 23). قالَ أحدُهُم أنَّ الضَّميرَ لا يزالُ ذلكَ الصَّوت الصغير الذي يجعَلُنا نشعُرُ بأنَّنا أصغَر منهُ جدَّاً.

الضَّميرُ ليسَ دَليلاً آمِناً أو معصُوماً، لأنَّ الضَّميرَ مشرُوطٌ بما تعلَّمناهُ من أهلِنا، أو منَ المُؤمنين الذين كانُوا أهلَنا الرُّوحِيِّين عندما كُنَّا لا نزالُ أطفالاً رُوحيِّين. كانت المُحَرَّماتُ التي تُعَلَّمُ من قِبَلِ الآخرين، مُؤَسَّسَةً أو غَيرَ مُؤَسَّسَةِ على كَلِمَةِ الله. وهي قد تُمَثِّلُ أو لا تُمَثِّلُ السُّلوك الذي يُعتَبَرُ خطأً أو صواباً مُطلَقاً. فإن كُنَّا نعتَقِدُ أنَّ هذا التَّصرُّف خطأ، علينا أن لا نتجاهَلَ ما يُمليهِ علينا ضَميرُنا. ولكن، إن لم يَكُنْ ضَميرُنا مُرشِداً معصُوماً لنا، علينا أن لا نتوقَّعَ أن يَكُونَ ضَميرُنا قائِداً أو مُرشِداً للآخرين.

مبدأٌ آخر علَّمَهُ بُولُس لهؤُلاء المُؤمنينَ الرُّومانِيِّين، وهُوَ أنَّ هذه القَضايا ينبَغي أن تُحَلَّ على أساسِ الإقتِناع. فعندما يُبَكِّتُنا الرُّوحُ القُدُسُ على أنَّ تصرُّفاً مُعَيناً لا يَليقُ بنا، ولا يَكُونُ هذا أمراً علَّمَنا إيَّاهُ أهلُنا أو المُؤمنُونَ الآخرون، يَكُونُ المِفتاحُ لعلاقَتِنا معَ الرُّوحِ القُدُس هُوَ طاعَتُنا الشَّخصِيَّة. فبَعدَ يومِ الخَمسينَ بِوَقتٍ قَصير، أعلن بُطرُس أنَّ الرُّوحَ القُدُس يُعطَى للذين يُطِيعُونَهُ (أعمال 5: 32). علينا أن نخضَعَ دائِماً لِتَبكيتِ الرُّوح.

ولكنَّ هذا يطرَحُ سُؤالاً هامَّاً: "عندَما يُوَبِّخُنا الرُّوحُ القُدُسُ بأنَّ شَيئاً مُعَيَّناً هُوَ خطأٌ لا يَليقُ بنا، هل يعني هذا أنَّهُ خطأٌ لِكُلِّ مُؤمن؟" لا ينبَغي أن يَكُونَ ضَميرِي المُرشِدَ لتَصَرُّفاتِ المُؤمنينَ الآخرين. وهل ينبَغي أن تَكُونَ الطَّريقَة التي بها يُوَبِّخُني الرُّوحُ القُدُس، هل ينبَغي أن تَكُونَ هذه الطريقة دَليلاً لِلمُؤمِنينَ الآخرين؟ بِكَلِماتٍ أُخرى، هل ينبَغي علينا أن نلعَبَ دَورَ الرُّوحِ القُدُس في حياةِ المُؤمنينَ الآخرين؟ وهل يُوَبِّخُ الرُّوحُ القُدُسُ كُلَّ المُؤمنين بالطَّرِيقَةِ نفسِها في هذه القَضايا؟ وهل يُمكِنُ أنَّهُ بِسَببِ حياتي قبلَ أن أُصبِحَ مُؤمناً، هل يُمكِنُ أن يَكُونَ أمرٌ ما خطأٌ لي ولكنَّهُ ليسَ خطأً للمُؤمنينَ الآخرين؟

يَقُودُنا هذا إلى المبدأ الثَّالِث الذي سيُعَلِّمُهُ بُولُس للمُؤمنينَ المُتنازِعين، الذين كانُوا جزءاً من كنيسة رُومية في القَرنِ الأوَّل. يُعَلِّمُ بُولُس المبدأَ نفسَهُ الذي شارَكَهُ معَ الكُورنثِيِّين. وهُوَ يتحدَّى كُلاً من هاتَينِ الكنيستَين بأن يَجِدا حُلُولاً لنزاعاتِهِما بتطبيقِ مبدأ إحترامِ ضمير الُمؤمن الآخر وأخذه بِعَينِ الإعتِبار.

لقد أمرَ بُولُس المُؤمنينَ في كُورنثُوس، الذين عرَفُوا أنَّهُ لم يَكُنْ شَيءٌ خطأ بأكلِ اللحم الذي سبقَ وقُدِّمَ للوَثَن، لأنَّ الأوثانَ لم تَكُن سوى مَصنُوعاتٍ من خَشَبِ وحجَرٍ وفِضَّةٍ وَذَهَب، ولم يَكُنْ لدَيها أيَّةُ علاقَةٍ بالإلهِ الحَلِّ الحقيقيّ، الذي تعرَّفنا عليهِ من خلالِ المسيح. ولكنَّهُ كَتَبَ قائِلاً، "ولكن ليسَ العِلمُ في الجَميع. فبعضُ الضُّعفاءِ يظُنُّونَ أنَّهُ منَ الخَطأ أن نأكُلَ اللَّحمَ الذي قُدِّمَ للأَوثان." (1كورنثُوس 8: 4- 13). فالقَضِيَّةُ كانت تتعلَّقُ بكَم كانوا يُحِبُّونَ الأخَ الأضعَف.

وهُوَ يُقدِّمُ هذا المبدأ نفسَهُ لمُؤمني كنيسة رُومية، بهذه الكلماتِ الجَميلة: "لأن ليسَ أحَدٌ منَّا يَعيشُ لِذاتِهِ ولا أحد يمُوتُ لِذاتِهِ." (رومية 14: 7) بناءً على ضَميرنا وعلى تبكيتِ الرُّوحِ القُدُس، قد تَكُونُ لنا حُرِّيَّةٌ لنُمارِسَ بعضَ الأُمُور، أو لِنَمتَنِعَ عنها. ولكن، تماماً كما كتبَ للكُورنثِيِّين، هكذا سيكتُبُ لهؤُلاء الرُّومانِيِّين، أن ليسَ جميعُ المُؤمنين لديهم الحُرِّيَّة نفسها. المبدأُ الأساسيُّ هُوَ كم نُحِبُّ الأخَ الأضعَف الذي ليسَ لديهِ الحُرِّيَّة نفسها التي لدينا بِسَبَبِ ضميرنا وقناعاتِنا. قالَ أحدُهُم أنَّ لَدَينا ملءَ الحُرِّيَّةِ أن نُحرِّكَ قبضَتَنا في السَّماء، ولكنَّ حُرِّيَّتنا تنتَهي حيثُ يبدأُ أنفُ الآخر.

يَقُودُنا هذا إلى مبدَأٍ رابِع سيُعلِّمُه بُولُس لمُؤمني كنيسة رُومية، كما علَّمَ في رِسالَتِهِ إلى الكُورنثِيِّين. وهذا المبدأ هُوَ المحبَّة، أي المحبَّة التي علَّمَ عنها في أصحاحِ المَحبَّةِ العَظيم. كتبَ بُطرُس يَقُولُ، "المحبَّة تستُرُ كثرَةً منَ الخَطايا." (1بُطرُس 4: 8) في رِسالَتِهِ إلى الكُورنثِيِّين، كانَ إصحاحُ المَحبَّةِ ذاكَ الحَلَّ لِكُلِّ مشاكِلِ كنيسةِ كُورنثُوس. وبالنِّهايَة، بينما كانَ بُولُس يُعالِجُ هذه النِّزاعات بينَ التَّلاميذ في رُوما، الحَّلُ الذي يتعامَلُ معَ المشاكِل ويُعزِّزُ العلاقات في كنيستِهِ، سيَكُونُ محبَّة المسيح.


خلافاتُ المُؤمنين، عدداً بعدَ الآخر

"ومَن هو ضعيفٌ في الإيمانِ فاقْبَلُوه لا لمحاكمةِ الأفكارِ. واحدٌ يؤمنُ أنْ يأكلَ كلَّ شيءٍ وأمّا الضعيفُ فيأكلُ بقولاً. لا يَزدَرِ مَن يأكلُ بمَن لا يأكلُ. ولا يَدِنْ مَن لا يأكلُ مَن يأكلُ. لأنّ اللهَ قَبِلَهُ. مَن أنتَ الذي تَدينُ عبدَ غيرِك. هو لمَولاهُ يَثبتُ أو يَسقطُ. ولكنَّه سيُثَبَّتُ لأنَّ اللهَ قادرٌ أن يُثبّتَهُ. واحدٌ يَعتبرُ يوماً دونَ يومٍ وآخرُ يَعتبرُ كلَّ يومٍ. فليتيقّنْ كلُّ واحدٍ في عقلِه. الذي يهتمُّ باليومِ فللربِّ يهتمُّ. والذي لا يهتمُّ باليومِ فللربِّ لا يهتمُّ. والذي يأكلُ فللربِّ يأكلُ لأنّه يشكرُ اللهَ. والذي لا يأكلُ فللربِّ لا يأكلُ ويشكرُ اللهَ. لأنْ ليسَ أحدٌ منّا يعيشُ لذاتِه ولا أحدٌ يموتُ لذاتِه. لأنّنا إن عِشْنا فللربِّ نعيشُ وإن مُتْنا فللربِّ نموتُ. فإن عِشْنا وإن مُتنا فللربِّ نحنُ." رُومية 14: 1- 8)

كتبَ بُولُس يَقُولُ أنَّ تلكَ الكنيسة ينبَغي أن تقبَلَ الضَّعيف، ولكن علينا أن نُحاوِلَ أن نتحاشَى الخلافات معَهُ. وهُوَ يقصُدُ بهذا أنَّهُ ينبَغي علينا أن نقبَلَ المُؤمنينَ الجُدُد، الضُّعفاء في الإيمان، لأنَّهُ لم يتَسَنَّ لهُم الوقتُ الكافِي ليتعلَّمُوا وينمُوا في المسيح. أنا مُتَيقِّنٌ أنَّهُ يقصُدُ أنَّهُ علينا أن نتورَّطَ مُباشَرَةً في مجادَلاتٍ معَهُم حولَ قضايا تَتحدَّاهُم كمُؤمنينَ جُدُد. ولقد كتبَ نصيحَةً مُماثِلَةً لتيمُوثاوُس، عندما كانَ يَقُولُ لهُ كيفَ عليهِ أن يُبَشِّرَ ويُعَلَِّمَ ويُرشِدَ الآخرين ذوي الحالاتِ الصَّعبَة (2تيمُوثاوُس 2: 23- 26).

في الإصحاحات 9 إلى 11 من رسالَة رُومية، كتبَ بُولُس يَقُولُ أنَّ اللهَ أرادَ أن يُغيرَ اليَهُود عندما رأى علاقة المحبَّة التي تمتَّعَ بها المُؤمنُونَ الأُمم معَ اللهِ ومعَ بعضِهم البَعض من خلالِ المسيح. لهذا علينا أن نعيشَ محبَّةَ المسيح أمامَ هؤُلاء المُؤمنينَ الجُدُد، ليَتَشَوَّقُوا أن يعرِفُوا كُلَّ ما يُمكِنُهُم أن يتعلَّمُوهُ عن كيفَ يُمكِنُ لتَخصيصِ أنفُسِنا للمَسيح أن يمنَحَنا نوعِيَّةَ الحياة التي نتمتَّعُ بها معَ المسيح ومعَ إخوتِنا وأخواتِنا في المسيح. وعندها سيرغَبُونَ أيضاً بأن يَكُونُوا قِدِّيسين، وأن يحيُوا حياتَهُم مُخَصَّصِينَ ومفرُوزينَ للمسيح.

أجابَ اللهُ على أسئِلَةِ أيُّوب الكَثيرَة، بإعلانِهِ نفسِهِ لأَيُّوب، وبتأسيسِ علاقَةٍ معَهُ. وبالمُقابِل، عندما يُقبِلُ المُؤمنونَ الجُدُد لمعرِفَةِ اللهِ بالحقيقَةِ من خلالِ المسيح، يُجابُ على أسئِلَتِهِم. التَّشديدُ المُناسِب على التَّقديس سيُقدَّمُ أيضاً لهُم كنَمُوذَج، الذي هُوَ الإنفِصال و الإنفِراز لأجلِ المسيح، وكنتيجَةٍ لتلكَ العلاقة، الإنفِصال عن خطايانا.

يُعالِجُ الرَّسُول بُولُس الخِلافات المُتَعلِّقَة بِنظامِ الطَّعام. وبما أنَّ وصفَ حادِثَةِ الخَلقِ في سفرِ التَّكوين يَقُولُ أنَّ اللهَ أعطانا أعشاباً لنأكُلَها، كان يُوجَدُ في كنيسَةِ رُوما (الذين كانُوا لَرُبَّما يَهُوداً)، أشخاصٌ إعتَقَدُوا أنَّهُ عليهِم أن يأكُلُوا الأعشاب. يَصِفُ بُولُس آكلي الأعشاب بأنَّهُم ضُعَفاء، مِمَّا يعني أنَّهُ لم يُوافِق معَهُم.

ويستَخدِمُ بُولُس إستِعارَةً جميلَةً، بينما يحُضُّ أُولئِكَ الذين يأكُلُونَ اللحمَ لكي لا يَدينُوا آكلِي الأعشاب. عندَما كتبَ بُولُس هذه الرِّسالَة، كانَ نِصفُ سُكَّانِ مدينَةِ رُوما عَبيداً. لِذلكَ فَهِمَ قُرَّاؤُه هذه الإستِعارَة. فلقد كانَ العَبيدُ يُؤَدُّونَ الحِسابَ أمامَ سادَتِهِم. بدأَ بُولُس هذه الرِّسالَة بالقَولِ بأنَّهُ هُوَ ومُؤمِنُو كَنيسة رُومية كانُوا عَبيداً لِرَبِّهِم يسُوع المسيح. وها هُوَ الآنَ يُعَلِّمُ أنَّهُ ليسَ لدَيهم أيُّ حَقٍّ بأن يحكُمُوا على أخيهم في المسيح، لأنَّهُ عبدٌ معَهُم. وهُم جميعاً سيُؤَدُّونَ عن أنفُسِهم حسابَاً أمامَ سَيِّدِهم، الرَّب يسُوع المسيح، ولن يُقَدِّمُوا حساباً عن أنفُسِهم أمامَ بعضِهم البَعض.

ثُمَّ يُعالِجُ قَضِيَّةَ حفظِ الأيَّام المُقدَّسَة. كانت المُشكِلَةُ الأساسيَّةُ بهذا الخُصُوص هي حفظ السَّبت اليَهُودِيّ، وكُلّ المَمنُوعات التي كانت ترتَبِطُ بيَومِ السَّبت اليَهُودِيّ. أحد البراهين القاطِعة لقِيامَة الرَّبِّ يسُوع المسيح، هُوَ أنَّ التَّلاميذ غَيَّرُوا يومَ عِبادَتِهِم من اليَومِ السَّابِع (السَّبت)، إلى اليوم الأوَّل منَ الأُسبُوع (الأحد.) وهُم لا يُشيرُونَ بتاتاً إلى هذا كسَبتِهِم. فهُم لم يُغَيِّرُوا السَّبتَ إلى الأحَدِ فحَسب، بل صاروا يُِشيرُونَ إلى يومِ الأحدِ بأنَّهُ يوم الرَّب. غَيَّرُوا بالتأكِيد يومَ عِبادَتِهِم، لأنَّ رَبَّهُم قامَ منَ المَوتِ ذلكَ اليوم منَ الأُسبُوع.

بالإضافَةِ إلى قَضِيَّةِ السَّبت، بعضُ التَّلاميذ في رُوما آمنُوا بأنَّ يومَ الرَّبِّ كانَ ينبَغي أن يُعامَلَ كيومِ السَّبت، أي بِحفظِ نوامِيسَ خاصَّة بهِ. كَثيرُونَ منَ المُؤمنينَ اليوم يعتَبِرُونَ يومَ الأحدِ كأنَّهُ سبتَهُم، ويضَعُونَ في يَومِ الرَّبِّ عدَّةَ مَمنُوعاتٍ على أنفُسِهم. مُؤمِنُونَ آخرُونَ يطرَحُونَ السُّؤال، "وماذا عن أيَّامِ الإثنين، الثُّلاثاء، وباقي أيَّامِ الأُسبُوع؟" هؤُلاء مُقتَنِعُونَ تماماً في عُقُولِهم أنَّ كُلَّ يَومٍ هُوَ يَومُ الرَّبّ، أو بالأحرى يحتَرِمُونَ كُلَّ يومٍ سواءً.

هذه المُشكِلَة نَفسُها يبدُو أنَّها وُجِدَت في ذلكَ الجيل الأوَّل من كنيسةِ العهدِ الجديد في رُوما: "واحِدٌ يعتَبِرُ يَوماً دُونَ يَومٍ وآخَرُ يعتَبِرُ كُلَّ يَوم. فَليَتَيقَّنْ كُلُّ واحِدٍ في عَقلِهِ." (رُومية 14: 5) بما أنَّ هذه كانت قَضِيَّةً رمادِيَّةً بِرَأيِ الرَّسُول، لم يُعلِنْ موقِفاً صائِباً أو خاطِئاً. بل حكمَ أنَّهُ ينبَغي أن كُلَّ واحِدٍ ينبَغي أن يَكُونَ مُقتنعاً تماماً في عقلِهِ. أُولئِكَ الذين يختَلِفُونَ معَ بعضِهِم، ينبَغي أن يَكُونُوا مُحِبِّينَ، مُحتَرِمينَ، وقابِلينَ لإستِقامَةِ وحقِّ أُولئكَ الذينَ لديهم طريقَة أُخرى في الإيمان تختَلِفُ عن طريقَتِهِم.

هُناكَ تَصريحٌ مُعاصِرٌ عنِ الوِحدَة مَبنِيٌّ على هذا المقطع، يقبَلُ بهِ الكثيرُ منَ المُؤمنينَ، يَقُولُ: "وِحدَةٌ في الجَوهَرِيَّات، قُبُولٌ وتفهُّمٌ بإحتِرامٍ في غيرِ الجَوهَرِيَّات، ومحبَّة في كُلِّ شَيء." هذا يُلَخِّصُ نصيحَةَ بُولُس المُوحَى بها لأُولئكَ الرُّومانُ، بِخُصُوصِ أنظِمَةِ الطَّعام، وحفظِ الأيَّام. إنَّها واحِدَةٌ من أجمَلِ تصريحاتِ بُولُس عن هذا المبدأ في كتابَاتِهِ، عندما يَقُولُ، "لأن ليسَ أحَدٌ منَّا يَعيشُ لِذاتِهِ ولا أحد يمُوتُ لِذاتِهِ. لأنَّنا إن عِشنا فلِلرَّبِّ نَعيش، وإن مُتنا فَلِلرَّبِّ نَمُوت.فإن عِشنا وإن مُتنا فَلِلرَّبِّ نحنُ." (رومية 14: 7، 8)

كُلُّ ما نَفعَلُهُ، نفعَلُهُ للرَّبّ. رُغمَ أنَّ التَّشديد هُنا هُوَ على العلاقاتِ الأُفُقيَّة التي لدَينا معَ بعضِنا البَعض في مُجتَمَعنا الرُّوحِيّ، علينا أن لا ننسَى أبداً الكَلمات العَميقة التي تكلَّمَ بها اللهُ معَ إبراهِيم: "أنا اللهُ القَدير. سِرْ أمامِي وكُنْ كامِلاً." يُمكِنُ ترجَمَةُ هذا العَدَد أيضاً كالتَّالِي: "أنا اللهُ القَدير أخدُمْني بأمانَةٍ وعِشْ حياةً بِلا لَوم" (تكوين 17: 1).

ثُمَّ يَضَعُ أمامَ قُرَّائِهِ الحقيقَةَ النِّهائِيَّة والمَثَلَ الكامِل عمَّا يُعَلِّمُ بهِ: "لأنّه لهذا ماتَ المسيحُ وقامَ وعاشَ لكي يسودُ على الأحياءِ والأمواتِ. وأمّا أنتَ فلماذا تَدينُ أخاكَ. أو أنتَ أيضاً لماذا تَزدَري بأخيكَ. لأنّنا جميعاً سوفُ نقفُ أمامَ كرسيِّ المسيحِ. لأنّه مكتوبٌ أنا حيٌّ يقولُ الربُّ إنّه لي ستجثو كلُّ ركبةٍ وكلُّ لسانٍ سيحمدُ اللهَ. فإذاً كلُّ واحدٍ منّا سيُعطي عن نفسِه حساباً للهِ. فلا نحاكِمْ أيضاً بعضُنا بعضاً بل بالحريِّ احْكُموا بهذا أن لا يوضَعَ للأخِ مصدمةٌ أو معثرةٌ." (رُومية 14: 9- 13)

بَعدَ أن علَّمَ أنَّنا جميعاً عبيدٌ سنُعطي عن أنفُسِنا حِساباً لمُعَلِّمِنا ورَبِّنا يسُوع المسيح، يتكلَّمُ بُولُس صراحةً الآن عن هذا المَرجِعيَّة النِّهائِيَّة للمُحاسبَة. فيسُوع المسيح ليسَ فقط رَبّ الأحياء، بل كونَهُ ذلكَ الذي ستُعطَى كُلُّ دَينُونَةٍ لهُ، سيَكُونُ رَبَّ الأمواتِ على حَدٍّ سواء. (يُوحَنَّا 5: 22).

غالِباً ما يأتي بُولُس بوُجهَةِ النَّظَرِ تلكَ إلى تعليمِهِ. فهُوَ يُذَكِّرُ أُولئِكَ الذين بنُوا على أساسِ خدمَتِهِ في كُورنثُوس، يُذَكِّرُهُم أن عمَلَهُم سيُواجِهُ يَوماً ما الحقيقَةَ الصَّعبَة بالمُحاسَبَةِ أمامَ كُرسِيِّ المَسيح (1كُورنثُوس 3: 12- 15).

أخبَرَ أُولئِكَ الذين أحَبُّوا خِدمَتَهُ في كُورنثُوس، ورَفَضُوا خدماتِ الآخرين أمثال بُطرُس وأبُولُّوس الذين وَعَظُوا هُناكَ أيضاً، أنَّهُ ليسَ عليهِم أن يحكُمُوا عليهِ (ولو إيجابِيَّاً)، لأنَّهُ يَوماً ما سيُحضِرُ الرَّبُّ إلى النُّورِ دوافِعَ قَلبِهِ الخَفِيَّة، وعِندَها فَقَط سوفَ ينالُ المدحَ، أو سيُحَاسَب (1كُورنثُوس 4: 3- 4). لقد حذَّرَ أيضاً الكُورنثِيِّين كما يفعَلُ معَ أهلِ رُومية في هذا المقطَع، أنَّنا سنَقِفُ جميعاً أمامَ كُرسِيِّ المسيح، لنُعطِيَ عن أنفُسِنا حِساباً عن كُلِّ ما فَعَلنا في الجَسَد، خَيراً كانَ أم شَرَّاً (2كُورنثُوس 5: 10).

وبما أنَّنا سنُحاكَمُ من قِبَلِ الرَّبّ، فلِماذا نُحاكِمُ إذاً بعضُنا بعضاً؟ بكلماتٍ أَوضَح، يسألُ بُولُس، "من أقامَكَ قاضِياً على كُلِّ الذين يتبَعُونَ المسيح؟" ويختُمُ تعليمَهُ بحَضِّنا على أن لا نَضعَ معثَرَةً لأخينا وأن لا نتَسَبَّبَ بِسُقُوطِهِ.

يوَسِّعُ بُولُس حضَّهُ ليشمَلَ تعليماتٍ مُحَدَّدة، تتعلَّقُ بالمسؤوليَّة التي لدَينا تجاهَ أخينا الأضعَف، إذ يَقُول: "إنّي عالمٌ ومتيقّنٌ في الربِّ يسوعَ أن ليسَ شيءٌ نجساً بذاتِه إلا مَن يحسبُ شيئاً نجساً فلَهُ هو نجسٌ. فإن كانَ أخوكَ بسببِ طعامِكُ يُحزَنُ فلستَ تسلُكُ بعدُ حَسَبَ المحبّةِ. لا تُهْلِكْ بطعامِكَ ذلك الذي ماتَ المسيحُ لأجلِه. فلا يُفْتَرَ على صلاحِكم. لأن ليسَ ملكوتُ اللهِ أكلاً وشرباً. بل هو برٌّ وسلامٌ وفرحٌ في الروحِ القدسِ. لأنّ مَن خَدَمَ المسيحَ في هذه فهو مرضيٌّ عندَ اللهِ ومُزَكّى عندَ الناسِ." (رُومية 14: 14- 18)

عندما يكتُبُ بُولُس، "إنِّي عالِمٌ ومُتَيَقِّنٌ في الرَّبِّ يسُوع،" هُناكَ إمكانِيَّة أنَّهُ يُشيرُ إلى الإختِبار الذي يَصِفُهُ في رِسالَتِهِ إلى أهلِ غلاطية (1: 1- 2: 10). قد يكُونُ هذا إشارَةً إلى تعليمِ يسُوع في الأناجيل، الذي كانَ بُولُس مُتآلِفاً معَه (مَرقُس 7: 18، 19). لقد علَّمَ يسُوعُ في هذه الإصحاحات أنَّ كُلَّ طَعامٍ مُقَدَّس، الأمرُ الذي كانَ تعليماً ثَورِيَّاً لليَهُود. الحقيقَةُ التي علَّمَها يسُوعُ في الأناجيل، وعلَّمَها بُولُس هُنا، هي أنَّ الحالة الرُّوحِيَّة التي يكُونُ فيها الشَّخصُ الذي يأكُلُ الطَّعام هي التي تجعَلُ الطَّعامَ مُقدَّساً أو نَجساً.

يرجعُ بُولُس إلى قَضِيَّةِ الضَّمير عندَما يكتُبُ: "ليسَ شَيءٌ نَجِساً بِذاتِهِ إلا من يحسِب شَيئاً نَجِساً فلَهُ هُوَ نَجِس." وكما فعلَ معَ الكُورنثِيِّين، يُشَدِّدُ لاحِقاً على مبدأ المَحَبَّة المُتَشَبِّهَة بالمسيح عندما يكتُبُ قائِلاً: "فإن كانَ أخُوكَ بِسَبَبِ طعامِكَ يُحزَنُ فَلستَ تسلُكُ بعدُ حسبَ المحبَّة. لا تُهلِكْ بِطعامِكَ ذاكَ الذي ماتَ المسيحُ لأجلِهِ." (رُومية 14: 15). طريقَةُ التَّعامُلِ معَ المشاكِل، معَ تعزيزِ العلاقات معَ أخيكَ، هي بأن تُدرِكَ أنَّ القَضِيَّةَ ليسَت أن تحكُمَ ما إذا كُنتَ أنتَ أم أخاكَ على حَقّ. فالمسيحُ أحبَّهُ لدَرَجَةِ أنَّهُ ماتَ من أجلِهِ. القَضِيَّةُ هي كم تُحِبُّ أخاكَ؟

ثُمَّ يكتُبُ الرَّسُولُ عن مبدَأَينِ تعلِيميَّين عميقَين: "فلا يُفتَرَ على صَلاحِكُم. لأنْ لَيسَ مَلَكُوتُ اللهِ أكلاً وشُرباً. بل هُوَ بِرٌّ وسلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس." (رُومية 14: 16- 17) وخلالَ مُعالَجَتِهِ للإنضباطِ الفَردِي في رُوما، يُشيرُ بُولُس إلى أنَّهُ منَ الجَيِّد أن يَكُونَ الإنسانُ على حَقَ. ولكن، إن كَانَ كَونُنا على حَقٍّ يعثُرُ ويُؤلِمُ أخانا، عندها سيُتَكَلَّمُ عن صَلاحِنا بأنَّهُ شَرٌّ، أو بتعبِيرِ بُولُس، "فلا يُفتَرَ على صَلاحِكُم."

ثُمَّ يُلَخِّصُ بُولُس جوهَرَ مَلَكُوتِ اللهِ بثلاثَة طُرُق: بِرٌّ، سلامٌ وفَرَحٌ. وهُوَ يقصُدُ بِقَولِهِ هذا أنَّ ملكُوتَ اللهِ لا يتعلَّقُ بالدَّرَجَةِ الأُولى بكَونِنا على حَقّ. فهذه الرِّسالَة بكامِلِها هي عن ذلكَ البِرّ الذي هُوَ عَطِيَّةُ الله لتُقبَلَ بالإيمان. فمَوقِفُكَ وأعمالُكَ تجاهَ أخيكَ، ينبَغي أن تَكُونَ جميعاً عن الطَّريقَة التي بها تُقَدِّمُ مِثالاً وإِلهاماً وتعليماً لأخيكَ بِحياتِكَ، بأن تعتَمِدَ على يسُوع المسيح ليَمنَحَكَ ذلكَ النَّوع منَ البِرّ الذي هُوَ بالإيمان.

السِّلامُ الذي يكتُبُ عنهُ بُولُس هُنا هو ثمَرُ الرُّوح. ذلكَ السَّلام الذي يُناقِضُ المَنطِقَ والعقل، لأنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يمنَحُ هذه السَّلام للمُؤمنِين حتَّى عندما يختَبِرُونَ أبشعَ الوَيلات. والفَرَحُ الذي يتكلَّمُ عنهُ هُنا، يُمكِنُ تفسيرُهُ بالسَّعادَة التي تُناقِضُ المنطِقَ والعَقل، لأنَّ هذا الفَرح هُوَ أيضاً ثمَرُ الرُّوح، الذي يختَبِرُهُ المُؤمنُونَ حتَّى وإن لم يَكُنْ لدَيهِم أيُّ سَبَبٍ ليَفرَحُوا، وكُلَّ سَبَبٍ ليَحزَنُوا. والمَحبَّة التي كتبَ عنها بُولُس هُنا هي أيضاً ثمَرٌ، بُرهانٌ، أو دَليلٌ عن وُجُودِ الرُّوحِ القُدُس في حياةِ المُؤمنين (غلاطية 5: 22، 23). هذه المحبَّة أيضاً تُناقِضُ العقلَ والمَنطِقَ، لأنَّ المُؤمنينَ بالمسيح يُحِبُّونَ أعداءَهُم.

فحوَى ما يَقُولُهُ بُولُس هُنا هُوَ أنَّ مَلَكُوتَ اللهِ، بما فيهِ من قِيَمٍ وبَركاتٍ أبديَّة، لا يتكلَّمُ عمَّا نأكُلُ ونشرَب. يبنِي بُولُس هُنا مُجدَّداً على تعليمِ الرَّب يسُوع المسيح، الذي علَّمَ في مَوعِظَتِهِ على الجَبَل، أنَّ الحياةَ هي أهَمُّ منَ الطَّعام، والجَسَدُ أفضَلُ منَ اللِّباس. فعلينا أن نطلُبَ أوَّلاً ملَكُوتَ اللهِ وبِرَّهُ، وكُلُّ تلكَ الأُمور الهامِشيَّة ستَكُونُ لنا، لأنَّ أبانا السَّماوي يعلَمُ أنَّنا نحتاجُ إلى كُلِّ هذه الأُمُور. (متَّى 6: 8؛ 33)

يُدَوِّنُ بُولُس هُنا بَرَكَةً حولَ هذه النَّصيحة العميقة بإضافَتهِ: "لأنَّ من خَدَمَ المسيحَ في هذه فَهُوَ مَرضِيٌّ عندَ اللهِ ومُزَكَّىً عندَ النَّاس." (رُومية 14: 18).

كمُعَلِّمٍ عَظيم، يعرِفُ بُولُس أنَّهُ إن لم يُكَرِّرْ، لن يُنجَزَ التَّعليمُ، لأنَّ التَّكرارَ هُوَ جَوهَرُ التَّعليم. فهُوَ يُكَرِّرُ للتَّشديد، بينما يُلَخِّصُ هذا التَّعليم: "فلْنَعكُفْ إذاً على ما هو للسلامِ وما هو للبنيانِ بعضُنا لبعضٍ." (رُومية 14: 19)

في رِسالَتِهِ الأُولى إلى أهلِ كُورنثُوس، يسأَلُ بُولُس ويُجيبُ على سُؤالٍ هام: "فما هُوَ إذاً أيُّها الإخوَة؟... فليَكُنْ كُلُّ شَيءٍ لِلبُنيان." (1كُورنثُوس 14:26) في ذلكَ الإصحاحِ الرَّابِع عشَر من رسالَة كُورنثُوس الأُولى، حَيثُ ينصَحُ بُولُس بالنِّظامِ الذي ينبَغي أن يَسُودَ بينَنا كمُؤمنين عندما يَكُونُ الرُّوحُ القُدُسُ حالاً علينا وفينا، يُكَرِّرُ حوالي أربَعينَ مرَّةً التَّشديدَ القائِلَ أنَّنا عندما نجتَمِعُ معاً كمُؤمِنين، ليَكُنْ كُلُّ شَيءٍ للبُنيان.

يُوجَدُ مقطَعٌ كتابِيٌّ في الرِّسالَة إلى العِبرانِيِّين، يُعَلِّمُنا أن نعمَلَ بِكلُّ الأُمور التي يتوقَّعُ المُؤمِنُونَ إختِبارَها عندما يجتَمِعُونَ معاً، قبلَ أن ننطَلِقَ لحُضُورِ خدمَةِ العبادَة معَ المُؤمنينَ الآخرين. عندما تبدَأُونَ بطَرحِ السُّؤال في أفكارِكُم، "فلماذا علينا أن نذهَبَ إلى الكنيسَةِ إذاً؟" يُجيبُ بُولُس أنَّهُ عندما نجتَمِعُ معاً معَ إخوتِنا وأخواتِنا في المسيح، علينا أن نُحَرِّضَ بعضُنا بعضاً على المحبَّةِ و الأعمالِ الحَسَنَة (عبرانِيِّين 10: 21- 24). يُعَلِّمُ العَهدُ الجديدُ بإستمرار أنَّهُ علينا أن نهتَمَّ بحاجاتِ الآخرين وليسَ بحاجاتِنا نحنُ فحسب، عندما نجتَمِعُ ككَيانٍ رُوحِيّ. فَعَلينا أن نهتَمَّ بحاجاتِ إخوتِنا وأخواتِنا في المسيح، وسنرى كيفَ سيتجاوَبُ اللهُ معَ ذلكَ (فيلبِّي 2: 4).

وفي تكرارِهِ التَّلخِيصيّ لهذا المبدأ، يضعُ تشديداً قَويَّاً على مَسؤُوليَّتِنا في بُنيانِ ومُبارَكِةِ أخينا في المسيح. عندما يستَخدِمُ عبارَة "أخ" في هذه المقاطِع، يستَخدِمُها بالمعنى الشَّامِل للكَلمة، قاصِداً بها إخوتِنا وأخواتِنا المُؤمنين على حَدٍّ سواء. هذا هُوَ تصريحُهُ الأقَوى لما يُمكِنُ تسمِيَتُهُ "التَّعليم عنِ الأخ الأضعَف." غالِباً ما يطرَحُ النَّاسُ سُؤالاً عندما يدرُسُونَ بجدِّيَّةٍ هذا التَّشديد في كتاباتِ بُولُس: "إلى أيِّ حَدٍّ يُمكِنُ الذَّهابُ في محبَِّةِ الأخِ الأضعَف؟" في هذا المقطَعِ التَّلخيصيّ، يُجيبُ بُولُس على هذا السُّؤال. أنظُرُوا إن كانَ بإمكانِكُم أن تَكتَشِفُوا جوابَهُ: "لا تَنْقُضْ لأجلِ الطعامِ عملَ اللهِ. كلُّ الأشياءِ طاهرةٌ لكنَّهُ شرٌّ للإنسانِ الذي يأكلُ بعثرةٍ. حسنٌ أن لا تأكلَ لحماً ولا تشربَ خمراً ولا شيئاً يصطدمُ به أخوكَ أو يَعْثُرُ أو يَضْعُفُ." (رُومية 14: 20، 21).

هُنا نَجِدُ جوابَ بُولُس على ذلكَ السُّؤال. فعلينا أن لا نأكُلَ لحماً، وأن لا نشرَبَ خمراً، وأن لا نفعَلَ شَيئاً يُمكِنُ أن يعثُرَ أخانا أو يُؤلِمَهُ أو يُضعِفَهُ. سُؤالٌ آخر نحتاجُ أن نطرَحَهُ هُنا، ألا وهُوَ: "إذا سَايَرنا ضَعفَ أخينا الأضعَف في كُلِّ شَيء، ألا نُبقِيهِ ضَعيفاً بمُسايَرَتِنا لهُ؟" هذا سُؤالٌ جَيِّد. في نصيحَتِهِ للكُورنثِيِّين، أوَّلُ مَبدَأٍ من هذهِ المبادِئ الثَّلاثَة التي بها يختُمُ تُحفَتَهُ اللاهُوتيَّة لأهلِ كنيسةِ رُومية حولَ هذا الموضُوع نفسِهِ، كان أنَّهُ عليهم أن يفعَلُوا كُلَّ شَيءٍ لمَجدِ المسيح. فالسَّيرُ أمامَ اللهِ وعمَلُ ما يُمَجِّدُ الله، هوَ أولَويَّةٌ تَفُوقُ مُسايَرَتَنا لأخينا الأضعَف. لهذا كتبَ بُولُس يقُولُ: "أَلَكَ إيمانٌ. فليكنْ لَكَ بنفسِكَ أمامَ اللهِ. طوبى لمَن لا يَدينُ نفسَه ما يَسْتَحْسِنُهُ. وأمّا الذي يرتابُ فإنْ أكلَ يُدَانُ لأنَّ ذلك ليسَ منَ الإيمانِ. وكلُّ ما ليسَ منَ الإيمانِ فهو خطيّةٌ". (رُومية 14: 22، 23)

في هذا المقطع الرَّائِع، تحدَّى بُولُس أُولئِكَ المُؤمنينَ الرُّومانِيِّين ليَنظُرُ إلى الدَّاخِل ويتفحَّصُوا ضميرَهُم وقناعاتِهِم. ثُمَّ حضَّهُم على أن ينظُرُوا حَولَهُم بمحبَّةٍ ويُفَكِّرُوا بأخيهم، خاصَّة بالأخِ الأضعَف. وها هُوَ الآن يحُضُّهُم على النَّظَرِ إلى فَوق، والسَّيرِ أمامَ الله. فعلَيهم أن يجلُبُوا كُلَّ هذه الأُمُور التي تَتَسَبَّبُ بهذه النِّزاعاتِ بينَهُم أمامَ الله.

يَقُولُ العهدُ الجديدُ صراحَةً: "بِدُونِ إيمانٍ لا يُمكِنُ إرضاؤُهُ، لأنَّهُ ينبَغي أنَّ الذي يأتي إلى الله يُؤمِنُ أنَّهُ مَوجُودٌ، وأنَّهُ يُجازِي الذين يطلُبُونَهُ." (عبرانِيِّين 11: 6)

فإن لم يَكُنْ بإمكانِنا المَجيءُ إلى الله، وإن لم يَكُنْ بإمكانِنا إرضاؤُهُ بِدُونِ إيمانٍ، عندَها سيَكُونُ كُلُّ ما نفعَلُهُ بمعزَلٍ عن إيمانِنا هُوَ خَطيَّة. رُغمَ أنَّ جوهَرَ هذا الإصحاح وتَشديدُهُ كانَ أن ننظُرَ إلى داخِلينا وحولَنا، فهَؤُلاء التلاميذ المُتنازِعينَ عليهم أن ينظُرُوا إلى فَوق، بالإيمان، وإلا فلن يحصُلُوا بتاتاً على الحكمة والنِّعمة لينظُرُوا حولَهُم كما ينبَغي.

علَّمنا يسُوعُ أنَّهُ علينا أن نرفَعَ أعيُنَنا قَبلَ أن ننظُرَ إلى الحقُول التي إبيضَّت للحَصاد، وتنتَظِرُ من يحصُدها (يُوحَنَّا 4: 35). لقد كانَ يتكلَّمُ عن أشخاصٍ مُعَيَّنين عندما أعطى المسيحُ لِرُسُلِهِ طَلَبَ الصَّلاةِ هذا. كانَ يسُوعُ يُعَلِّمُ أنَّهُ علينا أن ننظُرَ أولاً إلى فَوق، قبلَ أن ننظُرَ حولَنا. علينا أن نرى النَّاسَ كما يراهُم اللهُ والمسيحُ. إذا رأينا النَّاسَ من خلالِ محبَّةِ اللهِ والمسيح، لن نرى أبداً أشخاصاً لن يُمكِنُ الوُصُولُ إليِهم بالمحبَّةِ الإلهيَّة. يُعَلِّمُ بُولُس المبدَأَ نفسَهُ، في هذين العدَدَين الأخيرين.

إذ نبدَأُ بقِراءَةِ الإصحاحِ الخامِس عَشَر من هذه الرِّسالَة، نَجِدُ مكاناً آخَر حَيثُ أعتَقِدُ أنَّ تقسيمَ هذا الإصحاح ليسَ بِمَوضِعِهِ. تعليمُ بُولُس القَويّ الذي يُعالِجُ الخلافات بينَ التَّلاميذ في رُوما، يستَمِرُّ بالواقِعِ في هذا الإصحاح. الاعدادُ المِفتاحِيَّةُ في هذا الإصحاح تُتابِعُ صراحَةً هذا التَّعليم: "فيجبُ علينا نحنُ الأقوياءَ أن نَحْتَمِلَ أضعافَ الضعفاءِ ولا نُرْضِيَ أنفسَنا. فلْيُرْضِ كلُّ واحدٍ منّا قريبَهُ للخيرِ لأجلِ البنيانِ." (رُومية 15: 1، 2)

بعدَ أن لَخَّصَ في هذين العَدَدَينِ ما سبقَ وعلَّمَهُ في الإصحاحِ الرَّابِع عشَر، يُتابِعُ بُولُس موضُوعَهُ حتَّى العدد 13 من هذا الإصحاح. ولن يَكُونَ بإمكانِهِ أن يُفَكِّرَ بمثَلٍ أعظَم عمَّا يُعَلِّمُ بهِ، ممَّا جاءَ في مَثَلِ رَبِّهِ ومُخَلِّصِهِ يسُوع: "لأنَّ المسيحَ أيضاً لم يُرْضِ نفسَهُ. بل كما هُوَ مكتُوبٌ تعييراتُ مُعَيِّريكَ وقَعَت عليَّ." (مَزمُور 69: 9). "لأنَّ كُلَّ ما سَبَقَ فكُتِبَ كُتِبَ لأجلِ تعليمِنا، حتَّى بالصَّبرِ والتَّعزِيَة بما في الكُتُب يَكُونُ لنا رَجاءٌ. وليُعطِكُم إلهُ الصَّبرِ والتَّعزِيَة أن تهتَمُّوا إهتِماماً واحِداً فيما بينَكُم بِحَسَبِ المسيح يسُوع. لِكَي تُمَجِّدُوا اللهَ أبا رَبِّنا يسُوع المسيح بِنفسٍ واحِدَةٍ وفَمٍ واحد. لذلكَ إقبَلُوا بعضُكُم بعضاً كما أنَّ المسيحَ أيضاً قَبِلَنا لِمَجدِ الله." (رُومية 15: 3- 7)

في إطارِ تعليمِهِ في هذه الرِّسالَة عنِ الأخِ الأضعَف، قَصَرَ بُولُس حَثَّهُ على مَبادِئَ مثل الضَّمير، الإقتناع، التَّمييز، والمحبَّة المُضَحِّيَة بالذَّات. عندما كتبَ للكُورنثِيِّين، لخَّصَ ثلاثَةَ إصحاحاتٍ حولَ هذا المَوضُوع بثلاثَةِ مبادِئ: 1-إفعَلُوا كُلَّ شَيءٍ لمَجدِ الله. 2-تأكَّدُوا من أنَّكُم تطلُبُونَ منفَعَةَ الآخرينَ ليَخلُصُوا وليُبنُوا. 3-إحرَصُوا أن لا تطلُبُوا منفَعَتَكُم الشَّخصِيَّة. (1كورنثُوس 10: 31- 33)

هَل هُناكَ مَثَلٌ أفضَل في الكتابِ المُقدَّس عن شخصٍ يُطَبِّقُ هذه المبادِئ، من مثَلِ يسُوع المسيح؟ لقد كانَ يسُوعُ بالتأكيد يطلُبُ مَجدَ أبيهِ. لم يطلُبْ مجدَهُ أو منفَعَتَهُ الذَّاتِيَّة، بل كانَ يسعَى لأجلِ خلاصِنا عندما ماتَ على الصَّليب لأجلِنا جميعاً. لِهذا يَحُضُّ بُولُس قُرَّاءَهُ أن يتمثَّلُوا بهِ كما تمثَّلَ هُوَ بالمسيح. فكلمة "مسيحي" تعني "مِثل المسيح."

يقتَبِسُ بُولُس منَ العهدِ القَديم بينما يُقَدِّمُ يسُوعَ كالمَثَلِ الأعلى لهذه المبادِئ. بالتأكيد، عندما أصبحَ يسُوعُ خَطِيَّةً لأجلِنا، كانَ النَّمُوذَجَ الأعلى والمُطلَق لما يُعَلِّمُ بهِ بُولُس. فسوفَ نَكُونُ ذَوي فكرٍ راسِخٍ، وسنتمتَّعُ بِوحدَةٍ حقيقيَّة، وسنتحرَّرُ منَ الخلافاتِ والنِّزاعات معَ بعضِنا البَعض، عندما يَكُونُ لنا فكرُ المسيح تجاهَ إخوَتِنا وأخواتِنا، سواءٌ أَكَانُوا ضُعفاءَ أم أقوياء.

وهنا يختُمُ تعليمَهُ وتطبيقاتِهِ لهذا التَّعليم في رسالَتِهِ، بتقديمِ الطَّريقة التي بها تعاطَى بها يسُوعُ معَ الإخوَةِ الأضعَف، أي اليَهُود. فلقد قضى يسُوعُ ثلاثَ سنواتٍ، أحياناً في حوارٍ عدائِيٍّ معَ رِجالِ الدِّين اليَهُود، مُحاجِجاً إيَّاهُم ليُشارِكُوا معَهُ في رسالَتِهِ لإيصالِ الخلاص إلى العالم. وبينما يفعَلُ بُولُس ذلكَ، يرجِعُ إلى موضُوعِ الإصحاحات التَّاسِع إلى الحادِي عشَر، بإقتباسِ أنبياء تنبَّأُوا عن عَودَة اليَهُود الرُّوحِيَّة إلى الرَّبّ: "وأقُولُ إنَّ يسُوعَ المسيح قد صارَ خادِمَ الخِتان من أجلِ صِدقِ اللهِ حتَّى يُثَبِّتَ مَواعِيدَ الآباء. وأمَّا الأُمَمُ فمَجَّدُوا اللهَ من أجلِ الرَّحمَةِ كما هُوَ مكتُوبٌ من أجلِ ذلكَ سأحمَدُكَ في الأُمَم وأُرتِّلُ لإسمِكَ. ويَقُولُ أيضاً تهَلَّلُوا أيُّها الأُمَم معَ شَعبِهِ. وأيضاً سَبِّحُوا الرَّبَّ يا جَميعَ الشُّعُوب. وأيضاً يَقُولُ إشعياء سيَكُونُ أصلُ يَسَّى والقائِمُ لِيَسُودَ على الأُمَم عليهِ سيَكُونُ رجاءُ الأُمَم. وليَملأْكُم إلهُ الرَّجاءِ كُلَّ سُرورٍ وسَلامٍ في الإيمانِ لِتَزدادُوا في الرَّجاءِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس." (رومية 15: 8- 12)

تأمَّلُوا بالطَّريقَة التي بها تعامَلَ يسُوعُ معَ رجالِ الدِّينِ اليَهُود. كانت لدَيهِ أَوقاتٌ منَ الحِوارِ العدائِي معَهُم، وأوقاتٌ أُخرى كانت فيها المُواجَهَةُ حادَّةً معَهُم. ولكنَّ يسُوع كانَ يسعَى وراءَهُم، فوفَّرَ مِثالاً لبُولُس، نطَقَ بهِ في تصريحِهِ العظيم عن أهدافِ إرسالِيَّتهِ عندما كتبَ أنَّهُ أصبَحَ لليَهُودِ يَهُودِيَّاً ، لِكَي يُخَلِّصَ اليَهُود (1كُورنثُوس 9: 19- 22).

قد يَكُونُ بِصَدَدِ الإقتِراحِ أنَّ يسُوعَ قد حرَّكَهُ دافِعٌ بقضاءِ الكثير منَ الوقت معَ رِجالِ الدِّين اليَهُود، الذين كانُوا مَسؤولينَ عن الحالَةِ الرُّوحِيَّةِ للشَّعبِ اليَهُودِيّ، لأنَّهُ كانَ لدَيهِ فَهمٌ كامِلٌ لما توقَّعَهُ هؤُلاء الأنبِياء. ولكن علينا أن نتذَكَّرَ أنَّ بُولُس يُوضِحُ هذا التَّعليم العميق والحَيَوِيّ عن كيفَ ينبَغي أن يجِدَ التَّلاميذُ حُلُولاً لمشاكِلهم، وذلكَ بتَعزيزِ علاقاتِهم معَ المسيحِ ومعَ بعضِهم البَعض.

يختُمُ العددُ الثَّالِث عشَر هذا التَّعليم، وهُوَ بالحقيقَةِ يُشَكِّلُ بَرَكَةً ختامِيَّةً لرِسالَةِ بُولُس إلى أهلِ رُومية من خلالِ هذه الرِّسالَة: "ولِيَملأكُم إلهُ الرَّجاء كُلَّ سُرُورٍ وسَلامٍ في الإيمان لِتَزدادُوا في الرَّجاءِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس."رومية 15: 13).

وعلى مِثالِ البَركَة التي بها إختَتَمَ بُولُس الإصحاحِ الحادِي عشَر (11: 36)، هذه البَركة هي واحِدَةٌ من أعظَمِ الأعداد في كتابَاتِ الرَّسُول بُولُس كافَّةً. وسيَكُونُ هذا عدداً رائِعاً لمُشارَكَتِهِ معَ أُولَئِكَ المُؤمنين الذين تعرِفُونَهُم، والذين يعيشُونَ معَ الحقيقَةِ المُخيفَة لمَرَضٍ خَبيثٍ مُميتٍ أصابَهم، أو أصابَ شخصاً عزيزاً عليهِم خَسِرُوهُ أو بِصدَدِ خسارَتِهِ.

الرَّجاءُ هُوَ الإقتِناعُ أنَّ شَيئاً حَسَناً يُوجَدُ في هذا العالم، ويوماً ما سوفَ نكتَشِفُ هذا الشَّيء الحَسن، أو أنَّ هذا الشَّيء الحَسَن سوفَ يحدُثُ لنا. يُشيرُ العهدُ القَديم إلى هذا الإقتناع بأنَّهُ "رُؤية الخَير." (مزمُور 34: 12) في خاتِمَةِ إصحاحِ المحَبَّةِ العَظيم، كتبَ بُولُس أنَّهُ هُناكَ ثلاثَة قيَم أبديَّة تستَحِقُّ العنايَةَ في هذا العالم: الرَّجاء، الإيمان والمحبَّة. وبِدُونِ ترَدُّدٍ أعلَنَ أنَّ هذه المحبَّة هي أعظَمُ شَيءٍ في هذه القِيَم الأبديَّة الثَّلاثة.

الرَّجاءُ هُوَ قِيمَةٌ أبديَّةٌ، لأنَّهُ يقُودُنا إلى الإيمان. عندما يُوصَفُ الإيمانُ في بِدايَةِ ما يُعرَفُ بإصحاحِ الإيمان في الكتابِ المُقدَّس، (عبرانِيِّين 11)، نقرأُ أنَّ الإيمانَ يُعطينا مادَّةً للرَّجاء. فإن لم يَكُنْ لدَينا أيُّ بُرهانٍ أو سَبَبٍ للإيمانِ بأنَّ شَيئاً جيِّداً سيَحدُث، بإمكانِنا أن نتأمَّلَ فقط بأنَّ ذلكَ سيحدُثُ. ولكن، عندما نختَبِرُ الإيمان، وعندما نُؤمِنُ أنَّ اللهَ مَوجُودٌ وأنَّهُ يُجازِي الذين يطلُبُونَهُ، يُصبِحُ لدَينا أساسٌ لِلخَير الذي نتوقَّعُهُ أو نرجُوهُ.

نقرأُ في إصحاحِ الإيمان نفسِهِ أنَّهُ بِدُونِ إيمانٍ لا يُمكِنُ إرضاءُ الله أو الإقتِراب منهُ، ولكن بالإيمان يُمكِنُنا الإقتِراب منهُ وإرضاؤُهُ (عبرانِيِّين 11: 6). اللهُ يزرَعُ الرَّجاءَ في قُلُوبِ الكائِناتِ البَشَرِيَّة. ومَشيئَتُهُ هي أن يَقُودَنا رجاؤُنا إلى الإيمانِ الفادِي بالمسيح. فالرَّجاءُ إذاً هُوَ شَيءٌ يَقُودُنا إلى شَيءٍ (الإيمان) يَقُودُنا بِدَورِهِ إلى الله.

المحبَّةُ ليسَت شَيئاً يَقُودُنا إلى شَيءٍ يَقُودُنا إلى الله. عبَّرَ بُولُس عنِ المحبَّةِ كقِمَّةِ ثُلاثِيِّ القِيَم الأبديَّة، لأنَّ اللهَ محبَّة (1محبَّة 4: 8). عندما نختَبِرُ المحبَّة التي يكتُبُ عنها بُولُس بِفَصاحَةٍ، نكُونُ في علاقَةٍ معَ اللهِ، ويَكُونُ اللهُ في علاقَةٍ معنا (1يُوحَنَّا 4: 16).

هذه التَّعاليمُ المُتوازِيَة لبُولُس الرَّسُول، بِخُصُوصِ الرَّجاء، ينبَغي أن تُساعِدَنا لنَقدُرَ هذه البَرَكَة الجميلة حقَّ قَدرِها: "ولِيَملأكُم إلهُ الرَّجاء كُلَّ سُرُورٍ وسَلامٍ في الإيمان لِتَزدادُوا في الرَّجاءِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس." قُوَّةُ الرُّوح القُدُس هيَ الديناميكيَّة التي تجعَلُ وُجُودَ هذا السَّلام والفَرح مُمكِناً، حتَّى ولو لم يَكُنْ مُقنِعاً أو مُنسَجماً معَ المَنطِق.

هذا الرُّوح نفسُهُ هُوَ مصدَرُ المحبَّة، الذي هُوَ الشَّيءُ الأعظَم في العالم، بِحَسَبِ بُولُس. هذا يُساعِدُنا على فهمِ كَونِ المحبَّة أهمَّ هذه المبادِئ التي شارَكها بُولُس معَ تلاميذِهِ، الذين ينبَغي أن يتعلَّمُوا كيفَ يتعامَلُونَ معَ إختِلافاتِهِم، وكيفَ يُعَزِّزُونَ علاقاتِهِم معَ المسيح ومعَ بعضِهِم البَعض.

وهُوَ الآن سيُشارِكُ بِبَعضِ أهدافِ مُهِمَّتِهِ الشَّخصيَّة، معَ هؤُلاء التَّلاميذ في رُوما، لأنَّهُ يُجَنِّدُهُم ليُساعِدُوهُ على إتمامِ دَعوَتِهِ السَّماوِيَّة: "وأنا نفسي أيضاً مُتَيَقِّنٌ مِن جِهَتِكُم يا إخوَتِي أنَّكُم أنتُم مَشحُونُونَ صلاحاً ومَملُوؤُونَ كُلَّ عِلمٍ. قادِرُونَ أن يُنذِرَ بعضُكُم بعضاً. ولكن بأكثَرِ جسارَةٍ كتبتُ إليكُم جُزئِيَّاً أيُّها الإخوة، كمُذَكِّرٍ لكُم بِسَبَبِ النِّعمة التي وُهِبَت لي منَ الله. حتَّى أكُونَ خادِماً لِيَسُوعَ المسيح لأجلِ الأُمَم، مُباشِراً لإنجيلِ اللهِ كَكاهِنٍ ليَكُونَ قُربانَُ الأُمَم مقبُولاً مُقَدَّساَ بالرُّوحِ القُدُس." (رُومية 15: 14- 16).

يتفكَّرُ بُولُس هُنا بما كتبَهُ في هذهِ الرِّسالَة. يُعَبِّرُ عن بعضِ التَّقوِيات، خلالَ تعبيرهِ بحزمٍ عن ثِقَتِهِ بهم، وقُدرَتِهِم على إطاعَةِ وتطبيقِ كُلّ ما سَبَقَ وحضَّهُم على عملِهِ في الإصحاحاتِ السَّابِقَة.

إعتَرَفَ بُولُس ببعضِ الشَّجاعَةِ في الطَّريقَةِ التي كتبَ بها لهُم، وذَكَّرَهُم أنَّهُ حتَّى ولو كانَ مُثَقَّلاً بشدَّة لليهُود، ولكنَّهُ دُعِيَ وفُوِّضَ من قِبَلِ المسيح بأن يأتي بالكَثيرِ منَ الأُمَمِ إلى المسيح، مثل تلاميذ المسيح الرُّومانِيِّين الذين كتبَ لهُم هذه الرِّسالَة. وهُوَ يُشيرُ بشكلٍ جميلٍ إلى خدمَتِهِ المُدهِشة في عالَمِ الأُمم، عندَما يكتُبُ أنَّهُ يُقَدِّمُ أُولئِكَ الذين قادَهُم إلى الإيمان، كتَقدِمَةٍ مقبُولَةٍ ومُقَدَّسَةٍ عندَ اللهِ بالرُّوحِ القُدُس.

يُضيفُ بُولُس بعدَ هذا تصريحاً رائِعاً عن كيفيَّةِ إتمامِهِ لأهدافِ المُهِمَّةِ التي كلَّفَهُ بها المسيحُ المُقام والرُّسُل. فلقد صَرَّحَ أمامَ المَلِك أغريباس أنَّهُ لم يَكُن مُعانِداً لِلرُّؤيا السَّماوِيَّة التي قَبِلَها منَ المسيح المُقام، والتي كانت تقضِي بإعلانِ الإنجيل أمامَ اليَهُود، وأمامَ المُلُوك والأُمَم. (أعمال 26: 19، 20). ثُمَّ يُتابِعُ بالقَولِ لهؤُلاء الرُّومانِيِّين:

"فَلِي إفتِخارٌ في المَسيحِ يسُوع من جِهَةِ ما لِله. لأنِّي لا أجسُرُ أن أتَكَلَّمَ عن شَيءٍ مِمَّا لم يفعَلْهُ المسيحُ بِواسِطَتي لأجلِ إطاعَةِ الأُمَم بالقَولِ والفِعل. بِقُوَّةِ آياتٍ وعجائِبَ بِقُوَّةِ رُوحِ الله. حتَّى إنِّي من أُورشَليم وما حَولَها إلى اللِّيريكُون قد أكمَلْتُ التَّبشيرَ بإنجيلِ المسيح. ولكن كُنتُ مُحتَرِصاً أن أُبَشِّرَ هكذا. ليسَ حَيثُ سُمِّيَ المسيحُ لِئلا أبنِيَ على أساسٍ لآخر. بل كما هُوَ مَكتُوبٌ الذين لم يُخبَرُوا بهِ سيُبصِرُونَ والذينَ لم يسمَعُوا سيفهَمُون." (رومية 15: 17- 21)

ما كانَ بُولُس يَدَّعيهِ بِحَقٍّ هُنا، هُوَ أنَّهُ إذا رَسمنا دائِرة على خارِطَة من أُورشَليم إلى مُنتَصَفِ إيطالِيا، لن يُوجَدَ مكانٌ واحِد في تلكَ الدَّائِرة، الذي لم يكرِزْ فيهِ بُولُس بإنجيلِ يسُوع المسيح. أظهَرَ بُولُس قلبَ مُرسَلٍ حقيقيٍّ عندما أعلنَ أنَّهُ لا يُريدُ أن يكرِزَ بالإنجيل حيثُ عُرِفَ وسُمِّيَ إسمُ المسيحِ أوَّلاً، لأنَّهُ لم يُرِدْ أن يبنِيَ على أساسٍ لآخر.

جَوهَرُ هذه المُلاحَظاتِ الخِتامِيَّة التي قَدَّمَها هذا الرَّسُول العَظيم للأُمَم، هي أنَّهُ كانَ يحمِلُ العالَمَ بأسرِهِ في قَلبِهِ، لأنَّ العالَمَ بأسرِهِ كانَ على قَلبِ الله. يُظهِرُ تصريحٌ آخر مدَى هذه الرُّؤيا السَّماوِيَّة: "لِذلكَ كُنتُ أُعَاقُ المِرارَ الكَثيرَةَ عنِ المَجيءِ إليكُم. وأمَّا الآن فإذ لَيسَ لي مكانٌ بَعدُ في هذه الأقالِيم ولي إشتِياقٌ إلى المَجيءِ إليكُم مُنذُ سنينَ كَثيرَة. فعِندما أذهَبُ إلى إسبانيا آتي إليكُم. لأنِّي أرجُو أن أراكُم في مُرُورِي وتُشَيِّعُوني إلى هُناكَ إن تمَلأتُ أوَّلاً منكُم جزئِيَّاً." (رُومية 15: 22- 24)

في الإصحاحاتِ الأخيرة من سِفرِ الأعمال، كانَ لدى بُولُس هاجِسَ الوُصُولِ إلى رُوما. وعندما وصَلَها أخيراً، نأخُذُ الإنطبِاعَ بأنَّهُ تمَّمَ مُهِمَّتَهُ للأُمَم، لأنَّهُ وصَلَ إلى عاصِمَةِ أمبراطُوريَّة رُوما العالَميَّة آنذاك. ولكن، في التَّصريحِ أعلاه، نُدرِكُ أنَّهُ كانَ لدَيهِ هاجِسٌ بالوُصُولِ إلى رُوما، لأنَّهُ كانَ يعتَمِدُ على كنيسَةِ رُومية لتَكُونَ مركَزَ دَعمٍ وكنيسَةً مُرسِلَة، التي ستُمَكِّنُهُ من إعلانِ الإنجيل في إسبانِيا.

في بَعضِ رسائِلِهِ، يذكُرُ بُولُس تقدِمَةً كانَ يجمَعُها من كنائِسِ الأُمَم التي أسَّسَها في أماكِن مثل فيلبِّي وكُورنثُوس، لِيُوَفِّرَ مُساعَداتٍ للمُؤمنينَ اليَهُود المُتألِّمينَ في أُورشَليم. يذكُرُ هذه التَّقدِمَة في مُلاحَظاتِهِ الخِتامِيَّة للتَّلاميذ في رُوما: "ولكن الآن أنا ذاهِبٌ إلى أُورشَليم لأَخدُمَ القِدِّيسين. لأنَّ أهلَ مَكدُونِيَّة وأخائِيَّة إستَحسَنُوا أن يصنَعُوا تَوزيعاً لِفُقراء القِدِّيسين الذين في أُورشَليم. إستَحسَنُوا ذلكَ وإنَّهُم لهُم مَديُونُون. لأنَّهُ إن كانَ الأُمَمُ قدِ إشتَرَكُوا في رُوحِيَّاتِهِم، يجِبُ عليهِم أن يخدِمُوهُم في الجسَدِيَّاتِ أيضاً. فمَتَى أكمَلتُ ذلكَ وخَتَمتُ لهُم هذا الثَّمر، فسأمضِي مارَّاً بِكُم إلى إسبانِيا." (رومية 14: 25- 28)

رَسُولُ الأُمَمِ العَظيمُ هذا لم يُفَوِّتْ فُرصَةً ليُذَكِّرَ الأُمَم أنَّهُم مَديُونُونَ لليَهُودِ بالأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ مثل الأسفار المُقدَّسَة، وبالإضافَةِ إلى ربِّهم ومُخَلِّصهم يسُوع المسيح. جَميلٌ أن نُشاهِدَ هذا الرَّسُول، الذي إحتاجَ إلى وساطَةِ برنابا ليَحظَى بِقُبُولٍِ من التَّلاميذِ اليَهُود، الذين كان لدَيهِم ما يكفي منَ الأسبابِ ليَخافُوا من هذا الرَّجُل، الذي بِصِفَتِهِ شاوُل الطَّرسُوسِيّ كانَ قد قادَ حمَلاتٍ منَ الإضطِّهادِ القاسي ضدَّ كنيسة أُورشليم (أعمال 9: 26، 27).

يكتُبُ بولُس إعلاناً جميلاً آخرَ يتعلَّقُ بزيارَتِهِ المُتَوقَّعَة إلى رُوما وبأُولئكَ التَّلاميذ المسيحيِّين الذين كانُوا في الكَنيسةِ هُناك: "وأنا أعلَمُ أنِّي إذا جِئتُ إليكُم سأَجيءُ في مِلءِ بَرَكَةِ إنجيلِ المسيح." (رُومية 15: 29)

لقد سبقَ وكَتَبَ أنَّهُ يرجُو أن يُوصِلَ بعضَ البَركاتِ الرُّوحِيَّة لهُم، وأن يتبارَكَ بقُبُولِ بَركَةٍ منهُم (1: 11). فماذا يقصُدُ بِقَولِهِ أنَّهُ سيأتي إليهِم في ملءِ بَرَكَةِ الإنجيل؟ يُجيبُ على هذا السُّؤال عندما يكتُبُ للكُورنثِيِّينَ مُفَسِّراً الطَّريقة التي بها جاءَ إلى مدينَةِ كُورنثُوس: "وأنا لمَّا أتيتُ إليكُم أيُّها الإخوة، أتَيتُ لَيسَ بِسُمُوِّ الكَلامِ أوِ الحِكمَةِ مُنادِياً لكُم بِشَهادَةِ الله. لأنِّي لم أعزِمْ أن أعرِفَ شَيئاً بينَكُم إلا يسُوعَ المسيح وإيَّاهُ مَصلُوباً. وأنا كُنتُ عِندَكُم في ضَعفٍ وخَوفٍ ورِعدَةٍ كَثيرَةٍ. وكَلامي وكِرازَتي لم يَكُونا بِكَلامِ الحِكمَةِ الإنسانِيَّةِ المُقنِع، بَل بِبُرهانِ الرُّوحِ والقُوَّةِ. لكي لا يَكُونَ إيمانُكُم بِحِكمَةِ النَّاس بَل بِقُوَّةِ الله." (1كُورنثُوس 2: 1- 5).

وُصُولُهُ إلى رُوما كانَ مُشابِهاً لما كتَبَهُ للكُورنثِيِّين. عندما وَصَلَ إلى رُوما، كانَ بالحقيقَةِ سجيناً. فلقد قَدِمَ عبرَ رَحلَةٍ مَليئَةِ بالصُّعوباتِ عبرَ البَحر، نَجِدُ سَرداً مُفَصَّلاً عنها في الإصحاحين الأخيرَين من سفرِ الأعمال. ولقد إلتَقاهُ بعضٌ من أُولئِكَ المُؤمنينَ في رُوما منَ الذين كتبَ لهُم هذه الرِّسالَة، والذين كانُوا قد إجتازُوا مسافَةً طَويلَةً ليلتَقُوا بِبُولُس ويَكُونُوا معَهُ (أعمال 28: 15). لَو كُنتَ واحِداً من أُولئكَ التَّلاميذ في رُوما، الذين إستَلَمُوا النُّسخَةَ الأصلِيَّةَ الأُولى من تُحفَتِهِ اللاهُوتيَّة هذه، هل كُنتَ ستعتَبِرُهُ إمتيازاً لكَ أن تلتَقِيَ بكاتِبِ الرِّسالَةِ إلى أهلِ رُومية؟

قبلَ أن يكتُبَ تحيَّاتِهِ الشَّخصِيَّة في الإصحاحِ السَّادِس عشَر، كانت كَلِماتُهُ الأخيرة للتلاميذ في رُوما هي التَّالِيَة: "فأَطلُبُ إليكُم أيُّها الإخوَة بِرَبِّنا يسُوع المسيح وبِمَحَبَّةِ الرُّوح، أن تُجاهِدُوا معي في الصَّلَواتِ من أجلِي إلى الله. لِكَي أُنقَذَ منَ الذين هُم غَيرُ مُؤمِنينَ في اليَهُودِيَّةِ، ولِكَي تَكُونَ خِدمَتي لأجلِ أُورشَليم مَقبُولَةً عندَ القِدِّيسين. حتَّى أجيءَ إليكُم بِفَرَحٍ بإرادَةِ الله وأستَريحَ معَكُم. إلهُ السَّلامِ معَكُم أجمَعين. آمين." (رُومية 15: 30- 33)

لقد كانَ لدى بُولُس حُجَّةً كافِيَةً ليخافَ اليَهُودَ الذين في أُورشَليم واليَهُوديَّة، الذين لا يُؤمِنُون. فبِحَسَبِ السَّفر التَّاريخيّ المُوحَى بهِ في كنيسةِ العهد الجَديد، عندما وَصلَ إلى أُورشَليم، إختَبَرَ إضطِّهاداً قاسِياً، أدَّى إلى سجنِهِ الذي كانَ لا يزالُ أسيراً لهُ في سَفَرِهِ إلى رُوما، وكانت تكاليف رحلتِهِ مُغَطَّاةً من قِبَلِ الدَّولَةِ الرُّومانِيَّة. (أعمال 20- 28).

  • عدد الزيارات: 6202