الفَصلُ الثَّانِي "خُدَّامُ الله"
(رُومية 13: 1- 14)
"لتخضعْ كلُّ نفسٍ للسلاطينَ الفائقةِ. لأنّه ليسَ سلطانٌ إلا من اللهِ والسلاطينُ الكائنةُ هي مرتّبةٌ من اللهِ. حتّى إنّ مَن يقاومُ السلطانَ يقاومُ ترتيبَ اللهِ والمقاومونَ سيأخذونَ لأنفسِهِم دينونةً. فإنَّ الحكّامَ ليسُوا خوفاً للأعمالِ الصالحةِ بلْ للشرّيرةِ. أَفَتُريدُ أنْ لا تخافَ السلطانَ. افْعَلِ الصلاحَ فيكونَ لكَ مدحٌ منهُ. لأنّهُ خادمُ اللهِ للصلاحِ. ولكنْ إنْ فعلتَ الشرَّ فَخَفْ. لأنّهُ لا يحملُ السيفَ عبثاً إذ هو خادمُ اللهِ منتقمٌ للغضبِ منَ الذي يفعلُ الشرَّ. لذلك يَلزمُ أن يُخْضَعَ لهُ ليسَ بسببِ الغضبِ فقطْ بلْ أيضاً بسببِ الضميرِ. فإنّكُم لأجلِ هذا تُوفُونَ الجزيةَ أيضاً. إذ هم خُدَّامُ اللهِ مواظبونَ على ذلكَ بعينِهِ. فأَعْطُوا الجميعَ حقوقَهُم. الجزيةَ لمَنْ لهُ الجِزيةُ. الجِبايةَ لمَنْ لهُ الجبايةُ. والخوفَ لمَنْ لهُ الخوفُ والإكرامَ لمَنْ لهُ الإكرامُ". (رُومية 13: 1- 7)
إنَّ هذا القِسم العَمَلِيّ التَّطبيقي من أعظَمِ رِسالَةٍ بينَ رسائِلِ بُولُس الرَّسُول، بدأَ بحَضِّنا على تطبيقِ كُلِّ هذه التَّعاليم المُوحاة لبُولُس على نُفُوسِنا، على إخوَتِنا وأخواتِنا في مُجتَمَعِنا الرُّوحِيّ، ومن ثَمَّ على غير المُؤمنين في حضارَتِنا. يَحُضُّنا بُولُس الآن على تطبيقِ القِسم العَقائِديّ لهذه الرِّسالَة (الإصحاحات 1 – 11) على الحُكُومَة التي تَسُودُ علينا. بِكَلِماتٍ أُخرى، ينصَحُنا بُولُس بتَطبيقِ تُحفَتِهِ اللاهُوتيَّة الرَّائِعة على المَسؤُوليَّات التي تقَعُ على عاتِقِنا كمُواطِنين صالِحِين في المُجتَمَعِ وفي الوَطَنِ الذي نعيشُ فيهِ كتلاميذ للمسيح.
الإصحاحُ الثَّالِث عشَر هُوَ إصحاحٌ قَصير، ولكنَّهُ تصريحٌ قَوِيٌّ جدَّاً فيما يتعلَّقُ بالمُؤمِنِ كمُواطِن. وسيكتُبُ بُولُس لكنيسةِ فيلبِّي أنَّ مُواطِنِيَّتِنا الحقيقيَّة هي في السَّماوِيَّات (فيلبِّي 3: 20). وكما أشَرتُ سابِقاً في تعليقي على الإصحاحِ العاشِر، كانَ المُواطِنُونَ الرُّومانُ مُطالَبُونَ بأن يُلقُوا حفنَةً منَ البَخُّور مَرَّةً في السَّنة على نارِ مَذبَحٍ وَثَنِي، ويعتَرِفُوا أنَّ "قَيصَر هُوَ رَبّ!" آلافُ المُؤمنينَ ماتُوا لأنَّهُم رَفَضُوا أن يُعلِنُوا الولاءَ لِقَيصَر. الإعتِرافُ المُوحَى بهِ والذي كَلَّفَ المُؤمنينَ حياتَهُم، كانَ الأساسَ العَقائِديّ للشَّرِكَة في كَنيسَةِ العهدِ الجديد: "يسُوعُ رَبٌّ!" (1كُورنثُوس 12: 3) فنحنُ نتعهَّدُ بولائِنا الأوَّليّ والأقصَى، في كُلِّ مَرَّةٍ نعتَرِفُ فيها بأنَّ "يسُوعَ رَبٌّ!" (رُومية 10: 9)
رُغمَ ذلكَ، مَلايينُ المُؤمنين يعيشُونَ حياتَهُم هُنا على الأرض كمُواطِنينَ في أُمَمِهم. يتكلَّمُ هذا الإصحاحُ عن الطَّريقَة التي توجَّبَ على المُواطِنين السَّمَاوِيِّين الذي كانُوا يَعيشُونَ في رُوما أن يُطَبِّقُوا تعليمَ هذه الرِّسالَة على السُّلطَةِ الحاكِمَةِ الفاسِدَة، غير الأخلاقِيَّة وغير العادِلَة التي كانَت تُسَيطِرُ على حياتِهم في عاصِمَةِ الأمبراطُوريَّةِ الرُّومانِيَّة. منَ الواضِحِ أنَّهُ علينا أن نقُومَ بالتَّطبيقاتِ الصَّحيحة على السُّلطاتِ الحاكِمة التي كانت تُلزِمُ قوانِينَ الوَطن، المدينة، القَرية، أو المُجتَمَعِ القُرَوِيّ الذي نعيشُ فيه.
يبدَأُ هذا الإصحاح بتقديمِ تصريحٍ مُدهِش. يَقُول: "لأنَّهُ ليسَ سُلطانٌ إلا منَ اللهِ، والسَّلاطين الكائِنَة هي مُرَتَّبَةٌ منَ الله." ولقد سمَّى بُولُس ثلاثَ مرَّاتٍ في هذه الأعداد السَّبعة، أُولئكَ الذي يطَبِّقُونَ قانُونَ الأمبراطُوريَّة الرُّومانِيَّة، "خُدَّام الله." ولقد كانَ الأمبراطُور الشِّرِّير والمُنحَرِف نيرون على عرشِ الأمبراطُوريَّة الرُّومانِيَّة، عندما أعلنَ بُولُس أنَّ أُولئكَ الذين لديهِم سُلطَة الحُكم، يأخُذُونَ سُلطَتَهُم بتعيينٍ منَ الله.
ولقد ذُكِرَت هذه الحقيقَةُ بِوضُوحٍ تامٍّ من قِبَلِ النَّبيِّ دانيال. كشابٍّ يافِعٍ، وقفَ دانيالُ في مَحضَرِ أحدِ أعظَمِ وأقوى الأباطِرة الدِّيكتاتُوريِّين الذين عاشُوا على الأرض، وقالَ، "اللهُ يَعزِلُ مُلُوكاً ويُنَصِّبُ مُلُوكاً." (دانِيال 2: 21).
الإصحاحُ الرَّابِع من سفرِ دانيال هُوَ واحِدٌ من أروَعِ إصحاحاتِ الكتابِ المُقدَّس، لأنَّهُ يُمَثِّلُ إعتِرافَ إيمانِ الأمبراطُور نبُوخذنصَّر، الذي حكمَ عالَمَ الأمبراطُوريَّةِ البابِليَّة. بعدَ أن بَرهَنَ دانيالُ حقيقيَّةَ الله لنبُوخَذنصَّر عبرَ سنواتٍ طويلة، ضَرَبَ اللهُ أمبراطُورَ بابِل بالجُنُون. فقضَى سبعَ سنواتٍ تائِهاً في البَراري والحُقُولِ مثلَ الحيوان، إلى أن جعَلَهُ اللهُ يعرِفُ "أنَّ العَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ في مَملَكَةِ النَّاسِ، فيُعطِيها من يَشَاءُ ويُنَصِّبُ عليها أدنَى النَّاس." (دانيال 4: 17).
يَعيشُ المَلايينُ منَ المُؤمنينَ اليَوم تحتَ حُكمِ وسُلطَةِ الحُكَّامِ الدِّكتاتُوريِّينَ الأشرار، غير العادِلين، والذين لا يَعرِفُونَ الرَّحمَة. ولهذا، تنطَبِقُ تعاليمُ بُولُس الرَّسُول هذهِ عليهم بنفسِ الطريقة التي كانت تنطَبِقُ فيها على أيَّامِ المُؤمنينَ الذين كُتِبَت لهُم هذه الكلمات أصلاً. يُعلِّمُ بُولُس أنَّهُ علينا أن لا نُقاوِمَ هؤُلاء الحُكَّام، لأنَّنا إذا فعَلنا، نُقاوِمُ بذلكَ ترتيبَ الله. ويُضيفُ أنَّ أُولئِكَ الذين يُقاوِمُونَ، سيجلُبُونَ على أنفُسِهِم الدَّينُونَة. ويَقُولُ بُولُس أنَّهُ حتَّى الحُكَّام الأشرار إلى هذه الدَّرجَة، لم يُوضَعُوا لمُعاقَبَةِ الأعمالِ الصَّالِحَة، بل الشرِّيرة. وهكذا فالمُواطِنُ الذي يلتَزِمُ بالقَانُون، ليسَت لدَيهِ حاجَةٌ ليَخافَ هذه السُّلطات. فإذا أردنا أن لا نخافَ من هذه السُّلطات، علينا أن نُطيعَ القانُون.
الحاكِمُ الذي يُطَبِّقُ القانُون هُوَ صالِحٌ بالنِّسبَةِ للمُواطِنينَ الصَّالِحين. ولقد أعلنَ بُولُس ثلاثَ مرَّاتٍ أنَّ هذا السُّلطان هُوَ "خادم الله" للصَّلاح لأُولئكَ الذين يُريدُونَ أن يَعيشُوا حياةً صالِحَةً ومُسالِمَة. ولكن، هُناكَ أيضاً التَّحذيرُ بأنَّنا إذا كَسَرنا القانُون، فإنَّ هذا ضابِطَ السَّلامِ سوفَ يستَخدِمُ سيفَهُ ضِدَّنا. يُعلِنُ بُولُس بأنَّ هذا الحاكِم الذي يُطَبِّقُ القانُون، هُوَ خادِم الله عندما يَستَخدِمُ سَيفَهُ ضِدَّ أُولئكَ الذين يكسِرُونَ القانُون.
في هذا الإطار يَرجِعُ بُولُس إلى مَوضُوع غَضَبِ الله. فلقد أعلنَ في الإصحاحِ الأوَّل أنَّ "غَضَب اللهِ مُعلَنٌ منَ السَّماءِ على جَميعِ فُجُورِ النَّاسِ وإثمِهِم،" من خلالِ الإنجيل الذي كَرَزَ بهِ. هذا غَضَبُ اللهِ المُستَقبَلِيّ، الذي سيُطَبَّقُ في الدَّينُونَةِ القادِمَة. ولكن، في هذا المقطع، يُعلِنُ بُولُس غَضَب اللهِ الحاضِر على جميعِ أُولئكَ الذين يتعدُّونَ النَّامُوس الذي وضَعَهُ الله. هذا الغَضَبُ الإلهيُّ الحاضِرُ يُعَبَّرُ عنهُ ويُطَبَّقُ من خِلالِ ضُبَّاطِ فَرضِ القانُون.
قد يُمَثِّلُ ضابِطُ فَرضِ القانُونِ هذا الشُّرطَة، أو إذا وَصَلنا إلى مُستَوىً أعلى من التَّطبيق، قد يُطَبَّقُ هذا على الجُنُود، الذي يُستَخدَمُونَ عندَما تُواجِهُ الشُّرطَةُ المَحَلِّيَّةُ تحَدِّياتٍ تفُوقُ قُدُراتِها. هُناكَ حُجَّةٌ قَويَّةٌ في الكتابِ المُقدَّس لأُولئكَ الذين يُعارِضُونَ الحَرب، ويُعلِنُونَ أنفُسَهُم بأنَّهُم لا-عُنفِيُّون أو مُسالِمُون. أنا أكُنُّ إحتِراماً كَبيراً للمُسالِمِ المُخلِص. أنا لَستُ مُسالِماً، وأسبابِي لعَدَم كَونِ مُسالِماً أجِدُها في رُومية 13: 1- 7.
هُناكَ مُلاحَظتانِ هامَّتانِ ينبَغي تقديمَهُما عن هذه الأعداد. المُلاحَظَةُ الأُولى هي أنَّ هذا ليسَ التَّعليم الوَحيد في الكتابِ المُقدَّس حولَ هذا المَوضُوع. المُلاحَظَة الثَّانِيَة هي أنَّ ما يكتُبُ عنهُ بُولُس هُنا حولَ سُلطَة الحُكم بأنَّها خادِمة الله، ليسَ صَحيحاً دائماً. فهُناكَ أيضاً حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ في الكتابِ المُقدَّس لما يُمكِنُ تسمِيَتُهُ "بالعِصيانِ المَدَنِيّ."
في الأيَّامِ المُبَكِّرَة للكَنيسَةِ الأُولى، أمَرَ رِجالُ الدِّينِ الرُّسُلَ بأن يمتَنِعُوا تماماً عنِ الكِرازَةِ بالمَسيح. وفي أوَّلِ مَرَّةٍ حَدَثَ هذا، تجاوَبَ تلاميذُ المسيح بما مَعناهُ أنَّهُ وحدَهُم رِجالُ الدِّينِ المُحتَرَمينَ أُولئِكَ، الذين أصدَرُوا هذا الأمر، لديهم ما يكفي منَ الحِكمة ليَعرِفُوا ما إذا كانَ على الرُّسُل الأوائِل أن يُطيعُوا اللهَ أمِ النَّاس. ولكن، في المَرَّةِ التَّالِيَة التي مُنِعَ فيها الرُّسُل بأن يكرِزُوا بالمسيح، أجابُوا مُباشَرَةً، "ينبَغي أن يُطاعَ اللهُ أكثَرَ منَ النَّاس." (أعمال 4: 19؛ 5: 29). تُعَلَِّمُنا هذه الحادِثَة أنَّهُ تُوجَدُ أوقاتٌ في حياةِ المُؤمنينَ، حيثُ سيتوجَّبُ عليهِم أن يتجاوَبُوا معَ السُّلطاتِ الفاسِدَة بالعِصيانِ المَدَنِيّ.
عندما سألَ رِجالُ الدِّينِ اليَهُودُ يسُوعَ عمَّا إذا كانَ يَحِقُّ أن تُدفَعَ الجِزيَةُ لِقَيصَر، أعطى يسُوعُ تعليماً عميقاً عن قضايا مُواطنيَّة المُؤمن التَّقِيّ (متَّى 22: 17- 21). كانَ رِجالُ الدِّينِ أُولئكَ يُحاوِلُونَ إيقاعَ المَسيح، ظَنَّاً منهُم أنَّهُم طَرَحُوا عليهِ سُؤالاً ما كانَ قادِراً أن يُجيبَ عليهِ. فلو قالَ يسُوعُ أنَّهُ منَ الخَطَأ أن تُدفَعَ الضَّرائِبُ إلى رُوما، لقامَ الجُنُودُ الرُّومانُ الذي كانَ مَوجُودُونَ في الهَيكَلِ آنذاك بإلقاءِ القَبضِ مُباشَرَةً على يسُوع. ولَو قالَ أنَّهُ منَ الصَّوابِ دَفع هذه الضَّرائِب، لَكَانَ بِذلكَ قد وجَّهَ إهانَةً لِليَهُود، ولا سِيَّما الأغيارُ الذينَ آمَنُوا بمُتابَعَةِ المُقاوَمَة ضِدَّ الإحتِلالِ الرُّومانِيّ.
عندَها طَلَبَ يسُوعُ قُطعَةً منَ النُّقُودِ، وعندما رَفعَها، طرحَ السُّؤال، "لِمَن هذه الصُّورَةُ المطبُوعَةُ على هذه العُملَة؟" فكانَ الجوابُ، "لِقَيصَر." فجاءَ جوابُهُ العميق والحكيم سُؤالِهم الأساسِيّ، "إذاً أعطُوا ما لِقَيصَرَ لِقَيصَر، وما للهِ لله." (متَّى 22: 21). وكما هي الحالُ معَ تعاليمِ يسُوع كافَّةً، "الأشياءُ الواضِحَة هي الأساسِيَّة، والأشياءُ الأساسِيَّة هي الأشياءُ الواضِحَة." القِطعَةُ النَّقدِيَّةُ كانت تحمِلُ صُورَةَ قَيصَر مصكُوكَةً عليها، فلهذا ينبَغي إعطاء المال لِقَيصَر. وأنتُم لديكُم صُورَةُ اللهِ مَطبُوعَةٌ عليكُم، فأعطُوا أنفُسَكُم كُلِّيَّاً لله. بِكَلماتٍ أُخرى، إدفَعُوا ضرائِبَكُم، ولكن أعطُوا اللهَ الولاءَ الكامِل. أحياناً، يُطالِبُكُم قَيصَر بما يَخُصُّ اللهَ. عندما يَفعَلُ ذلكَ، لا يُمكِنُكُم أن تَضَعُوا قيصَرَ أولاً وتهبُوهُ نُفُوسَكُم.
لا يتوجَّبُ علينا أن نُطيعَ قوانِينَ قيصَر لِمُجَرَّدِ أنَّنا سنختَبِرُ غَضَبَ اللهِ الحاضِر على أيدِي السُّلطاتِ الحاكِمَة إن لم نُطِعْها. بل علينا أن نُطيعَ القانُون وأن نَكُونَ مُواطِنينَ صالِحين لأجلِ الضَّمير. ينبَغي على المُؤمن أن يُطيعَ القانُون لأنَّهُ منَ الصَّوابِ أن يُعمَلَ هكذا. فضميرُهُ لن يُوبِّخَهُ إذا لم يُطِعْ القانُون كمُواطِنٍ صالِح. وهكذا علينا أن ندفَعَ ضرائِبَنا كامِلَةً، وأن لا نحتَفِظَ بأيِّ شَيءٍ يتوجَّبُ علينا دَفعَهُ للحُكُومة.
كتبَ رَجُلٌ في أميركا لمَكتَبِ جمعِ الضَّرائِبِ قائِلاً: "أُرسِلُ إليكُم طَيَّهُ خمسمائة دُولار أدينُ بها لكُم، لأنَّني منذُ خمسَة عشرَ عاماً غَشَشتُ في حساباتِ ضرائِبِي، وصارَ ضميري يُعَذِّبُني نهاراً ولَيلاً، فلم أعُدْ قادِراً على النَّوم بِسُهُولَة. ولا أزالُ في هذه الحالَ حتَّى الآن، غيرَ قادِرٍ على النَّومَ براحَة، ولهذا أُرسِلُ لكُم هذا المبلَغ لأُصَفِّي حسابي وضَميري."
الأُمُورُ التي تنتطَبِقُ علينا في هذا المقطع واضِحَةٌ جدَّاً. فالحُكُوماتُ كانت تُقَدِّرُ قيمَةَ الضَّرائب المُتَوجِّبَة على رعاياها منذُ آلافِ السَّنين. ولقد كتبَ بُولُس أيضاً أنَّهُ ينبَغي علينا أن نحتَرِمَ ونخافَ أُولئِكَ الذينَ هُم في منصِبٍ يتطلَّبُ إحتِرامَهُم وخوفَهُم. ويَحُضُّنا بُطرُس على أن نُكرِمَ المَلِك – الحاكم الأعلى. (1بُطرُس 2: 17)
ثُمَّ يَرجِعُ بُولُس لتَوصِياتِ التَّطبيقِ العَمَلِيّ، كتلكَ التي أعطانا إيَّاها في الإصحاحِ الثَّانِي عشَر: "لا تَكُونُوا مَديُونِينَ لأَحَدٍ بِشَيءٍ إلا بأن يُحِبَّ بَعضُكُم بَعضاً. لأنَّ من أحَبَّ غَيرَهُ فقد أكمَلَ النَّامُوس. لأنَّ لا تَزنِ لا تَقتُلْ لا تَسرِقْ لا تَشهَدْ بالزُّور لا تَشتَهِ؛ وإن كانت وَصِيَّةً أُخرى هي مَجمُوعَةٌ في هذه الكَلِمَة أن تُحِبَّ قَريبَكَ كَنَفسِكَ. المحَبَّةُ لا تَصنَعُ شَرَّاً لِلقَريب. فالمَحَبَّةُ هي تَكميلُ النَّامُوس." (رُومية 13: 8- 10)
يبني بُولُس تعليمَهُ دائماً على تعليمِ يسُوع. ولقد ذَكَرَ رَبُّهُ سابِقاً أنَّهُ جاءَ ليُتَمِّمَ نامُوسَ مُوسى والله (متَّى 5: 17- 20). ولقد فعلَ ذلكَ بتَمريرِ نامُوسِ اللهِ من خلالِ عَدَسَةِ محبَّةِ اللهِ، قبلَ أن يُطَبِّقَ نامُوسَ اللهِ على حياةِ شَعبِ الله. يُشيرُ بُولُس إلى هذا في مكانٍ آخر بعبارَة "رُوح النَّامُوس." (2كُورنثُوس 3: 6) فإذا أحبَبْنا قَريبَنا، لن نكسُرَ أيَّاً منَ الوصايا المُتَعَلِّقَة بقَريبِنا. في هذه الأعداد، ينطِقُ بُولُس بما يَقصِدُهُ بِرُوحِ النَّامُوس، وبما قصدَهُ يسُوعُ عندما قالَ أنَّهُ جاءَ ليُتَمِّمَ النَّامُوس.
وتستَمِرُّ التَّطبيقاتُ العمَليَّة عندَ ختامِهِ لهذا الإصحاح: "هذا وإنَّكُم عارفُونَ الوقتَ أنَّها الآنَ ساعَةٌ لِنَستَيقِظَ منَ النَّوم. فإنَّ خلاصَنا الآن أقرَبُ مِمَّا كانَ حِينَ آمَنَّا. قد تناهَى الليلُ وتقارَبَ النَّهار، فلنَخلَعْ أعمالَ الظُّلمَةِ ونَلبَسْ أسلِحَةَ النُّور. لِنَسلُكْ بِلِياقَةٍ كما في النَّهار، لا بِالبَطَرِ والسُّكرِ، لا بالمَضاجِعِ والعَهر، لا بِالخِصامِ والحَسَد. بَلِ إلبَسُوا الرَّبَّ يسُوعَ المسيح ولا تَصنَعُوا تَدبيراً لِلجسَد لأَجلِ الشَّهَوات." (رُومية 13: 11- 14).
يكتُبُ بُولُس قائِلاً أنَّهُ قد تناهَى اللَّيلُ وتقارَبَ النَّهار. كانَ يسُوعُ نُورَ العالم، وطالَما كانَ في هذا العالم، كانت المرحَلَة وكأنَّها النَّهارُ الرُّوحِيّ. كتبَ بُطرُس يَقُولُ أنَّهُ عندما نقتَربُ من كَلِمَةِ اللهِ في ظُلمَتِنا الرُّوحِيَّة، تحدُثُ مُعجِزَتانِ في قُلُوبِنا: ينفَجِرُ النَّهارُ ويطلَعُ كَوكَبُ الصُّبحِ في قُلُوبِنا (2بُطرُس 1: 19). عندَما نَكُونُ قدِ إختَبَرنا الولادَةَ الجديدة، كما تَمَّ وَصفُها بهذه الإستِعاراتِ الجميلة، تَكُونُ لَدَينا القُدرَة على أن نَكُونَ النُّور، وأن نَكُونَ أنواراً في هذا العالم (متَّى 5: 14؛ فيلبِّي 2: 14- 16). ويَتِمُّ حَضُّنا لِنَكُونَ نُورَ العالم وأنواراً في هذا العالم إلى أن يرجِعَ يسُوع (متَّى 5: 16؛ فيلبِّي 2: 15). وعندَما سيَرجِعُ يسُوع، سيَكُونُ رجُوعُهُ النَّهارَ الرُّوحِيَّ لهذا العالم.
يُخبِرُنا بُولُس الرَّسُول أنَّ طُلُوعَ النَّهارِ أقرَبُ مِمَّا كانَ حِينَ آمنَّا، لا بَل هُوَ على الأبواب. فهُوَ لا يتكلَّمُ فقط عَن رُجُوعِ الرَّبّ عندما يكتُبُ هذه الكَلِمات. بل هُوَ يتحدَّى المُؤمنين بأن يُطَبِّقُوا تحريضاتِهِ للمحبَّة طالما الوقت يُدعَى نهار، لأنَّ الليلَ آتٍ حينَ لن يستطيعُوا أن يُحِبُّوا بَعضُهُم بَعضاً، ولا النَّاس الهالِكينَ الذين حولَهُم. ولقد قدَّمَ يسُوعُ نمُوذَجاً وأعطى التَّحريضَ نفسَهُ لتلاميذِهِ عندَما قالَ: "ينبَغي أن أعمَلَ أعمالَ الذي أرسَلَني ما دامَ نهارٌ. يأتي لَيلٌ حِينَ لا يستَطيعُ أحَدٌ أن يعمَلَ." (يُوحَنَّا 9: 4)
تَصِفُ الكثيرُ منَ الدِّياناتِ والأشعار المَوتَ كرُقادٍ أو نَوم. وتَصفُ كلِمَةُ اللهِ الحياةَ كأنَّهَا نَومٌ أو رُقادٌ، والمَوتُ كأنَّهُ الإستِيقاظُ منَ النَّوم (مَزمُور 90: 5). منَ الواضِحِ أنَّ بُولُس كانَ يُفَكِّرُ بِرُجُوعِ المسيح وبنهايَةِ حياتِنا، عندما كتبَ هذه التَّوصِياتِ الجميلة. فهُوَ يَحُضُّنا لنَستَيقِظَ منَ النَّوم، ولِنَخلَعَ الطبيعَةَ القديمة، ونلبَسَ ونسلُكَ بإستِقامَة.
وإذ يكتُبُ بُولُس للأفَسُسِيِّين، يستَخدِمُ هذه الإستِعارات بتفاصِيلَ أعظَم (أفسُس 4: 24- 5: 17). عندما نَستَيقِظُ في الصَّباح، مُعظَمُنا نَنزِعُ ثيابَ النَّوم، ونأخُذُ من خزانتِنا الثِّيابَ التي نُريدُ أن نرتَدِيَها في ذلكَ اليَوم. يستَخدِمُ بُولُس هذه الإستِعارَة ليَقُولَ لنا أنَّهُ لدَينا خَيارانِ في كُلِّ يَوم. بإمكانِنا أن نرتَدِيَ أسمالَ حياتِنا القَديمة، أو أن نلبَسَ أثوابَ حياتِنا الجديدة.
يَصِفُ بُولُس هذه الأسمالِ والأثواب بتفصيلٍ كبير. فأسمالُ الحياةِ القَديمَة هي مثل الغَضَب، المَرارَة، الإحتِيال، العلاقات الفاسدة والمَشبُوهة، الكَذِب، السَّرِقَة، والخَطايا الجِنسيَّة. ويَصِفُ بُولُس أيضاً أثوابَ الحياةِ الجديدة بكَونِها الحَقّ، التَّفاهُم الذي يَبنينا والذي يُوصِلُ النِّعمَةَ للشَّخصِ الآخر، المحبَّة، القَلب الحَنُون، والغُفران المُتَبَادَل.
في هذا المَقطَع، يُعطينا بُولُس تعبيراً مُلَخَّصاً عن هذه الإستِعارَة نفسِها. فأسمالُ الحَياةِ القديمة، التي ينبَغي علينا طَرحَها، هي البَطَر والسُّكر، المَضاجِع والعَهر، الخِصام والحَسَد. ثُمَّ علينا أن نلبَسَ الرَّبَّ يسُوعَ المسيح، وأن لا نَصنَعَ تَدبيراً لِلجَسَد (أي الطَّبيعة الإنسانِيَّة بِدُونِ مُساعَدَةِ الله)، لإشباعِ الشَّهوات.
لقدِ إشتَهَرَ هذا المقطَعُ بِسَبَبِ تجديدِ القِدِّيس أُوغسطِينُوس، الذي عاشَ في القَرنِ الرَّابِع. كانَ يعيشُ حياةً فاسِقَةً مَليئَةً بِكُلِّ أنواعِ الخطايا غير الأخلاقيَّة. وذاتَ يومٍ، كانَ في حَديقَةٍ معَ أحدِ أصدِقائِهِ، وكانَ يُعَبِّرُ لهُ عن عجزِهِ وعدَمِ قُدرَتِهِ على تغييرِ سُلوكهِ غير الأخلاقِيّ والسَّيئ. وكانَ يُوجَدُ أولادٌ يَلعبُونَ في الحديقَةِ المُجاوِرَة، في الجانِب الآخر منَ الجدار. فظَنَّ أُوغسطينُوس أنَّهُ سَمِعَ ولداً يَقُولُ لهُ، "خُذْ وإقرَأْ." وعلى طاوِلَةٍ قريبَةٍ منهُ، كانَت تُوجَدُ نُسخَةٌ عن رِسالَة بُولُس إلى أهلِ رُومية. فأخذها أُوغسطينُوس، فوقَعَت عيناهُ على هذه الكلمات: "لِنَسلُكْ بِلَياقَةٍ كما في النَّهار، لا بالبَطَرِ والسُّكر، لا بالمضاجِعِ والعَهر، لا بِالخِصامِ والحَسَد. بل إلبَسُوا الرَّبَّ يسُوعَ المسيح، ولا تَصنَعُوا تدبيراً لِلجَسَد لأجلِ الشَّهوات." (رُومية 13: 13- 14).
في تلكَ اللحظَةِ بالتَّحديد، دخَلَ المسيحُ حياةَ أُوغسطِينُوس. فأصبحَ إنساناً مُتَغَيِّراً، وصارَ أحدَ أعظَمِ المسيحيِّين الذين عاشُوا في هذا العالم على الإطلاق. لقد كانَ قائِداً قَوِيَّاً لكنيسةِ شمالِي إفريقيا، ومن خلالِ كتاباتِهِ كانَ بَرَكَةً للمَلايين منَ المُؤمنينَ حولَ العالم منذُ القَرن الرَّابِع للميلاد.
لم يبدَأْ بُولُس بالقِيامِ بتطبيقاتٍ لتعليمِهِ في هذه الرِّسالة، إلى أن كَتَبَ الإصحاح الثَّانِي عشَر. في الإصحاحِ الخامِس، قدَّمَ التَّطبيق أنَّ الخُطاةَ الذين أُعلِنُوا أبراراً، عليهِم أن يحيُوا بإستِقامَةٍ، وأظهَرَ لهُم كيفَ يعيشُ الإنسانُ بلياقَة. كانَ هذا تطبيقاً مُوجَزاً لما يُعَبِّرُ عنهُ هُنا، في الإصحاحِ الثَّالِث عشَر، بأكثَرِ إسهاب.
علينا أن لا نصنَعَ تدبيراً لِلجَسَد، أي لِطَبِيعَتِنا الإنسانِيَّة المَعزُولَة عن مُساعَدَةِ الله، وعلينا أن لا نَنسَاقَ بشَهَواتِ الجسد. رُغمَ أنَّ هذه الكلمات لها تطبيقٌ أوسَع من مُجَرَّدِ الخطايا الجنسيَّة، ولكنَّ بُولُس كانَ يتكلَّمُ بشَكلٍ خاصٍّ عن هذه الخطايا الجنسيَّة. فلقد كتبَ الكثيرَ لكنيسَةِ كُورنثُوس عن خطاياهُم الجنسيَّة. ولقد واجَهَ الكُورنثِيُّونَ صَراعاتٍ معَ هذه النَّاحِيَة من حياتِهِم الرُّوحيَّة لأنَّ مَدينَةَ كُورنثُوس كانت مُرادِفاً للنَّجاسَةِ الجنسيَّة.
كانت عِبادَةُ الأصنامِ بارِزَةً هُناك، ومنذُ أن إعتَبَرَ البَعضُ إلَهَهُم كمَصدَر الحُبّ الجِنسيّ، أصبَحَت عبادَةُ الوَثَنِ تتضمَّنُ نظاماً مُتَطَوِّراً للفِسق، بما في ذلكَ الشُّذُوذ الجنسي ودعارَة الأطفال. ولقد كانَ الكثيرُونَ من الذي أصبَحُوا مُؤمنينَ وأعضاءَ في كنيسَةِ كُورنثُوس التي أسَّسَها بُولُس هُناك، كانُوا مُتَوَرِّطينَ في هذا النَّوع منَ الخطايا غير الأخلاقِيَّة، قبلَ أن أصبَحُوا مُؤمنين. والآن وكأتباع ليسُوع المسيح، واجَهَ بُولُس نجاسَتَهُم الجنسيَّة، وسألَهُم، "ألَستُم تعلَمُونَ أنَّ جسَدَكُم هُوَ هَيكَلٌ للرُّوحِ القُدُس الذي فيكُم، الذي لكُم منَ الله، وأنَّكُم لَستُم لأنفُسِكُم؟ لأنَّكُم إشتُريتُم بِثَمَن؛ فمَجِّدُوا اللهَ في أجسادِكُم وفي أرواحكُم التي هي لله." ثُمَّ يَقُولُ ما معناهُ، "لأنَّ جسدَكُم لَم يُخلَقْ للزِّنَى، بل لله." (1كُورنثُوس 6: 13، 19، 20).
هذه الظُّرُوف نفسُها كانت تَسُودُ على كُلِّ الأمبراطُوريَّةِ الرُّومانِيَّة، وكان بُولُس يقصُدُ هذا النَّوع منَ الخطايا الجنسيَّة عندما كتبَ هذا التَّطبيق: "لِنَسلُك بِلِياقَة، كما في النَّهار، بالبَطَرِ والسُّكر، لا بالمَضاجِعِ والعَهر، بال بالخِصامِ والحَسَد. بل إلبَسُوا الرَّبَّ يسُوعَ المسيح، ولا تصنَعُوا تدبيراً للجَسَد لأجلِ الشَّهوات."
- عدد الزيارات: 3114