نظرَة عن كَثَب إلى الرسالةِ الأُولى
هل إنقَسَمَ المسيحُ؟ (1كُورنثُوس 1-4)
إنَّ الرِّسالَةَ الأُولى إلى أهلِ كُورنثُوس هي رِسالَةٌ تَصحِيحِيَّة، واجَهَ فيها الراعي المُؤسِّس، بُولُس، مشاكِلَ في كنيسةِ كُورنثُوس. المُشكِلة الأُولى التي واجَهَها بُولُس في هذه الرسالة كانت مُشكِلة الإنقِسام. لقدِ إنقَسَمَ المُؤمِنُونَ حولَ من كانَ القائد الأعظَم في كنيستِهم. كان تقييمُهُم لقادَتِهم يعتَمِدُ بِشكلٍ أساسِيّ على من هُوَ الذي قادَهُم للمسيح، أو من هُوَ الذي عمَّدَهُم. كانَ البعضُ يقُولُون، "أنا لِبُولُس،" بينما آخرُونَ يقُولون "أنا لأبُولُّس،" "أنا لِصَفا،" أو "أنا للمسيح." (1: 12). ولكنَّ بُولُس واجَهَ مُشكِلَةَ الإنقِسام هذه بطرحِ سُؤالٍ جَوهَري: "هل إنقَسَمَ المسيحُ؟" (13)
عندما سألَ بُولُس هل إنقَسَمَ المسيحُ، دخَلَ إلى صُلبِ قضايا الإنشِقاق في كنيسةِ كُورنثُوس. بما أنَّنا نُؤمِنُ أساساً بقِيامَةِ يسُوع، فنحنُ نُؤمِنُ أيضاً أنَّ يسُوعَ المسيحَ حَيٌّ، وأنَّهُ يحيا في قُلُوبِنا.
إن كانَ المسيحُ يحيا في قُلُوبِ المُؤمنينَ جميعهم، عليهم أن يُوافِقوا على القضايا الأساسيَّة المُتعلِّقَة بالمَسيح، وأن يَعرِفُوا أنَّ المسيحَ لا يُمكِن أن ينقَسِمَ حولَ هذه القضايا. فكيفَ يشعُرُ المسيحُ الساكِنُ فينا حِيالَ العِرق أو اللَّون؟ وإن كانَ المسيحُ يحيا فينا وإن كُنَّا نحنُ نحيا في المسيح، فكيفَ ينبَغي أن نشعُرَ حِيالَ العِرق أو القضايا الأُخرى؟
فإذا أُثيرَت بيننا قضايا التمييز العُنصُريّ، حُكم الإعدام، أو أيَّة قضِيَّة أُخرى، فبما أنَّ المسيحَ الذي يحيا فينا يشعُرُ بطريقَةٍ واحِدَةٍ حِيالَ هذه القضايا، نعرِفُ أنَّ مُشكِلَةَ إنقِسامِنا حولَ هذه القَضايا ليسَت بسبب كون المسيح يشعُرُ بطُرُقٍ مُختَلِفة حيالَ هذه القضايا. إنَّ مُشكِلَةَ إنقِسامِنا حولَ هذه القضايا تكمُنُ فينا نحنُ أتباعُ المسيح. الخطأُ يكمُنُ فينا. وكانَ بُولُس يكتُبُ لكَي يُصحِّحَ خطأَ الإنشِقاق بينَ الكُورنثُوسيِّين، جاعِلاً جوهَرَ رسالتِهِ لهُم، أن يتبَعُوا المسيح وليسَ القادة البَشَريِّين. كتبَ لأُولئكَ الذين كانُوا يتمحوَرُونَ حولَهُ وحولَ خِدمتِهِ، عندما كتبَ الإصحاحات الأربَعة الأُولى من رسالتِه.
ختمَ بُولُس هذا المقطَع قائِلاً أنَّهُ هُوَ زرعَ، أبُولُّس سقَى، ولكنَّ الله هُوَ الذي يُنمِي. ثُمَّ أعلَنَ أنَّ الزارِعَ والساقي ليسا شيئاً، لأنَّ اللهَ هُوَ الذي يجعَلُ النبتَةُ تنمُو. لِهذا، علينا أن لا نفتَخِر بالإنسان، بل "من إفتَخَرَ فَليَفتَخِر بالرَّبّ."
لا تُعظِّمُوا المَعمُودِيَّة
بدأَ بُولُس رسالتَهُ ضِدَّ الإنشِقاق بالقَول، "لأنَّ المَسيحَ لم يُرسِلني لأُعمِّدَ بَل لأُبَشِّرَ. لا بِحِكمَةِ كلامٍ، لِئلا يتعطَّلَ صَليبُ المسيح." (1: 17) إن تصريحَ بُولُس يُمَيِّزُ بحَسبِ الأولويَّات بينَ أهمِّية المعمُوديَّة النِّسبِيَّة وبينَ الأهمِّيَّة القُصوى للكِرازة بالإنجيل.
وبينما يستَمِرُّ المُؤمنُونَ بالجدلِ حولَ علاقة المعمُوديَّة بالخَلاص، فإنَّ رِسالَة بُولُس تُعلِّمُنا أنَّ المعمُوديَّةَ لا تُخَلِّصُنا. ولو كانت المعمُوديَّةُ تُخَلًِّص، لكانَ بُولُس ضمَّنها في صُلبِ رسالةِ إنجيلِهِ بدلَ أن يُصنِّفها كأمرٍ يُفضِّلُ أن لا يفعَلَهُ. كتبَ بُولُس أنَّهُ لو كانَ قد عمَّدَ الكثيرين في كُورنثُوس، لكانَ هُؤلاء الذين عمَّدَهُم تبِعُوهُ هُوَ بدلَ أن يتبَعوا المسيح.
لا تُعَظِّمُوا الحِكمَةَ البَشَريَّة
سألَ بُولُس، "أنينأينَأأينَ الحَكيم؟ أينَ الكاتِب؟ أينَ مُباحِثُ هذا الدَّهر؟ أَلَم يُجَهِّلِ اللهُ حِكمَةَ هذا العالم؟ ... بَلِ إختَارَ اللهُ جُهَّالَ العالَم لِيُخزِيَ الحُكَماء. واختارَ اللهُ ضُعَفَاءَ العالَم لِيُخزِيَ الأقوِياء." (1: 20، 27)
لَقَدِ إشتَهَرَ الكُورنثُوسيُّونَ بفَنِّ التَّناظُرِ الجَدَلِيّ، وبِتَشدِيدِهم على الفلسفة والفِكر. هؤُلاء الرِّجال المُفكِّرين والمُقتَدِرين إعتَبَرُوا أنفُسَهُم أنَّهُم مُتفوِّقُونَ على أُولئكَ الذين لم يكُونُوا موهُوبينَ في الفصاحَةِ والفِكر.
ولكنَّ بُولُس أتَى بِرسالَةٍ مُختَلِفَة إلى كُورنثُوس. لقد علَّمَ المُؤمنين الكُورنثُوسيِّينَ أنَّ حُكَماءَ هذا الدَّهر ليسُوا حُكَماءَ في نَظَرِ الله. على العكس، يستَخدِمُ اللهُ أولئكَ المُعتَبَرينَ جُهلاء ليُخزِيَ الحُكماء، لِكَي يظهَرَ مَجدُهُ. بَينما لا يعني هذا أنَّهُ مُستَحِيلٌ على الحُكماء أن يعرِفُوا الله، أو أنَّه فقط الجُهلاء يستطيعُونَ أن يعرِفوا الله، فإنَّهُ يعني أنَّنا ينبَغي أن نفتَخِرَ بالله وليسَ بأنفُسِنا: "ومِنهُ أنتُم بالمَسيحِ يسُوع الذي صارَ لنا حِكمَةً من اللهِ وبِرَّاً وقداسَةً وفِداءً. حتَّى كما هُوَ مَكتُوبٌ من إفتَخَرَ فَليَفتَخِرْ بالرَّبّ." (1: 30- 31)
لا تُعظِّمُوا الخادِم
بَينَما كانَ بُولُس يُتابِعُ رسالتَهُ، برهَنَ أنَّ الرُّوحَ القُدُسَ وحدَهُ هُوَ العُنصُر الذي يُعطِي الحَياة في الولادةِ الرُّوحِيَّة: "وأنا لمَّا أتَيتُ إليكُم أيُّها الإخوة أتَيتُ ليسَ بِسُمُوِّ الكَلام أو الحِكمة مُنادِياً لكُم بِشهادَةِ الله. لأنَّي لم أعزِم أن أعرِفَ شيئاً بينَكُم إلا يسُوعَ المسيح وإيَّاهُ مَصلُوباً. وأنا كُنتُ عندَكُم في ضَعفٍ وخَوفٍ ورِعدَةٍ كَثِيرَة. وكلامي وكِرازَتي لَمْ يكُونا بِكَلامِ الحِكمَةِ الإنسانِيَّةِ المُقنِع بَلْ بِبُرهَانِ الرُّوحِ والقُوَّة. لِكَي لا يكُونَ إيمانُكُم بِحِكمَةِ النَّاس بَل بِقُوَّةِ الله." (2: 1- 5)
اللهُ يستَخدِمُ أُناساً لكَي يُوصِلَ رسالتَهُ الخلاصِيَّة، ولكنَّهُ يستَخدِمُ قُوَّةَ الرُّوحِ القُدُس ليُحدِثَ تَغييراً في أُولئكَ الذين يسمَعُونَ الإنجيل. إنَّ التَّغيِيرَ الرُّوحِيّ لا ينتُجُ عن مهاراتِ النَّاس، بل عن قُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس التي تعمَلُ في أُولئكَ الذين يسمَعُونَ الإنجيل. وبما أنَّ بُولُس كانَ يُخاطِبُ أولئكَ الكُورنثُوسيِّين الذين كانُوا يُفضِّلونَهُ هُوَ وقِيادَتَهُ على الآخرين، كانَ يحُضُّهُم بِصَراحَة على أن لا يُعظِّمُوا قُدُراتِهِ ومواهِبَهُ. عندما كتبَ بُولُس هذه الإصحاحات الأربَعة الأُولى من رِسالتِهِ إلى الكُورنثُوسِيِّين، كانَ يُوجِّهُهم بِوُضُوح إلى تعظيمِ قُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس الذي خلَّصَهم عندما سَمِعوا بُولُس يكرِزُ بالإنجيل في كُورنثُوس.
عَظِّمُوا الرُّوحَ القُدُس كَمُعَلِّمِكُم
عِندما نقرَأُ كِتاباً، نتعلَّمُ بِواسِطَةِ عُيُونِنا. وعندما نُصغِي لمُحاضَرة، نتعلَّمُ بواسِطَةِ آذانِنا. وعندما نستَخِدمُهُما معاً، نتعلَّمُ المَزيد من التعلُّمِ السمَعِيّ البَصَرِيّ. وبإمكانِنا أيضاً أن نتعلَّمَ بِواسِطَةِ عواطِفِنا، إرادَتِنا، أو من خِلالِ ما يُسمِّيهِ بُولُس قُلوبنا. ولكنَّ بُولُس علَّمَ الكُورنثُوسيِّين أنَّهُ بإمكانِهم أن يتعلَّمُوا المعرِفَةَ الرُّوحِيَّة فقط من خِلالِ الرُّوحِ القدُس: "ما لم ترَهُ عَينٌ ولم تَسمَعْ أُذُنٌ ولم يخطُرْ على بالِ إنسانٍ ما أَعَدَّهُ اللهُ للذينَ يُحبُّونَهُ. فأعلَنَهُ اللهُ لنا نحنُ بِرُوحِهِ. لأنَّ الرُّوحَ يَفحَصُ كُلَّ شَيء حتَّى أعماق الله." (2: 9- 10)
هُنا، علَّمَ بُولُس أنَّ رُوحَ الله وحدَهُ يُعلِّمُ الأُمُورَ الرُّوحِيَّةَ للإنسان. فليسَ بإمكانِ الإنسان أن يتعلَّمَ الحَقيقَةَ الرُّوحِيَّة بِبساطَةٍ من خِلالِ بابِ العَينِ أو الأُذُن أو القَلب. فبِحَسَبِ بُولُس، ينبغي أن يتعلَّمَ الإنسانُ الحقيقَةَ الرُّوحِيَّة من خِلالِ بابِ الرُّوحِ القُدُس.
فالإنسانُ الرُّوحِيُّ قَبِلَ رُوحَ الله، وهذا الرُّوح يُعطِيهِ القُدرَةَ على معرِفَةِ وفهمِ فكرِ الله. إستخدمَ بُولُس إيضاحاً مُحَيِّراً ليشرَحَ هذه النُّقطَة الأخيرة: "لأنْ مَنْ مِنَ النَّاس يعرِفُ أُمُورَ الإنسان إلا رُوحُ الإنسان الذي فيهِ. هكذا أيضاً أُمُورُ الله لا يَعرِفُها أحَدٌ إلا رُوحُ الله. ونحنُ لم نأخُذْ رُوحَ العالَم بَلِ الرُّوحَ الذي منَ الله لِنَعرِفَ الأشياءَ المَوهُوبَةَ لنا من الله." (1كُورنثُوس 2: 11- 12).
الكائِنُ الوَحيدُ الذي يعرِفُ ماذا يُفكِّرُ الإنسان هُوَ رُوحُ ذلكَ الإنسان. وبالطريقَةِ نفسِها، الرُّوحُ الوَحيدُ الذي يعرِف ماذا يُفكِّرُ الله هوَ رُوحُ الله. وبما أنَّنا أُعطِينا رُوحَ الله، بإمكانِنا أن نعرِفَ أفكارَ الله.
ومنَ الجِهَةِ الأُخرى، الإنسانُ غيرُ الرُّوحِيّ لا يستَطيعُ أن يفهَمَ هذه الأُمُور الرُّوحِيَّة: "الإنسانُ الطَّبِيعيُّ لا يقبَلُ ما لِروحِ الله لأنَّهُ عِندَهُ جَهالَة. ولا يقدِرُ أن يعرِفَهُ لأنَّهُ إنَّما يُحكَمُ فيهِ رُوحِيَّاً." (العدد 14) فبِحَسَبِ بُولُس الرسُول، الإنسانُ بدونِ رُوحِ الله لا يستطيعُ فهمَ الأُمُور الرُّوحيَّة.
عظِّمُوا اللهَ كقائِدِكُم
في الإصحاحِ الثالِث، أخبَرَ بُولُس الكُورنثُوسيِّين أنَّهُم كانُوا يتصرَّفُونَ كأشخاصٍ غَير رُوحِيِّين. ورُغمَ أنَّهُ إعتَبَرَهُم مُؤمِنين مُقدَّسين في بدايَةِ هذه الرِّسالة، ولكنَّهُ سُرعانَ ما إعتَبَرَهُم أبعد ما يكُونَ عمَّا ينبَغي أن يكُونُوا عليهِ، داعِياً إيَّاهُم "أطفالاً في المسيح" و"جسديِّين." (1كُورنثُوس 3: 1، 3). لقد أشارَت إنشِقاقاتُهُم إلى كونِهم جَسَدِيِّين، أو أنَّهُم كانُوا يتصرَّفُون بطريقَةٍ غيرِ رُوحيَّة: "فإنَّهُ إذ فيكُم حَسَدٌ وخِصامٌ وإنشِقاق ألستُم جَسَدِيِّين وتَسلُكُونَ بِحَسَبِ البَشَر." (العدد 3) لقد أظهَرَت الطريقَةُ التي تحزَّبُوا بها وإنقَسَمُوا حَولَ قادَتِهم أنَّهُ كانُوا غير ناضِجينَ رُوحِيَّاً، ومواقِفُهم تجاهَ قادَتِهم لم تكُن ناضِجة أيضاً.
بدَلَ أن ينقَسِموا حَولَ المُؤهِّلات الدُّنيَوِيَّة لقادَتِهم، إحتاجُوا أن يفهَمُوا الدور الذي يلعَبُهُ الله كرأسِ جسدِهم: "فَمَن هُوَ بُولُس ومن هُوَ أبُولُّوس. بَل خادِمانِ آمنتُم بِواسِطَتِهِما وكما أعطَى الرَّبُّ لِكُلِّ واحِدٍ. أنا غَرَستُ وأَبُولُّوس سَقى لكنَّ اللهَ كانَ يُنمِي. إذاً ليسَ الغارِسُ شيئاً ولا الساقِي بَلِ اللهِ الذي يُنمِي." (1كُورنثُوس 3: 5- 7) مُجدَّداً، كانَت رِسالَةُ بُولُس أنَّهُم يتبَعُونَ الله وليسَ الناس، وختمَ هذا المقطَع بالقَول، "إذاً لا يَفتَخِرَنَّ أحَدٌ بالنَّاس." (21). لا تفتَخِرُوا بالنَّاس، ولا تتبَعُوا النَّاس. إفتَخِرُوا بالله وإتبَعوهُ، لأنَّهُ هُوَ الذي إختارَ الضَّعيف والجاهِل في هذا العالم، لكَي يُخزِيَ القَويَّ والحَكيم.
- عدد الزيارات: 11604