الفَصلُ الأوَّل القِسمُ التصحِيحِيّ من الرسالة
لمحَة سَريعة عن
رسالَة بُولُس الرسُول الأُولى إلى أهلِ كُورنثُوس
إنَّ الرسالَةَ الأُولى التي كتَبَهَا بُولُس إلى الكُورنثُوسيِّين، هي رِسالَةٌ نمُوذَجِيَّة عن الرسائِل الرعويَّة التي كتبَها بُولُس للكنائِس التي أسَّسَها، خِلالَ خِدمتهِ كأعظَمِ مُرسَلٍ ومُؤسِّس كنائِس في تاريخِ كَنيسَةِ المسيح على الإطلاق. كانت رسالتُهُ إلى أهلِ رُومية تُحفَةً لاهُوتيَّة، كتبَها كمُناظَرَةٍ لاهُوتيَّةٍ عامَّةٍ وشامِلة ووجَّهها إلى جماعَةِ المُؤمنين الذين لم يسبِقْ لهُ أن إلتَقى بهم. ولكنَّ مُعظَمَ رسائِلِهِ كُتِبَت من وُجهَةِ نَظَرٍ رَعويَّة إلى كنائِس عرفَها جيَّداً، وحاوَلَ تصحيحَ مشاكِلِها، وتعليمها وتشجيعَ مُؤمنيها في الإيمان. إنَّ رسالَةَ بُولُس الأُولى إلى الكُورنثُوسيِّين هي رسالَةٌ نمُوذجِيَّةٌ عن رسائِلِ بُولُس إلى الكنائِس التي عرفَها جيِّداً وأرادَ تصحيحَ مشاكِلَ مُحدَّدَة فيها.
القِسمُ التصحِيحِيّ من الرسالة
(الإصحاحات 1- 11)
أسَّسَ بُولُس الكنيسةَ في كُورنثُوس خِلالَ رحلتِهِ الإرساليَّة الثَّانِيَة (أعمال 18). ولمُدَّةٍ قصيرة خلالَ إقامتِهِ لمُدَّةِ ثلاث سنين ونِصف في أفسُس، إستطاعَ بُولُس أن يزُورَ كنيسَةَ كُورنثُوس مرَّةً ثانِيَة. وخِلالَ زيارتِهِ الثانيَة لكُورنثُوس، أخبرَهُ بعضُ أعضاءِ الكنيسة هُناكَ عن مشاكِلَ تسرَّبَت إلى الكنيسة خِلالَ غِيابِهِ. إنَّ رسالَةَ بُولُس الأُولى إلى الكُورنثُوسيِّين عالَجت هذه المشاكِل، وأظهَرَت للكُورنثُوسيِّين كيفَيَّةَ تصحيحها.
رُغمَ مشاكِلِهم العَدِيدَة، إعتَرَفَ بُولُس بأنَّ المُؤمنينَ الكُورنثُوسيِّين هُم "مُقدَّسُونَ في المَسيحِ يسُوع" و"مَدعُوَّونَ قدِّيسين (أو مُقدَّسِين)." (1: 2) فمن خِلالِ الطريقَة التي يُوجِّهُ بها بُولُس رسالتَهُ هذه، بإمكانِنا أن نتعلَّمَ شيئاً عن معنَى كَلِمة "مُقدَّسِين." إنَّ المَعنَى الحَرفِيّ لهذه الكلمة هُوَ، "مَفرُوزينَ جانِباً." فالشعبُ المُقدَّسُ ليسَ شعباً كامِلاً، بل شعبٌ مُخصَّصٌ لإتِّباعِ المسيح. وبما أنَّ الكُورنثُوسيِّين كانُوا مَدعُوِّينَ ليُمثِّلُوا المسيحَ على الأرض، وبما أنَّ بُولُس هو ذلكَ الشخص الذي قادَ أعضاءَ هذه الكنيسة جميعَهُم إلى الإيمان بالمسيح، أخذَ بُولُس على عاتِقِهِ أن يُعلِّمَ الكُورنثُوسيِّين الطريقَةَ الصحيحَةَ للحياة.
إنَّ الإصحاحات الأحد عشر الأُولى من رسالةِ كُورنثُوس الأُولى تُعالِجُ المَشاكِل المُحدَّدَة التي أدركَ بُولُس أنَّها تتفشَّى بشكلٍ عُضالٍ في الكنيسة، ممَّا أعاقَ النمُوَّ الروحي والشهادَةِ على صَعيدِ الفرد والكنيسة في مدينَةِ كُورنثُوس. وبإمتِحانِ المشاكِل التي واجَهَها بُولُس في مدِينَةِ كُورنثُوس، والحُلول التي قدَّمَها، بإمكانِنا أن نُكوِّنَ نظرَةً ثاقِبَة عن كيفَ نُواجِهُ هذه المشاكِل عينها عندما تظهَرُ في قَرنِنا الحادي والعِشرين.
المَشاكِل التي أُخبِرَ بها بُولُس من أهلِ خُلُوِي
إنَّ المَشاكِلَ التي أُخبِرَ بها بُولُس من بيتِ خُلُوي كانت: إنشِقاقاتٌ داخِلَ الكنيسة، لاأخلاقِيَّة، ومُقاضاة المُؤمنين بعضُهم بعضاً في محاكِمِ كُورنثُوس المَدَنِيَّة.
لقد وضعَ بُولُس مِثالاً لرُعاةِ الكنائِس، عندما أخبَرَ كنيسةَ كُورنثُوس كيفَ حصلَ على معلُوماتِهِ عن مشاكِلِ كنيستِهم. نقرَأُ في 1كُورنثُوس 1: 11، "لأنَّني أُخبِرتُ عنكُم يا إخوَتي من أهلِ خُلُوي، أنَّ بينَكُم خُصُومات." وبِتَسمِيَتِهِ لكنيسةِ أهلِ خُلُوي – مجمُوعة مُؤمنين كانُوا يلتَقُونَ في بيتِ خُلُوي على أساسٍ دَورِيّ – كمصدَر لمعلُوماتِهِ، أظهَرَ بُولُس بذلكَ أنَّهُ لم يسمَحَ للنَّاس بأن يكُونُوا مصدَرَاً سِرِّيَّاً للمعلُومات، عندما كانَ مِثلُ هؤُلاء يُخبِرُونَهُ بمشاكِل مُتَعَلِّقَة بأشخاصٍ مُعَيَّنِين في كنيسةٍ محَلِّيَّة.
فَغَالِباً ما يقتَرِبُ أعضاءُ الكنيسةِ من الرُّعاة ويُخبِرُونَهُم عن "الأخ فُلان والأخت فُلانَة،" بشرط أن لا يُخبِرَ الراعي هذا الأخ أو هذه الأُخت من أين حصلَ على معلُوماتِهِ. أمَّا بُولُس فما كانَ يسمَحُ بذلكَ أبداً. وكانَ بُولُس يُظهِرُ بذلكَ أيضاً أنَّهُ لم يقبَل بأن يُوجِّهَ الإتِّهامات جزافاً ضدَّ أعضاء الكنيسة، بَل كان يكتُبُ لهُم رسائِل لكَي يُصحِّحَ أخطاءَهُم، ويُوبِّخَهُم، ويعمَلَ شيئاً بَنَّاءً لحلِّ مشاكِلِهم. وعندما كانَ أعضاءُ الكنائِس يمتَنِعُونَ عن التصريحِ بأسمائِهم إلى جانِب المعلومات التي يُزوِّدونََ بُولُس بها، إعتَبَرَ بُولُس هذه المعلُومات تَصُبُّ في خانَةِ النَّمِيمة – وبالطبعِ لم يُشارِكْ أبداً في نشرِ النميمة.
مُشكِلَةُ الإنشِقاق في الكَنيسة (الإصحاحات 1- 4)
كانَ أعضاءُ كنيسةِ كُورنثُوس مُنقَسِمِينَ لأنَّهُم كانُوا يتبَعُونَ الرَّاعي أو الخادِم الذي إعتَبَرُوهُ مُفضَّلاً عندَهم، وكانُوا يرفُضُونَ الإعتِراف بقِيادَةِ الرُّعاةِ الآخَرين في الكنيسة. كانَ بُولُس الرَّاعي المُؤسِّس، ولقد شاهَدَ الكنيسَةَ مُنذُ ولادَتِها وخِلالَ الأشهُرِ الثمانِية عشر الأُولى من عُمرِها. ولقد كانَ يُعتَبَرُ أحدَ أعظَمِ جهابِذَةِ الفكرِ في عصرِه. أدَّى هذا إلى إلتِفافِ الكثير من الكُورنثُوسيِّين حولَهُ كقائِدِهم الحقيقيّ، لأنَّ مدينَةَ كُورنثُوس كانت تُولي أهمِّيَّةً كُبرى للفِكر. كانت كنيسةُ كُورنثُوس مثل كنيسة في حضارَتِنا، موضُوعَةً في مدِينةٍ حيثُ تُشكِّلُ جامِعتُها قلبَ ورُوحَ هذه المدينة.
رجُلٌ آخر يُدعى أبُولُّس، الذي كان واعِظاً قديراً، وكانَ أيضاً راعِياً في كُورنثُوس. ولقد كانت مهارتُهُ الخطابِيَّة موضِعَ تقديرٍ كبير عند الكثيرين من المُؤمنينَ في كنيسةِ كُورنثُوس الأُولى. وتدُلُّ العِبارَةُ القائِلة، "أن نتكلَّمَ كما يتكلَّمُونَ في كُورنثُوس" إلى القيمةِ المُبالَغ فيها التي أولتها الحضارَةُ اليُونانِيَّةُ الكُورنثُوسيَّة لفَنِّ الخطابَة.
ومن جِهَةٍ أُخرى، المُؤمنُونَ الذين كانُوا أقلَّ ثقافَةً في كنيسةِ كُورنثُوس، إعتَبَرُوا الرسُول بُطرُس الذي كانَ غيرَ مُثقَّفٍ، هُوَ الجدير بأسمَى تقديرٍ وإحتِرام. إنَّ هذا التفضيل المُتطرِّف عندَ المُؤمنين قادَهُم إلى أن يتمحوَرُوا حولَ القادة الذين ذكرَهم بُولُس في الإصحاحاتِ الأربَعة الأُولى من رسالتِه.
مُشكِلة اللاأخلاقِيَّة في الكنيسة (الإصحاح الخامِس)
يبدو أنَّ رجُلاً في كنيسةِ كورنثُوس كانَ يُساكِنُ زوجَةَ أبيهِ، ورُغمَ أنَّ الكثيرينَ في الكنيسةِ عرفوا عن المُشكِلة، ولكنَّهُم لم يعمَلُوا شيئاً ليُصحِّحُوا تصرُّفات هذا الرجُل غير الأخلاقيَّة. فواجَهَ بُولُس المُؤمِنينَ بسببِ سُكوتِهم حِيالَ هذه الخطية في الإصحاح الخامِس، وعلَّمَهم صراحَةً بأن يفرُزُوا هذا الرجُل من عُضويَّةِ الكنيسة. وتُؤكِّدُ رسالةُ بُولُس الثانِية إلى أهلِ كُورنثُوس أنَّ المُؤمنين إتَّبَعوا تعليمات بُولُس بفرزِ هذا الرجُل، ممَّا جعلَ بُولُس يُعلِّمُهم مُجدَّداً أن يَعُوا ويقبَلُوا هذا الرجُل في شركةِ الكنيسة بعدَ توبَتِه (2كُو 2: 4- 8)
مُشكِلةُ مُقاضَاةِ المُؤمنين لبَعضِهم البعض (الإصحاح السادِس)
رُغمَ أنَّ تلاميذ يسُوع لديهم مشاكِلُهم، إلا أنَّ بُولُس وبَّخَ الكُورنثُوسيِّينَ بِصرامَةٍ لكونِهم يأخُذُونَ مشاكِلَهم معَ بعضِهم البعض إلى المحاكِم، طالِبينَ حكمةَ وحُكمَ قاضٍ لا يعرِفُ قيادَةَ الرُّوحِ القُدُس ليَحُلَّ مشاكِلَهم. كانت حجَّةُ بُولُس أنَّ الرُّوحَ القدُس الساكِن فيهم، كانَ قادِراً أن يحُلَّ مشاكِلَهم. لهذا قالَ بُولُس ساخِراً أنَّ أكثر عُضوٍ مُحتَقَرٍ من أعضاءِ الكنيسة، والذي لديهِ الرُّوح القدُس، هُوَ أكثَرُ أهلِيَّةً من غَيرِهِ من القُضاةِ المدنِيِّين لمُعالجَةِ خصاماتِهم. بالطبع لم يَعنِ بُولُس هذا حرفِيَّاً، بل كانَ يستخدِمُ هذه المقارَنة على سبيلِ السُّخرِية ليُوضِحَ فكرتَهُ. لقد علَّمَ هؤُلاء المُؤمنين أن يقبلُوا بأن يتكبَّدوا الخسارة على أن يأخُذُوا مُؤمناً آخر إلى المحكمة، فيُشوِّهوا شهادة إسم المسيح في مُجتَمَعِهم.
إنَّ تعليمَهُ المُوحى بهِ من الله سبَّبَ بشكلٍ غيرِ مُباشَر ظهُورَ ما يُسمَّى "القانُون الكَنَسِيّ" في الكنيسةِ الكاثُوليكيَّة. وكذلكَ أدَّى تعليمُهُ هذا إلى رفضِ الكثير من المُؤمنين أن يحُلُّوا قضاياهُم في محاكِمِ القانُون، حتَّى ولو تكبَّدُوا خسائِرَ فادِحة. وعلى أساسِ هذا الإصحاحِ أيضاً، يطلُبُ المُؤمنُونَ نصيحَةَ القادةِ الروحيِّين المُتقدِّمينَ في الكنيسة.
- عدد الزيارات: 10010