الفَصلُ الأوَّل "أعمالُ المسيح المُقام"
إنَّ سِفرَ الأعمال هُوَ السفرُ الوحيدُ المُوحى بهِ، والذي يتكلَّمُ عن تاريخِ الكنيسة في العهدِ الجديد. إنَّهُ بمثابَةِ حلقَةِ وصلٍ بينَ الأناجيل الأربَعة ورسائِل بُولس الرسول الثلاثة عشر. ولولا هذا الكتاب التاريخي، لكُنتَ فورَ بدئِكَ بقراءَةِ رسائِلِ بُولُس، ستَتَساءَلُ قائِلا، "من هوَ هذا الرسُول المُسمَّى بُولُس؟ فأنا لم أقرَأْ عنهُ شيئاً في الأناجيل." ولولا السفر الذي سندرُسُهُ، لكانَ هُناكَ حلقةٌ مُفرَغَةٌ كبيرة في العهدِ الجديد.
بمَعنَى ما، تُعتَبَرُ الأسفارُ الخمسةُ الأولى في العهدِ الجديد أسفارَاً تاريخيَّة. لأنَّ الأسفارَ الأربعة الأولى، أي الأناجيل، رُغمَ كونِها قصصاً مُوحَى بها عن حياةِ يسوع، إلا أنَّها في نفسِ الوقت مرجعٌ تاريخي. ويُعتَبَرُ سفرُ الأعمال السفر التاريخي في العهدِ الجديد. ونجدُهُ موضوعاً على حِدَةٍ من الأناجيل، لأنَّهُ كتابُ تاريخِ كنسيةِ العهدِ الجديد.
يبدَأُ سفرُ الأعمالِ بالقول:"الكلامُ الأوَّلُ أنشأتُهُ يا ثَاوُفِيلس عن جميعِ ما ابتدأَ يسوعُ يفعلُهُ ويُعلِّمُ بهِ، إلى اليوم الذي ارتفَعَ فيهِ بعدما أوصى بالروحِ القُدُس الرُّسُلَ الذينَ إختارَهُم." (أعمال 1: 1، 2).
عندما نقرأُ هذه الأعداد الأُولى من سفرِ الأعمال، يتَّضِحُ لنا أنَّ كاتِبَ سفر الأعمال هو نفسُهُ كاتِب الإنجيلِ الثالِث، إنجيل لوقا، وأنَّهُ يُوجِّهُ سفرَ الأعمال لنفسِ الشخص الذي وجَّهَ لهُ الإنجيل الثالِث. ثاوُفِيلس، الذي يعني إسمُهُ "مُحِبُّ الله،" إعتَبَرَهُ لوقا شخصاً يستحقُّ إستلامَ هكذا وثيقَتين قَيِّمَتَين ومُمَيَّزَتين.
في سفرِ الأعمالِ، يُتابِعُ لُوقا مُكمِّلاً ما بدأَ كِتابَتَهُ في الإنجيلِ الذي يحمِلُ إسمَهُ. كتبَ لُوقا أنَّهُ في إنجيلِهِ، أعطى سِجِلاً تاريخيَّاً دقيقاً عن جميع ما إبتدأَ يسوعُ يفعلُهُ ويُعلِّمُ بهِ، إلى يومِ صُعُودِه. ولكنَّ لُوقا يُخبِرُنا على أيَّةِ حال، أنَّ يسُوعَ بعدَ صُعُودِهِ، إستمَرَّ "يعمَلُ ويُعلِّمُ" من خلالِ الرُّسُل. لهذا تُسمِّي الكثيرُ من نسخاتِ الكتابِ المقدَّس هذا السفرَ "أعمال الرُّسُل."
عندما نفهَمُ أهمِّيَّةَ يوم الخَمسين، سنعتَقِدُ أنَّ عُنوانَ هذا السفر ينبَغي أن يكونَ، "أعمال الروح القُدُس من خِلالِ الرُّسُل." وبما أنَّ بُطرُس يُعيدُ كُلَّ آياتِ ومُعجِزاتِ يوم الخمسين للمسيح الحيّ المُقام، يُعتَبَرُ العُنوانُ الأكثَرُ مُلاءَمَةً لهذا السفر هو، "أعمالُ المسيحِ المُقَام من خِلالِ الرُّسُل." (2: 32، 33)
لاحِظُوا أنَّ سفرَ الأعمال لا ينتَهي، بل بِبَساطَةٍ يتوقَّف. يعتَقِدُ بعضُ المُفسِّرين أنَّ هذا يرجِعُ إلى كونِ لُوقا قد تمَّ توقيفُهُ في السجن، ولم يعُدْ قادِراً على إنهاءِ كتابَةِ السفر. ويعتَقِدُ آخرونَ أنَّ السفرَ لا ينتَهي، لأنَّهُ تاريخُ الكنيسة، ونحنُ لا نزالُ نصنَعُ هذا التاريخ.
علامَ علينا أن نبحَثَ في سفرِ الأعمال؟
بما أنَّ سفرَ الأعمال هو سفرٌ تاريخيّ، علينا أن نقتَرِبَ منهُ كما إقتَرَبنا من أسفار العهد القديم التاريخيَّة الإثني عشر. يُخبِرنا الرسولُ بُولُس كيفَ ينبَغي أن ننظُرَ إلى السردِ التاريخي في الكتابِ المقدَّس. قالَ، "جميعُ هذه الأُمور قد حدَثَت لهُم لتكونَ لنا مِثالاً، نحنُ الذين إنتَهَت إلينا أواخِرُ الدُّهور." (1كُورنثُوس10: 11). لهذا، علينا أن نَنظُرَ إلى نماذِج وتحذيراتٍ عندما نَقرَأُ سفرَ الأعمال.
القصدُ من الكَنيسة
بينما تقرَأُونَ هذا السفر التاريخيّ، فتِّشُوا عن الهدف المقصُود من الكنيسة. فعندما وصلَ يسوعُ إلى خاتِمَةِ الوقتِ الذي قضاهُ معَ رُسُلِهِ، أعطاهُم ما نُسمِّيهِ "المأمُوريَّةَ العُظمَى." وسوفَ تجدونَ هذه المأموريَّة العُظمَى في نهايَةِ كُلِّ إنجيلٍ من الأناجيل الأربعة. ففي إنجيلِ متى، كانت كلماتُ يسُوع الأخيرة لتلاميذِهِ هي التاليَة:
"دُفِعَ إليَّ كُلُّ سُلطانٍ في السماءِ وعَلى الأرض. فاذهَبُوا وتَلمِذُوا جمعَ الأُمَم وعمِّدُوهُم باسمِ الآبِ والإبنِ والروحِ القُدُس. وعَلِّمُوهُم أن يحفَظُوا جميعَ ما أوصَيتُكُم بهِ. وها أنا معكُم كُلَّ الأيَّام إلى إنقضاءِ الدهر." (متَّى 28: 18- 20).
يبدأُ سفرُ العهدِ الجديد التاريخي بنفسِ الطريقَة التي تنتَهي بها الأناجيل، بالمأمُوريَّةِ العُظمَى. هذه الوصيَّة أو المأمُوريَّة العُظمَى تحتَوى على وصيَّةٍ واحِدَة هي: "تَلمِذُوا." ثُمَّ هُناكَ أربَعةُ أجزاءٍ للمأمُوريَّة، وهي: الذهاب، التبشير، التعميد، والتعليم.
وهذا ما يحدُثُ بالتحديد في سفرِ الأعمال. فكانَ الرسُلُ حيثُما كانُوا يذهَبُون يُتلمذُونَ أشخاصاً ليسوع، ويُعمِّدونَ، ويُعلِّمُون. ولكنَّ المأمُوريّة والهدف المركزي المُعطى للكَنيسة هو المأمُوريَّة العُظمى. قالَ أحدُهُم أنَّ المأمُوريَّةَ العُظمى هي بمثابَة شُرعَة الكنيسة أو دُستُورها أو هدَفُها المَكتُوب. وكَكُلِّ مُؤسَّسَةٍ أُخرى، يتحتَّمُ على الكنيسةِ أن تُتَمِّمَ بُنُودَ شُرعَتِها وإلا زالَت من الوُجود.
الوَعدُ المُعطَى للكَنيسة
في الأعداد الأُولى من سفرِ الأعمال، يُخبِرُنا لُوقا أنَّ يسوعَ أعطى وصاياهُ للرُّسُل قبلَ صُعودِهِ إلى السماء. فبِالإضافَةِ إلى المأمُوريَّة العُظمى، أوصى يسوعُ تلاميذَهُ أن ينتَظِروا. "إنتَظِرُوا موعِدَ الآبِ الذي سَمِعتُمُوهُ منِّي." (أعمال 1: 4، 5). فلقد سبقَ ووعدَ يسُوعُ تلاميذَهُ في العُلِّيَّة بأنَّهُ سيُرسِلُ لهُم الرُّوحَ القدُس. فهُوَ الآن يأمُرُهُم بشكلٍ أساسِيّ بأن لا يأخُذُوا الخُطوَةَ الأُولى بِإطاعَةِ مأمُوريَّتِهِ العُظمَى، قبلَ أن يتحقَّقَ هذا الوعد.
يتكلَّمُ الكتابُ المقدَّسُ كَثيراً عن إنتِظارِ الرب. ألقَى إشعياءُ إحدَى أفضَلِ عِظاتِهِ حولَ موضُوع الإنتِظار: "وأمَّا مُنتَظِروا الربِّ فيُجدِّدونَ قُوَّةً. يرفَعُونَ أجنِحَةً كالنُّسُور. يركُضُونَ ولا يتعبُونَ يمشُونَ ولا يُعيُون." (إشعياء 40: 31).
عندما طلبَ الربُّ من شعبِهِ في إشعياء 40 أن ينتَظِروا كما تنتَظِرُ النُّسُور، وأن يرفَعوا أجنِحَةً كما ترفَعُ النُّسُور، كانَ يُشارِكُ معهُم ومعنا حقيقَةً ثمينَةً عنِ الإيمان. فهُناكَ أوقاتٌ لا تطيرُ فيها النُّسور. إذ يقِفُ النسرُ على طرفِ عُشِّهِ أحياناً لِساعاتٍ طِوال قبلَ أن يطير، إلى أن تهُبَّ الرياحُ المُناسِبَة. فعندما يُلاحِظُ النسرُ أنَّ الريحَ قويَّةٌ بما فيهِ الكِفاية، يقفِزُ النسرُ حوالي خمسة أمتار من عُشِّهِ، ويفرِدُ جناحَيهِ لتحمِلَهُ الرياحُ، فيُحلِّقُ كطائِرَةٍ في الأُفُق فوقَ العواصِفِ والرياح.
على ضوءَ هذه الحقائق، أنظُروا إلى الوصيَّة المُعطاة للكنيسة في أعمال 1 التي تنتظِر تحقيقَ الوعد. تصوَّروا الكنيسةَ وكأنَّها نَسرٌ يجلِسُ على طرفِ عُشِّهِ، منتَظِرَةً هُبُوبَ رِياحِ الروحِ القُدُس يومَ الخمسين. عندما تقرأونَ الإصحاحَ الثاني من هذا السفر، تصوَّرُوا النسرَ يَقفِزُ من عُشِّهِ، واثِقاً بالرِّياح لتُعطيه الديناميكيَّةَ الدافِعة ليُحلِّقَ فوقَ هذه الرياح المُضادَّة.
القُوَّة المُعطاة للكنِيسة
يَصِفُ الإصحاحُ الثاني من سفرِ الأعمال حُلولَ الرُّوحِ القدُس يومَ الخمسين. فيومُ العَنصَرَة هو أحدُ أهمِّ الأحداث في تاريخِ شعبِ الله، لأنَّ الكنيسةَ بِبَساطَةٍ لا تستطيعُ أن تُحقِّقَ الهدَف المَرجُوَّ منها، إن لم تحُلَّ عليها قُوَّةُ الرُّوح القُدُس. وهذا يَصدُقُ على الصعيد الفَردِيّ أيضاً. فعندَما نُحاوِلُ أن نُتلمِذَ شخصاً ليَسُوع المسيح، بدونِ قُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس نكُونُ نُحاوِلُ عملَ المُستَحيل.
الأداءُ المُقدَّمُ مِنَ الكنيسة
قد تذكُرونَ أنَّ تشديدَ تعاليم يسوع في الموعِظَة على الجبل لم يكُنْ الوظيفَة أو المركَز، بل الأداء والإنجاز (متى 5- 7). فبالنسبَةِ ليسُوع، الأمرُ المُهِمُّ ليسَ ما نَقُولُهُ، بل ما نعمَلُهُ. لقد شدَّدَ على هذه القِيمة خِلالَ تعليمِهِ للرُّسُل. لهذا، علينا أن لا نتفاجَأَ عندما نقرَأُ أنَّ عالم القرن الأوَّل أُدهِشَ بأداءِ الكنيسة.
هُناكَ عدَّةُ أُمورٍ جديرةٌ بالإعتِبار في مُلاحظةِ أَداءِ الكنيسة. أوَّلُ هذه الأُمور الجديرة بالإعتِبار هو وعظ الرُّسُل. هُناكَ الكَثيرُ من الوعظِ العظيمِ في سفرِ الأعمال، ويبدأُ هذا الوعظِ يومَ الخمسين. النتيجَةُ الأكثرُ أهمِّيَّةً ليوم الخمسين كانت صيرورةُ ثلاثة آلاف نفس تلاميذَ ليسوع في يومِ الخمسين. ففي كُلِّ مرَّةٍ وعظَ فيها بطرُس بعدَ يوم الخمسين، تجدَّدَ الآلافُ من الناس وتجنَّدُوا ليُصبِحُوا تلاميذَ ليسوع المسيح.
لقد كانَ وعظُ الرُّسُل في سفرِ الأعمال وعظاً مَمسوحاً. وأنا أقصدُ بهذا أنَّ روحَ اللهِ القُدُّوس كانَ يحِلُّ عليهِم عندما كانُوا يَعِظُون. هذا ما يُسمَّى بالمسحةِ في الكتابِ المقدَّس، الذي يعني مسحة الروح القُدُس التي تمنَحُ القُوَّة للذي يقومُ بالخدمة، الأمرُ الذي صارَ يُعرَفُ بمواهِبِ الرُّوحِ القُدُس.
لاحِظ بعِنايَة سِجِلَّ مواعِظِ بُطرُس في سفرِ الأعمال. لن تجدَ فيهِ أيَّ شيءٍ مُمَيَّزاً. فلماذا تجدَّدَ الآلافُ في كُلِّ مرَّةٍ وعظَ فيها بطرُس؟ لأنَّ بطرُس كانَ ممسوحاً ومُؤيَّداً بالروحِ القُدُس الذي كان يحلُّ عليهِ عندما كانَ يُلقِي هذه العِظات. لقدِ إتُّهِمَ تلاميذُ يسُوع بأنَّهُم ملأُوا كُلَّ أُورشَليمَ بِتَعلِيمِهِم (أعمال 5: 28). فهل نحنُ الذين نتبَعُ المسيحَ اليوم مُتَّهَمُونَ بِهذا، وهل هُناكَ ما يكفي من الأدلَّةِ لإلقاءِ هذا الإتِّهام علينا؟
فما هي الكنيسةُ إذاً؟
بينما تدرُسُ سفرَ الأعمال، لاحظْ أنَّكَ سوفَ تتعرَّفُ على حوالي الخمسينَ شخصيَّةً في هذا السفر التاريخي عن كنيسةِ العهدِ الجديد. إنَّ كلمة "كنيسة" هي باليونانية "إكليسيا" الذي يعني "جماعة" أو "مَدعُوُّونَ إلى خارِج،" أي أشخاص مدعُوُّون إلى خارِجِ هذا العالم ليتبَعوا المسيح المُقام ويتمتَّعُوا بالشرِكَة معَهُ ومعَ بعضِهم البعض. فبالمعنى الدقيق للكلمة، تعني كَلِمة "كنيسة": "أشخاص أو أُناس."
خلالَ قراءَتِكَ لسفرِ الأعمال للمرَّةِ الأولى، حاوِلْ أن تتآلَفَ معَ خمسينَ شخصاً على الأقل، بالإضافَةِ إلى بطرُس وبُولُس. إنَّ سفرَ الأعمال يتكلَّمُ بمُجمَلِهِ عن أُناسٍ إعتِيادِيِّين كانُوا يعمَلونَ أُموراً غير إعتِيادِيَّة، بسبب كَونِهم مملوئينَ من قُوَّةِ رُوحِ الله. إن هذا الإله نفسَهُ وهذه القُوَّة نفسَها مُتَوفِّرَةٌ لنا اليوم لنعمَلَ عملَ الله (متى 28: 18- 20).
عندما تخدُمُ الرَّبَّ اليوم، هل تدخُلُ إلى حضرَةِ اللهِ قبلَ أن تخرُجَ وتذهَبَ من أجلِه؟ وهل تنتَظِرُ في حضرَتِهِ لتأتيَ عليكَ مسحَةُ قُوَّةِ الرُّوحِ القدُس، أم أنَّكَ تذهَبُ ببساطَةٍ وتُحاوِلُ أن تعمَلَ عملَ الله بقُوَّتِكَ؟ إحدى رسائِل سفر الأعمال هي أنَّنا بدونِ عونِ الله لن نستطيعَ أن نُكمِّلَ عملَ الله. فعلينا إذاً أن ننتَظِرَ نوالَ قُوَّةِ الروحِ القدُس قبلَ أن نُحاوِلَ أن نعمَلَ عملَ المسيحِ الحيِّ المُقام.
- عدد الزيارات: 12608