Skip to main content

الفَصلُ الثامِن لمحَةٌ عامَّة عن إنجيلِ يُوحنَّا

عندَما يتعلَّمُ الوُعَّاظُ كيفَ يُلقُونَ عِظَةً، يُطلَبُ منهُم أن يفعَلُوا ثلاثَةَ أُمور: "أوَّلاً، عليكَ أنْ تُخبِرَ الناسَ ما أنتَ مُزمعٌ أنْ تخبرَهم، ثمّ عليكَ أنْ تخبرَهم، أَخيراً عليكَ أنْ تخبرَهم ما أخبرتَهم بهِ." فعِندَما كتبَ يُوحنَّا إنجيلَهُ، بإمكانِنا أن نعتَبِرَ أنَّ الأعداد الثمانِيَة عشر الأُولى بمثابَةٍ مُقدِّمَةٍ يتكلَّمُ فيها عمَّا سيُخبِرُنا بِهِ. ثمّ ِمَن الآيةِ التاسعة عشر مِنَ الإصحاحِ الأولِ وحتى العدد التاسِع والعِشرين من الإصحاح العشرين، يخبرُنا. ثمّ في العددين ثلاثين وواحد وثلاثين من الإصحاحِ العشرين يخبرُنا يوحنا بِما أَخَبرَنا بهِ.

عندما يُخبِرُنا يُوحنَّا بما سيقُولُهُ لنا، فهُوَ يُخبِرِنا من جُملَةِ الحقائِق التي سيُشارِكُها معنا، أنَّهُ عندما أصبحَ كلمةُ اللهِ الحَي جسداً وحلَّ بينَنا، وعندما تفاعلَ الناسُ بشكلٍ صحيح مع يسوع، عندما قَبِلُوه وآمنوا به، وُلِدوا ثانيةً. لقد إختَبَرُوا وِلادَةً ليست جسديَّةً ولا طبيعيَّة. لقد وُلِدوا مِنَ الله.

بَعدَ أن أَخبَرَنا بما سيقُولُهُ لنا، أعطانا أمثِلَةً عمَّا كتبَهُ بأنَّ أُولئِكَ الذين تجاوَبُوا بطريقَةٍ مُلائِمة معَ يسُوع، وُلِدُوا من فَوق. وهكذا يُعطينا يُوحنَّا في إصحاحٍ بعدَ الآخر، أمثِلَةً عن كيفَ تجدَّدَ الناسُ عندما كانُوا يتجاوَبُونَ بالطريقَةِ الصحيحَةِ معَ يسُوع المسيح. ويبدَأُ يُوحنَّا بإخبارِنا عن كيفَ إلتَقى بعضُ الرُّسُل أوَّلاً برَبِّهم ومُخلِّصِهم. لقد سألُوهُ أينَ يمكُث. فدعاهُم ليأتُوا وينظُرُوا أينَ يسكُن. وبما أنَّ قرارَهم بأن يأتُوا وينظُروا أينَ وكيفَ يعيش، بما أنَّ قرارَهم هذا قادَهم ليعيشوا ويمُوتُوا من أجلِِه، فلقد إختَبَروا بِوُضُوح ماذا يعني أن تُولَدَ من الله عندما تَعيشُ معَ يسُوع.  

في الإصحاح الثاني، نجدُ صُورَةً مجازِيَّةً عن الوِلادَة الجديد، عندما يُصوَّرُ يسُوعُ بأنَّهُ الشخص الذي يقدِرُ أن يُحوِّلَ الماءَ إلى خمر. الخُطوات التي أدَّت إلى هذه المُعجِزة، وتطبيقيَّاً، إلى الوِلادة الجديدة، نجدُها مُصوَّرَةً لنا مجازِيَّاً. أوَّلاً، بِكلِمَاتِ مريم الثلاث، "ليسَ لديهم خَمرٌ." (يُوحنَّا 2: 3). بما أنَّ الخمرَ يرمُزُ إلى الفرَح في كلمةِ الله، فبالتطبيقِ التعبُّدِيّ، فإنَّ كلمات مريم هذه هي بمثابَة إعتِراف بأنَّهُ لن يكُونَ لدينا فرَحٌ أو بأنَّنا لم نُولَد ولادَةً جديدة.

الماءُ أحياناً هو رَمْزٌ للكتاب المقدسِ نفسِهِ. فهذهِ صورةٌ للخطوةِ الثانيةِ للولادة الجديدة. نقرَأُ أيضاً أنَّ كلمةَ الله هي "البِذار" الذي يُنتِجُ الولادَةَ الجديدة، ويُخبِرنا الكتابُ أنَّ الإيمانَ يأتي بالخَبَر، والخَبَرُ بكلمةِ الله. يرى البعضُ في الجرار التي مُلِئت كُلٌّ منها بِسبعين لِيتراً من الماء، صُورَةً عن حياتِنا التي تمتَلئُ بكلمةِ الله، كَخُطوَةٍ تُؤدِّي إلى الوِلادة الجديدة (يُوحنَّا 2: 7؛ أفسُس 5: 26؛ 1بطرُس 1: 23؛ رُومية 10: 17).

تُمثِّلُ كلماتُ مريم للخُدَّام مِفتاحَاً لجعلِ كلمةِ اللهِ قُوَّةً في حياتِنا: "مهما قالَ لكُم فافعَلُوه!" (2: 5) فبينما تملأُ عقلَكَ وقَلبَكَ من كلمَةِ الله، مهما قالَ لكَ، ذلكَ إفعَلْهُ دائِماً. إنَّ هذه الخُطوات التي تقُودُ إلى الولادَةِ الثانِية، يُمكِنُ أيضاً تطبيقُها كنَصيحَةٍ للإنتِعاش الشخصيّ، عندما نكُونُ بحاجَةٍ للتَّجدُّدِ الرُّوحِيّ.

أولئكَ الذين يَعرِفونَ إنجيلَ يُوحنَّا بِحَقّ، يعرِفُونَ أنَّ يُوحنَّا يُخبِرُنا في الإصحاحِ الثالِث عن مُعلِّم النامُوس نيقُوديمُوس، الذي كانَ ينبَغي أن يُولَدَ ثانِيَةً. علينا أن نُقدِّمَ المُلاحظَةَ التي إستخدَمَها يسُوعُ مرَّةً واحِدَةً، وذلكَ عندما كان يتحاوَرُ معَ واحِدٍ من أشهَرِ مُعَلِّمي النامُوس. فعلى الرُّغمِ من أنَّ يسُوع لم يستَخدِم قطْ عبارَة "الوِلادة الثانِية" مع َالآخرين، ولكن بحسبِ يُوحنَّا هذا ما كانَ يحصَلُ للذينَ تجاوبُوا معَ يسوعَ بِحَقّ.

لقد صادَقَ نيقُوديمُوس على هُوِيَّةِ يسُوع بقولِهِ أنَّهُ مُعلِّمٌ مُرسَلٌ من الله. قالَ أحدُهم، "إنَ ما نُؤمِنُ بهِ بالفِعل، ذلكَ نفعلُهُ. وكُلُّ ما عدا ذلكَ هوَ كلامٌ دينيٌّ فارِغ." وكأنَّ هذه المُقابَلة تَبدأُ معَ قولِ نيقُوديمُوس ليسُوع، "لقد رَأَيتُ ما تعمَلُهُ، ولهذا أتيتُ لأسمَعَ ما تُعَلِّمُهُ. فبعدَ أن أصغَى الرَّبُّ يسُوعُ لهذا الإعتِراف، قالَ لمُعلِّمِ النامُوسِ هذا ما معناهُ، "عليكَ أن تبدَأَ ثانِيَةً. عليكَ أن تبدَأَ بِطَريقَةٍ أُخرى. عليكَ أن تبدَأَ معي."

قالَ يسُوعُ لمُعلِّم إسرائيل هذا أن لا يتعجَّبَ إن قالَ لهُ أن يُولدَ ثانِيَةً، وكأنَّ هذا الأمر هُوَ غيرُ مفهومٍ أو غيرُ ضروريٍّ أو غيرُ معقُول. فَبِالنسبَةِ ليسُوع، القصدُ من هذه الولادة الجديدة هُوَ أن يرى ويدخُلَ إلى ملكوت الله. هذا هُوَ بِبَساطَةٍ التعليمُ أنَّ اللهَ هو مَلِكٌ، ونحنُ رعاياه. وهذا هُوَ التشديدُ الذي رأيناهُ من خِلالِ الكِتابِ المقدَّس، المُشدَّد  عليهِ في هاتَينِ الكلمتَين: "اللهُ أوَّلاً!"

في هذه المُحادَثَة معَ نيقُوديمُوس، قدَّمَ يسُوعُ التصريح الأكثَر عقائديَّةً عن نفسِه. لقد صرَّحَ أنَّهُ إبنُ اللهِ الوَحيد، وحَلّ الله الوحيد لمُشكِلَةِ الخَطيَّة، والمُخلِّصُ الوحيد المُرسَل من الله. ولقد صرَّحَ أيضاً أنَّ الإيمانَ بتصاريحِهِ هذه عن نفسِهِ يعني الخلاص الأبديّ، وعدم الإيمان بهِ يَعني الدينُونة الأبَديَّة (3: 14- 21).

إنَّ هذه التصريحات قد قُدِّمَت جوابَاً على سُؤالٍ طرحَهُ نيقوديمُوس مرَّتَين. وكانَ هذا السؤال، "كَيف؟"بكلمةٍ واحدة، كانَ جوابُ يسُوع لهُ، "آمِن." فدورُنا في إختِبارِ الولادَةِ الجديدة هو أن نُؤمِن. أمَّا دَورُ الله فهُوَ كالريح. وليسَ بإمكانِنا أن نرى أو نتوقَّعَ من أينَ يأتي الرِّيح. "هكذا كُلُّ من وُلِدَ من الرُّوح،" كما قالَ يسُوع. وعلى الرُّغمِ من أنَّنا لا نجدُ إعترافاً صريحاً من نيقُوديموس بالإيمانِ في هذه المُقابَلة، إلا أنَّ المراجِعَ الأُخرى التي تُشيرُ إليهِ في الإنجيل والتقليد، تُقنِعُنا أنَّهُ إختَبرَ التجديد (7: 50؛ 19: 38- 42).

يُخبِرُنا الإصحاحُ الرابِع قِصَّةً عن إمرأَةٍ سامِريَّةٍ بسيطَةٍ خاطئة تجدَّدَت. رُغمَ أنَّ يسُوع لم يستَخدِم هذه الكلمات معَها، ولكن بينَما يُكَيِّفُ إستعاراتِهِ المَجازِيَّة معَ حاجاتِ هذه المرأة، نُدرِكُ أنَّ هذا مثلٌ آخر عن شَخصٍ وُلِدَ ثانِيَةً، لكونِها تجاوَبَت بطريقَةٍ صحيحةٍ معَ يسُوع. يُقدِّمُ يسُوعُ نفسَهُ كالماءِ الحيّ، الذي إن شرِبَتْ منهُ لن تعطَشَ إلى الأبد.

لقد قيلَ لها أنَّ شِربَها من هذا الماءِ الحي سوفَ ينبَعُ فيها كنبعِ مياهٍ حيَّةٍ يرتَوي منهُ الآخرون. ولقد تحقَّقَ هذا عندما تجدَّدَت، وذهَبت وبَشَّرت رجالَ السامِرة بالمَسيح. لقد إكتَشَفت أعظَمَ إختِبارَين في الحياة: أن تُولدَ أنتَ شخصيَّاً من جديد، وأن تُصبِحَ الأداة البَشَريَّة التي بواسطتها يتجدَّدُ الآخرُون.

فكِّرُوا بهذه الأجوِبَة على هذه الأسئِلة الثلاث في الإصحاحاتِ الأربعة الأُولى من هذا الإنجيل. من هُوَ يسُوع؟ إنَّهُ كلمةُ اللهِ الحيّ الذي أصبحَ جسداً وعاشَ بينَنا، لكي نتجدَّدَ أو نولَدَ من جَديد. إنَّهُ ذلكَ الواحِدُ الذي يستطيعُ أن يُحَوِّلَ ماءَنا خمراً. إنَّهُ رجاؤُنا الوحيد ومُخلِّصُنا الوحيد. إنَّهُ الماءُ الحيّ الذي يُروي عطشنا للحياة، وينبَعُ فينا كنبعِ مياهٍ حيَّةٍ يشرَبُ منها الآخرونَ ويتجدَّدُون.

ما هُوَ الإيمان؟ إنَّ الإيمان هُوَ التجاوب بطريقَةٍ صحيحَةٍ مع ما قالَهُ يسُوعُ عن نفسِه. الإيمانُ هو، "تعالَ وانظُرْ أينَ وكيفَ يعيش." الإيمانُ هو الإستِماعُ إلى كلمةِ اللهِ وطاعتها. الإيمانُ هو بسيطٌ ببساطَةِ شُربِكَ للماء، عالماً أنَّهُ سيُروي عطَشَكَ.

وما هِيَ الحياة؟ الحياةُ هي أن تُولدَ من جديد. الحياةُ هي أن تتحوَّلَ ماءُكَ خمراً. الحَياةُ هي أن ترى وتدخُلَ ملكوتَ الله الأبديّ. الحَياةُ هي شربُ الماء الحي الذي يُروي عطشكَ في الحياة ويُصبِحُ فيكَ نبعاً يشرَبُ منهُ الآخرونَ ويُروُونَ ظمأَهُم الروحي العميق.


تصريحاتُ المَسيح

تُسجِّلُ الإصحاحاتُ الأربَعة التالِيَة من هذا الإنجيل حواراً عدائِيَّاً مُطَوَّلاً بينَ يسُوع والسُّلطات الرُّوحيَّة. هذا الحوارُ ينقَطِعُ حيناً، ويُغيِّرُ مكانَهُ حيناً آخر، ولكنَّهُ يستَمِرُّ إلى أن يُؤدِّيَ إمَّا إلى إيمانِ بعضِ هؤلاء القادة بالمسيح، أو إلى مُحاوَلَةِ البعضِ الآخر أن يرجُمُوه بتُهمَةِ التجديف – لكونِهِ قالَ أنَّهُ مُعادِلٌ لله، وأنَّهُ فعلاً اللهُ. لقد أرادَ يسُوعُ بِوُضُوح لهذه المُواجَهة أن تحدُث. ووجدَ أساساً لحوارِهِ معَ رجالِ الدين بِكسرِ نامُوسِ السبتِ عمداً.

لقد شفى رجُلاً يومَ سبت عندَ بِركَةِ بيتِ حسدا، التي كانت قريبَةً جداً من الهَيكَل. ولقد أمرَ الرَّجُلَ أن يحمِلَ سريرَهُ ويسيرَ بهِ أمامَ مدخَلِ الهَيكَل. ولقد كانَ أمراً مُخالِفاً للنَّامُوس أن يحمِلَ إنسانٌ ما أيَّ حِملٍ يومَ السبت. هذا الشفاء كانَ المُسبِّب الذي أدَّى إلى نُشُوءِ هذا الحوار العدائِيّ الذي يستَمِرُّ حتَّى الإصحاح الثامِن.

إنَّ شِفاءَ هذا الرجُل يُتابعُ عرضَ أمثِلَةِ يُوحنَّا للأشخاص الذينَ وُلدِوا ثانِيَةً عندما تجاوَبُوا بطريقَةٍ صَحِيحَةٍ معَ يسُوع. بهذه المُناسَبة، كانَ هُناكَ جمعٌ كبيرٌ من المرضى، ولكنَّ يسُوعَ شفى واحداً منهُم فقط. لربَّما شفَى هذا الرَّجُل بالتحديد، لأنَّهُ كانَ قد يئِسَ من البِرْكَة، بكُلِّ ما تحويهِ من خُرافاتٍ حولَ القوى الشفائِيَّة الكامِنَة فيها. في هذه القصَّة، أصبَحَ الإيمانُ قضيَّةَ تَخَلٍّ عن كُلِّ هذه الأُمُور التي لا تستطيعُ أن تجعلنا أصِحَّاء.

عندما بدَأَ الحوار، أخذَ يسُوعُ يُقدِّمُ تصاريحَ تجعَلُ منهُ خارِقاً للطبيعة: لقد صرَّحَ بأنَّ اللهَ أعطاهُ كُلَّ الدينُونة. ولقد صرَّحَ بِجرأَةٍ أنَّهُ بإمكانِهِ أن يعمَلَ كُلَّ ما يستطيعُ الآبُ أن يعمَلَهُ. فإذا أخذَنا دفتَرَ مُلاحظات، وسجَّلنا عليهِ بإيجاز كُلَّ تصاريح يسُوع هذه، سنرى أنَّهُ يترُكُنا معَ هذه الخَيارات نفسِها، أن نُؤمِنَ بهِ أو أن نرجُمَهُ إلى خارِجِ حياتِنا للأبد. وبِكلماتِ الكاتِبِ الإنكليزيّ C. S. Lewis، إمَّا علينا أن ندعُوَهُ كاذِباً، أو أن نكُونَ لُطفاء وننعتهُ بالجُنُون، أو أن ندعُوَهُ ربَّنا، فنعبُدهُ ونتبعُهُ.

بعدَ أن قدَّمَ يسُوعُ هذه التصريحات الرائِعة، أخبَر رجالَ الدِّين أنَّهُ لا تُعوِزُهم الأدلَّة ليُؤمِنوا بتصريحاتِهِ. لقد كانُوا يحتَرِمونَ كلامَ مُوسى كثيراً، فقالَ يسُوع أنَّ مُوسى كتبَ عنهُ. ولم يكُن بإمكانِهم أن يُنكِرُوا أنَّ يُوحنَّا المعمدان كانَ نَبيَّاً. لهذا إقتبَسَ يسُوعُ كلمات يُوحنَّا التي تكلَّمَ بها عن ربِّهِ يسُوع. ولقد ذكرَ كلمات الله الآب عندَ معمُوديَّتِهِ كبُرهانٍ على مِصداقِيَّةِ تصريحاتِه. ولقد أعطانا أيضاً الأعداد المِفتاحِيَّة للكتابِ المقدَّس بمُجمَلِهِ، عندما أخبَرَهم أنَّ كُلَّ الكتاب يشهَدُ لهُ ويُؤكِّدُ صحَّةَ إدِّعاءاتِهِ (يُوحنَّا 5: 39، 40).

في الإصحاحِ السادِس، يُلحِقُ بمُعجِزَةِ إشباعِ الخمسة آلاف أكثرَ خُطَبِهِ عُمقاً وصُعوبَةً. فعِظَةُ خبزِ الحياة تتكلَّمُ عن العمل النافِع والذي لهُ مغزى. يبدَأُ يسُوعُ هذا الجزء من الحوار بإخبارِ السُّلطاتِ الدينيَّة بأنَّ ما يعمَلُونَهُ هُوَ بِلا مغزى. وعندما سألُوهُ عمَّا يعمَلُهُ طِوالَ النَّهار، أخبرَهُم عن عمَلِهِ.

إنَّ جوهَرَ ما قالَهُ يسُوع هو أنَّ كلامَهُ هُوَ رُوحٌ وحياة، واللهُ هُوَ الذي يقُولُ لهُ أن يتكلَّمَ به. فعندما يتجاوَبُ الناسُ بشكلٍ إيجابِيٍّ معَ كلامِهِ، يكتَشِفُونَ أنَّهُ خُبزُ الحياة النازِل من السماء. في الإصحاحِ الرابِع، نرى أنَّهُ ماءُ الحياة. في هذا الإصحاح، نراهُ خُبزُ الحياة.

لقد رفضَ الكثيرُ من الذين قالُوا أنَّهُم تلاميذَهُ، رفضُوا أن يتبَعُوهُ بعدَ هذه العظة، لأنَّهُ قالَ أنَّهُ عليهم أن يأكُلوا جسدَ إبنِ الإنسان ويشرَبُوا دمَهُ لتكُونَ لهُم حياةٌ أبديَّةٌ فيهم، من خِلالِ خُبزِ الحياة الذي قالَهُ أنَّهُ هوَ. في هذا الإطار، يُعطينا بُطرُس جواباً جيِّداً على السُّؤال، "ما هُوَ الإيمان؟" عندما سألَ يسُوعُ بطرُس إن كانَ هُوَ أيضاً سيترُكُهُ، أجابَهُ بطرُس بطريقَةٍ أو بأُخرى، أنَّهُ حتَّى ولو لم يَفهَم ولكنَّهُ يُؤمِن. وعلى مِثالِ بطرُس، علينا أن نُؤمِنَ بيسُوع ونتبَعَهُ حتَّى ولو لم نفهَم.

لقد كانَ يسُوعُ يُعلِّمُ أنَّ الطعامَ والشراب هُما إيضاحٌ عن الإيمان. فأنتَ تعتَقِدُ أنَّ كأسَ ماءٍ يُمكِنُ أن يُروي ظمأَكَ ويُنقِذَ حياتك. وبالتالي، فأنتَ تُبرهِنُ إعتِقادَكَ هذا عندما تشرَبُ كأسَ الماءِ ذاك. أنت تعتَقِدُ أنَّ الخُبزَ سوفَ يحفَظُكَ من الجوع، فتأكُلُ هذا الخُبز. بهذا المعنى، الإيمانُ هو أن تأكُلَ وتشرَبَ بحسبِ قولِ يسُوع.

أن نأكُلَ جسدَهُ يعني أن نُؤمِنَ بِكُلِّ ما علَّمَهُ ومثَّلَهُ عندما صارَ الكلمةُ الأبديُّ جسداً. أن نشرَبَ دمَهُ يعني أن نُؤمِنَ بمعنى موتِهِ على الصليب – أنَّهُ كانَ حمَلَ اللهِ عندما ماتَ هُناكَ على الصليب. فعلى هذا الجانِب من مائِدَةِ العشاءِ الرُّبَّاني والصليب الذي تُذكِّرُ هذا المائِدَةُ بهِ، من الأسهَلِ أن نفهمَ هذه الصورة المجازِيَّة الصعبَة. ولكن لم يكُنْ للرُّسُلِ والأنبِياء إمتِيازَ التمتُّعِ بوُجهَةِ النظَرِ تِلك.

في الإصحاحِ السابِع، كانَ تصريحُ المسيح هو أنَّ تعليمَهُ هُوَ تعليم الله. وعندما نتساءَلُ عن هذا التصريح، يُعطينا يسُوعُ جواباً آخرَ على السؤال عمَّا هُوَ الإيمان. يقُولُ أنَّ أُولئِكَ الذينَ يأتُونَ إلى تعليمِهِ معَ إرادَةٍ بالعمَلِ بما يقُولهُ تعليمُهُ هذا، سيعرِفونَ أنَّ التعليم هوَ تعليم الله (يُوحنَّا 7: 17). إنَّ نظرة العالم الفكريَّة هي، "عندما أَعرِف، عندها سأعمَل." فالمَعرِفَةُ تقُودُ إلى العمل. أمَّا بالنسبَةِ ليسُوع، فالعمَلُ يقُودُ إلى المعرِفة.

يَصِلُ الإصحاحُ الثامِنُ بالحِوار إلى خاتِمَةٍ حيويَّة. لقد وعظَ يسُوعُ بشكلٍ مُلزِم عندما أخبَرَ رِجال الدِّين هؤُلاء أنَّهُم أولادُ إبليس، وأنَّهُم مُستَعبَدِينَ لأبيهم إبليس. لقد قالَ لهُم أنَّهُم عبيدُ الخطيَّة، وأنَّهُم سوف يمُوتُونَ في خطاياهُم إن لم يُؤمِنُوا. قالَ أنَّهُ من السماء، أمَّا هُم فمن الجحيم، وسوفَ يمضُونَ إلى جهنَّم إن لم يُؤمِنُوا.

عندما إنتَهى يسُوعُ من إلقاءِ هذه العظة المَهُوبَة، آمنَ الكثيرون من رجالِ الدين هؤلاء (يُوحنَّا 8: 30- 36). عندما تجاوَبَ معَ إعتِرافِهم بالإيمان، قدَّمَ لهُم ثلاث مراحِل من الولادَةِ الجديدة.

الخُطوَةُ الأُولى نحوَ الوِلادَةِ الجديدة هي الإيمان. فهُوَ يقُولُ لأُولئِكَ الذين يعتَرِفُونَ بالإيمانِ بهِ أن يثبُتُوا في كلامِهِ وأن يُصبِحُوا تلاميذَهُ بِحَقّ. لقد شرحَ يسُوعُ أنَّ المرحَلة الثانِيَة هي أن يثبُتَ هؤُلاء في كلامِهِ وأن يُصبِحوا تلاميذَهُ فعلاً.

ثُمَّ يَصِفُ المرحلةَ الثالِثة، عندما يَعِدُ أنَّهُم سيجتازُونَ إختِباراً يجعَلُ منهُم أحراراً بالفِعل. المرحَلَةُ الثالِثة هي أنَّ الثَّبات في كَلِمتِهِ سيقُودُهم ليعرِفُوا عن طريقِ العلاقة، الشخص الذي هُوَ الحَقّ. إنَّ الوعدَ هو أنَّهُ عندما يجعَلُهم الإبنُ أحراراً، سيكُونُونَ أحراراً بالفعل. المرحَلَةُ الثالِثة من الولادَةِ الجديد ستكُونُ مثل الخُروج من السجن، بحَسَب وعد يسُوع (8: 30 – 36).

إنَّ تصريحَ يسُوع الأخير في هذا الحِوار هُوَ عندما يقُومُ هؤلاء اليهود الذين لا يُؤمِنُون بإتِّهامِهِ بأنَّهُ يدَّعي أنَّهُ يعرِفُ إبراهيم. فأجابَ يسُوع، "من قبلِ أن يكُونَ إبراهيم أنا كائن." هُنا حاوَلَ البعضُ منهُم أن يرجُمُوه. تأمَّلْ بهذه التصاريح التي صرَّحَ بها يسُوع، ومن ثمَّ أجِب برُوحِ الصلاة على هذا السؤال الذي طرحَهُ يسُوعُ مرَّةً على رُسُلِهِ، "من تقُولونَ أنِّي أنا؟" (متَّى 16: 15).

يبدَأُ الإصحاحُ التاسِعُ بمُعجِزَةِ شِفاء، يتبَعُها حِوارٌ آخر من يسُوع. يُقدِّمُ الوُعَّاظُ اليوم الحقيقَةَ التي يُريدُونَ أن يعِظُوا بها، ومن ثَمَّ يُعلِّمُونَ هذه الحقيقة. أمَّا يسُوع، فعلى مِثالِ النَبَّين إرميا وحزقِيال، اللذينَ بدأا عظاتِهما بأعمالٍ رمزيَّة أو إيمائيَّة، ممَّا سمَحَ لهما بإستئسارِ إنتباهِ سامِعيهما، فإنَّ يسُوعَ قبلَ أن يبدَأَ عظاتِهِ عن كونِهِ ماء الحياة وخُبز الحياة ونُور العالم، قبلَ ذلكَ بدأَ يسُوعُ بأحداثٍ أوضَحَت رسالتَهُ قبلَ أن يعِظَ بها.

فبعدَ أن منحَ البَصَرَ لرَجُلٍ كانَ في الأربَعينَ من عُمرِهِ، وكانَ قد وُلدَ أعمى، وعظَ يسُوعُ أنَّهُ كانَ نُور العالم. لقد صرَّحَ أنَّهُ كانَ نوعاً مُمَيَّزاً من النُّور الذي أعلَنَ عمى الذين كانُوا يدَّعونَ أنَّهُم يُبصِرُون، وأعطى البَصَرَ لأولئكَ الذين عَلِمُوا أنَّهُم عُميان.

مرَّةً حدَثَ أنَّ عُمَّالَ منجَمِ فحمٍ إحتُجِزوا لثلاثَةِ أيَّامٍ وثلاثَةِ لَيالٍ نتيجَةً لإنفجارٍ حَدَثَ في ذلكَ المنجم، ولكنَّهُم أُنقِذُوا. وعندما سألَ أحدُ عُمَّالَ المنجَم المُنقِذِين لماذا لم يُحضِروا معهُم أنواراً، أدرَكَ كُلٌّ من عُمَّالِ المنجَم والمُنقِذين على حَدٍّ سَواء أنَّ هذا العامل أُصيبَ بالعَمى بسبب الإنفجار. ولقد أُصيبَ بالعَمَى لثلاثَةِ أيَّامٍ، ولكنَّهُ لم يُدرِك أنَّهُ صارَ أعمى إلا عندما أتى المُنقِذُونَ الذين كانُوا يحمِلونَ الكثيرَ من الأنوار والمصابيح الكهربائيَّة معهُم. لقد كانَ يسُوعُ يُعلِنُ أنَّهُ كانَ ذلكَ النَّوع من النور، نُور العالم الذي يُعطي نُوراً للعُميان رُوحيَّاً ويُعلِنُ العَمى لأولئكَ الذي لا يعرِفونَ أنَّهُم عُميان.

عندما أدركَ القادَةُ الدينيُّون ما كانَ يقُولُه يسوع، سألوهُ إن كانَ يعني أنَّهُم عُميان رُوحيَّاً. فأجابَهم بالقول أنَّهُم لو كانُوا عُمياناً لما كانت لهُم خطيَّة. ولكن بما أنَّهُم كانُوا يفتَخِرُونَ بكونِهم يُبصِرون، لم يعُدْ لهُم عُذرٌ في خَطِيَّتِهم. والإستنتاجُ اللاهُوتيّ الذي نستَخلِصُهُ من هذا هو أنَّهُ بدونِ نُور لا خطيَّة، وجوهَر الخطيَّة هُوَ رفض النُّور، بحسبِ قولِ يسُوع في يُوحنَّا 9: 40، 41؛ 15: 22.

الإصحاحُ العاشِر من إنجيلِ يُوحنَّا هو بمثابَةِ مُلحَقٍ لمزمُور الراعي لداوُد. لقد أعلنَ يسُوعُ بوُضُوح أنَّهُ الرَّاعي الصالِح الذي كتبَ عنهُ داوُد ذلكَ المزمُور. الصُّورُ المجازِيَّةُ التي يستخدِمُها تُعلِنُ أنَّهُ يقُودُ اليَهُودَ الأتقِياء ليخرُجُوا من الديانَةِ التقليديَّة ليتبَعُوهُ للخلاص. ولهذا تطبيقٌ حَرفِيٌّ على الرجُلِ الأعمى الذي شُفِيَ، والذي طُرِدَ من المجمَع لأنَّهُ إعتَرَفَ أنَّ يسُوعَ هُوَ ربُّهُ.

الإصحاحُ الحادِي عشر هو إصحاحُ القِيامَةِ العظيم في هذا الإنجيل. إنَّ هذه القِصَّة الجميلة تُرينا كيفَ أنًَّ يسُوعَ يسمَحُ لثلاثَةِ أشخاصٍ أن يختَبِرُوا مُشكِلتَين لا حَلَّ لهُما في الحياة، وهُما المرَضُ والمَوت، خاصَّةً لأنَّهُ يُحِبُّهُم. فهُوَ يُريدُهُم أن يتعلَّمُوا أنَّهُ هُوَ نفسُهُ القِيامَة (الإنتِصار على المَوت)، والمِفتاح للحَياةِ الأبديَّة. لقد تعلَّموا من إختِبارِ مَوتِ لعازار، أنَّ الذي يُؤمِنُ ويعيشُ في إتِّحادٍ معَ المسيح، لن يمُوتَ أبداً (11: 25، 26). إنَّ هذه القصَّة العجائِبيَّة قد منحَت الوحيَ والحياةَ الأبديَّة للملايين من الذين سمِعُوا هذه القصَّة يُكرَزُ بها عبرَ أجيالِ تاريخِ الكنيسة.

يقسِمُ الإصحاحُ الثاني عشر إنجيلَ يُوحنّا إلى قِسمَين. فتقريباً نصفُ الإصحاحات في هذا الإنجيل تُغطِّي السنوات الثلاث والثلاثين الأُولى من حياةِ المسيح، والنِّصفُ الآخر يُغطِّي الأُسبُوع الأخير من حياتِه. فعبرَ هذا الإنجيل، تتكرَّرُ الجملَةُ التالية: "لم تأتِ ساعتُهُ بعد." في هذا الإصحاح، نسمَعُ يسُوعَ يُصلِّي قائلاً، "أيَّها الآب، لم تأتِ الساعَةُ بعد. وماذا أقُول؟ أنقِذني من هذه الساعة؟ ولكنِّي من أجلِ هذه الساعة أتيتُ إلى هذا العالم. أيُّها الآب، مَجِّدْ إسمَكَ." فجاءَ صَوتٌ من السَّماءِ وقالَ ما معناهُ، "لقد مجَّدتُ إسمي من خِلالِ حياتِكَ، وسوفَ أُمجِّدُهُ أيضاً."

ثُمَّ يختَلِي يسُوعُ في عُلِّيَّةٍ معَ الرُّسُل الإثني عشر، ليعقِدَ ما أُسمِّيهِ "بالخُلوَةِ المسيحيَّةِ الأخيرة." لقد بدأَ خدمتَهُ بالخُلوَةِ المسيحيَّةِ الأُولى،" عندما علَّمَ الموعِظَةَ على الجَبل. هُناكَ دعا تلاميذَهُ وجنَّدَهُم للخدمة. ومن ثَمَّ علَّمَهُم، أراهم، ودرَّبَهُم لمُدَّةِ ثلاثِ سنوات. فكانت خُلوتُهُ الأخيرة معهُم بمثابَةِ "حفلِ تخريجِهم" بعدَ ثلاث سنين في كُلِّيَّةِ اللاهُوت.

في هذا الإطار، ألقى يسُوعُ عظتَهُ الأطوَل، والتي تُسمَّى "عِظة العُلِّيَّة." نراها مُسجَّلَةً في الإصحاحات 13 إلى 16 من هذا الإنجيل. بعضُهُم يضُمُّ الإصحاح السابِع عشر أيضاً إلى هذه العظة، حيثُ صلَّى يسُوعُ صلاتَهُ الرائِعة من أجلِ الرُّسُل، وأُولئكَ الذين سيُؤمِنُونَ من خلالِهم، أي أمثالِكَ وأمثالي.

إنَّ هذه العِظة هي بالحقيقة حوارٌ حَمِيمٌ معَ هؤلاء الرِّجال. فهُم يسألُونَ أسئِلَةً، ومُعظَمُ هذه العظة تأتي جواباً على أسئِلتِهم. في الإصحاحِ الثالِث عشر، نقرَأُ أنَّهُ بدأَ هذه العظة بعمَلٍ رمزِيٍّ، هو غسلُ أرجُلِ التلاميذ. يُخبِرنا لُوقا أنَّهُ على الطريق إلى العُلِّيَّة، كانُوا يُجادِلونَ حولَ من سيكُونُ الأعظَم في الملكوت الذي ظنُّوه سيُؤسَّسُ قريباً (لُوقا 22: 24- 30). فيا لذلكَ التأثير العميق الذي تركَهُ عليهِم قيامُ مُعلِّمِهم وربِّهم بإتِّخاذِ دَورِ العبد وغسلِ أرجُلِ التلاميذ.

عندما إنتَهى يسُوعُ من غسلِ أرجُلِ تلاميذِهِ، سألَهُم، "هل تعلمُونَ ماذا عمِلتُ بكُم؟" (12) إنَّ هذا السُّؤال يجِدُ جوابَهُ في العدد الأوَّل من هذا الإصحاح، حيثُ نقرَأُ، "إذ كانَ قد أحَبَّ خاصَّتَهُ، أحبَّهُم إلى المُنتَهى." وهُنا قامَ يسُوعُ بالتطبيق، "لقد أعطَيتُكُم مِثالاً. وإن كُنتُ قد غَسَلتُ أرجُلَكُم، هكذا ينبَغي أن تغسِلُوا أَرجُلَ بعضُكم بعضاً."

فيما بعد، أجابَ يسُوعُ فعلاً على هذا السؤال، وقدَّمَ تطبيقاً عمليَّاً ديناميكيَّاً عندما علَّمَ قائلاً: "وَصِيَّةً جديدَةً أنا أُعطيكُم أن تُحِبُّوا بَعضُكُم بعضاً. كما أنا أحببتكُم هكذا تحِبُّونَ بعضُكم بعضاً. بهذا يعرِفُ الناسُ أنَّكُم تلاميذي." (يُوحنَّا 13: 34، 35).

لقد أحَبَّ يسُوعُ هؤلاءَ الرجال لمُدَّةِ ثلاثِ سنواتٍ بطريقَةٍ لم يُحِبُّهُم بها أحدٌ من قبل. لقد كانُوا جميعاً في العُلِّيَّة، لأنَّهُ أحبَّهُم وكانُوا يبذُلونَ قُصارى جهدهم ليُبادِلُوهُ محبَّتَهُ. لقد إتَّخذُوا جميعُهم عهداً وإلتِزاماً تِجاهَ المسيح، في لقائهم الأخير معَهُ قبلَ موتِهِ. إنَّ هذه الوصيَّة الجديدة وضعَت أمامَهم التحدِّي ليتَّخِذُوا عهداً جديداً وإلتِزاماً جديداً – إلتزاماً تِجاهَ بعضِهم البعض. إنَّ هذه الوصيَّة الجديدة خلقَت مُجتَمَعاً جديداً، الذي سيُصبِحُ كنيستَهُ. ولقد أرادَ هُوَ أن يُصبِحَ هذا المجتَمَعُ الجديد مُجتَمَعَ أشخاصٍ أحبُّوا بعضُهم بعضاً – أي موطِنَ محبَّة.

في الإصحاحِ الرابِع عشر، ألقى يسُوعُ عظةَ "دَفنِهِ" قبلَ موتِه. أخبَرَهُم أنَّهُ سيتركُهُم (أي أنَّهُ كانَ سيمُوت)، ولكن لا ينبَغي أن تضطَرِبَ قُلُوبُهم، لأنَّهُ يُوجَدُ مكان، وهُوَ يُعِدُّ ذلكَ المكان لأجلِهم. ولا ينبَغي أن تضطرِبَ قُلوبُهم، لأنَّهُ سيُرسِلُ لهُم شخصَ المُعزِّي. وبسببِ هذا المُعزِّي، سوفَ يتمتَّعُونَ دائماً بالسلام الخارِق للطبيعة في قُلوبِهم، والذي دعاهُ يسُوع "سلامي."

ولقد عزَّاهُم يسُوعُ أيضاً بإخبارِهم أنَّ علاقتَهُم معهُ ستكُونُ حميمَةً أكثرَ بعدَ موتِه. أخبَرَهُم أنَّ المفتاح لهذه العلاقة سيكُونُ طاعتهُم لهُ ولتعليمِه، الذي سيُبارِكُه الرُّوحُ القدُس بتمكينِهم من بُنيانِ علاقَةٍ حميمَةٍ معَ مُخَلِّصِهم القائم من المَوت. إنَّ المِفتاح لأقوالِهِ وأعمالِهِ كان علاقتُهُ الحميمة معَ الآبِ السماوِيّ، ومفتاحُ أقوالِهم وأعمالِهم سيكُونُ علاقتُهم الحميمة معَهُ من خِلالِ المُعزِّي، الرُّوح القُدُس (يُوحنَّا 10: 30؛ 14: 22، 23).

بعدَ أن علَّمَ هذه الأشياء في العلِّيَّة، قادَهُم إلى بُستانٍ وألقَى علَيهم خطاب التخرُّج. وأمسكَ بكرمَةٍ كانت أغصانُها الكثير مليئَةً بالثمار. ثُمَّ أوضَحَ لهم ما سبقَ وعلَّمَهُم إيَّاهُ في العُلِّيَّة، بِصُورَةٍ مجازِيَّةٍ عميقَة. بعدَ أن أشارَ إلى حقيقَةِ أنَّ الثمرَ كانَ ينمُو بكثرة على الأغصان، بسبب كونِها ثابِتَةً بالكرمة، حضَّهم على أن يثبتُوا فيهِ، ووعدَهُم أنَّهم سيكُونُونَ مُثمِرينَ إن ثبتُوا فيهِ.

ثُمَّ أعطاهُم ستَّة أسباب التي من جلهِا ينبَغي أن يأتُوا بِثمر. عليهم أن يأتُوا بثمر، لأنَّ هذه هي طريقَةٌ أُخرى ليُظهِرُوا بها للعالم أنَّهُم تلاميذُهُ. عليهم أن يأتُوا بِثمر لأنَّهُم بهذا يُمجِّدُونَ الله، وسوفَ يمنحُهم هذا فرحاً عظيماً. لهذا إختارَهُم يسُوعُ ليأتُوا بِثَمَر، وأمرَهم أن يأتُوا بِثَمَر، وعليهم أن يكُونُوا مُثمِرين لأنَّهُ ليسَ لديهِ طريقَةٌ أُخرى للوُصُولِ إلى العالم إلا من خِلالِهم (يُوحنَّا 15: 1- 16).

كُتِبَ شِعرٌ يُصوِّرُ يسُوعَ على سحابٍ بعدَ موتِهِ وقِيامَتِه، وهُوَ يتحدَّثُ عن حياتِهِ وعملِهِ معَ الملائكة، وعن خُطَّتِهِ لتبشيرِ العالم من خِلالِ الرُّسُل. سألَ أحدُ الملائكة ماذا سيفعَل يسُوع إن لم يُبشِّر الرُّسُلُ العالمَ بإنجيلِه؟ فكانَ جوابُهُ، "ليسَ لديَّ خطَّةٌ بديلة."

السببُ الأخير الذي من أجلِهِ على التلاميذ أن يكُونُوا مُثمِرين، أنَّهُ هُوَ الكرمة وهُم الأغصانُ الوحيدَةُ التي يملِكُها. إنَّ هذه الصُّورة المجازِيَّة هيَ حَضٌّ على الإثمار، وهي خُطابُ التخريج الذي وجَّهَهُ لرُسُلِهِ، وتُقدِّمُ المسيح كما كانَ وكما هو الآن: كرمَةٌ تبحَثُ عن أغصان.

في الإصحاحِ السادِس عشر، يعِدُ يسُوعُ بأن يُرسِلَ إليهِم الرُّوحَ القُدُس، الذي سمَّاهُ المُعزِّي. ولقد أظهَرَ طبيعَةَ وعمل خدمة الرُّوح القُدُس عندَما يأتي إليهِم. إنَّ هذا الإصحاح تحقَّقَ حرفِيَّاً في يومِ الخمسين.

في الإصحاح 17، صلَّى صلاةً عميقَةً مُوحاة من أجلِ الرُّسُل. وفي كُلِّ إنجيلِ يُوحنَّا، أشارَ إلى الأعمال التي عليهِ أن يُكمِّلَها. عندما تدرُسُ هذه الصلاة، يُصبِحُ واضحاً أنَّ هؤُلاء الرُّسُل كانُوا من أهمِّ أعمالِه. في الثُّلثِ الأَوَّل من هذه الصلاة، صلَّى من أجلِ عملِهِ وصرَّحَ أنَّهُ مجَّدَ الآبَ بإتمامِ عملِهِ الذي أرسلَه ليعمَلَهُ.

ثُمَّ صَلَّى من أجلِ عملِ الرُّسُل الذين خصَّصَ الرَّبُ من أجلِهم مُعظَمَ سنواتِه الثلاث في الخدمة. الثُّلثُ الأخير من هذه الصلاة خصَّصَهُ يسُوعُ لأُولئكَ الذين يُؤمِنونَ بالأخبارِ السارَّة من خِلالِ الرُّسُل. هذا يعني أنَّ يسُوعَ صلَّى من أجلِ كنيستِهِ. لقد صلَّى لكي نعيشَ في وحدَةٍ خارِقةٍ للطبيعة معَهُ، وفي وحدَةٍ معَ بعضِنا البعض، لكي يعرِفَ العالَمُ ويُؤمِن، أنَّ اللهَ الآبَ أحبَّهم بمقدارِ ما أحبَّ إبنَهُ.

إذا أضفتَ بِضعَةَ أعدادٍ من الإصحاح العِشرين إلى هذا المفهوم في صلاةِ يسُوع المُوحاة، تجدُ أمامكَ المأمُوريَّةَ العُظمى كما يُعبِّرُ عنها يُوحنَّا (20: 21). من أجلِ هذا الهدف، لم يستَطِعْ أن يُصلِّيَ لِيأخُذَ الآبُ الرُّسُلَ أو كنيستَهُ من هذا العالم، لأنَّهُ أرسَلَهُم إلى العالم، كما أرسَلَنا إلى العالم، وتماماً كما أرسلَهُ الآبُ إلى العالم، ليطلُبَ ويُخلِّصَ ما قد هلك (يُوحنَّا 17: 18).

  • عدد الزيارات: 7067