الفَصلُ الثامِن لمحَةٌ عامَّة عن إنجيلِ يُوحنَّا
عندَما يتعلَّمُ الوُعَّاظُ كيفَ يُلقُونَ عِظَةً، يُطلَبُ منهُم أن يفعَلُوا ثلاثَةَ أُمور: "أوَّلاً، عليكَ أنْ تُخبِرَ الناسَ ما أنتَ مُزمعٌ أنْ تخبرَهم، ثمّ عليكَ أنْ تخبرَهم، أَخيراً عليكَ أنْ تخبرَهم ما أخبرتَهم بهِ." فعِندَما كتبَ يُوحنَّا إنجيلَهُ، بإمكانِنا أن نعتَبِرَ أنَّ الأعداد الثمانِيَة عشر الأُولى بمثابَةٍ مُقدِّمَةٍ يتكلَّمُ فيها عمَّا سيُخبِرُنا بِهِ. ثمّ ِمَن الآيةِ التاسعة عشر مِنَ الإصحاحِ الأولِ وحتى العدد التاسِع والعِشرين من الإصحاح العشرين، يخبرُنا. ثمّ في العددين ثلاثين وواحد وثلاثين من الإصحاحِ العشرين يخبرُنا يوحنا بِما أَخَبرَنا بهِ.
عندما يُخبِرُنا يُوحنَّا بما سيقُولُهُ لنا، فهُوَ يُخبِرِنا من جُملَةِ الحقائِق التي سيُشارِكُها معنا، أنَّهُ عندما أصبحَ كلمةُ اللهِ الحَي جسداً وحلَّ بينَنا، وعندما تفاعلَ الناسُ بشكلٍ صحيح مع يسوع، عندما قَبِلُوه وآمنوا به، وُلِدوا ثانيةً. لقد إختَبَرُوا وِلادَةً ليست جسديَّةً ولا طبيعيَّة. لقد وُلِدوا مِنَ الله.
بَعدَ أن أَخبَرَنا بما سيقُولُهُ لنا، أعطانا أمثِلَةً عمَّا كتبَهُ بأنَّ أُولئِكَ الذين تجاوَبُوا بطريقَةٍ مُلائِمة معَ يسُوع، وُلِدُوا من فَوق. وهكذا يُعطينا يُوحنَّا في إصحاحٍ بعدَ الآخر، أمثِلَةً عن كيفَ تجدَّدَ الناسُ عندما كانُوا يتجاوَبُونَ بالطريقَةِ الصحيحَةِ معَ يسُوع المسيح. ويبدَأُ يُوحنَّا بإخبارِنا عن كيفَ إلتَقى بعضُ الرُّسُل أوَّلاً برَبِّهم ومُخلِّصِهم. لقد سألُوهُ أينَ يمكُث. فدعاهُم ليأتُوا وينظُرُوا أينَ يسكُن. وبما أنَّ قرارَهم بأن يأتُوا وينظُروا أينَ وكيفَ يعيش، بما أنَّ قرارَهم هذا قادَهم ليعيشوا ويمُوتُوا من أجلِِه، فلقد إختَبَروا بِوُضُوح ماذا يعني أن تُولَدَ من الله عندما تَعيشُ معَ يسُوع.
في الإصحاح الثاني، نجدُ صُورَةً مجازِيَّةً عن الوِلادَة الجديد، عندما يُصوَّرُ يسُوعُ بأنَّهُ الشخص الذي يقدِرُ أن يُحوِّلَ الماءَ إلى خمر. الخُطوات التي أدَّت إلى هذه المُعجِزة، وتطبيقيَّاً، إلى الوِلادة الجديدة، نجدُها مُصوَّرَةً لنا مجازِيَّاً. أوَّلاً، بِكلِمَاتِ مريم الثلاث، "ليسَ لديهم خَمرٌ." (يُوحنَّا 2: 3). بما أنَّ الخمرَ يرمُزُ إلى الفرَح في كلمةِ الله، فبالتطبيقِ التعبُّدِيّ، فإنَّ كلمات مريم هذه هي بمثابَة إعتِراف بأنَّهُ لن يكُونَ لدينا فرَحٌ أو بأنَّنا لم نُولَد ولادَةً جديدة.
الماءُ أحياناً هو رَمْزٌ للكتاب المقدسِ نفسِهِ. فهذهِ صورةٌ للخطوةِ الثانيةِ للولادة الجديدة. نقرَأُ أيضاً أنَّ كلمةَ الله هي "البِذار" الذي يُنتِجُ الولادَةَ الجديدة، ويُخبِرنا الكتابُ أنَّ الإيمانَ يأتي بالخَبَر، والخَبَرُ بكلمةِ الله. يرى البعضُ في الجرار التي مُلِئت كُلٌّ منها بِسبعين لِيتراً من الماء، صُورَةً عن حياتِنا التي تمتَلئُ بكلمةِ الله، كَخُطوَةٍ تُؤدِّي إلى الوِلادة الجديدة (يُوحنَّا 2: 7؛ أفسُس 5: 26؛ 1بطرُس 1: 23؛ رُومية 10: 17).
تُمثِّلُ كلماتُ مريم للخُدَّام مِفتاحَاً لجعلِ كلمةِ اللهِ قُوَّةً في حياتِنا: "مهما قالَ لكُم فافعَلُوه!" (2: 5) فبينما تملأُ عقلَكَ وقَلبَكَ من كلمَةِ الله، مهما قالَ لكَ، ذلكَ إفعَلْهُ دائِماً. إنَّ هذه الخُطوات التي تقُودُ إلى الولادَةِ الثانِية، يُمكِنُ أيضاً تطبيقُها كنَصيحَةٍ للإنتِعاش الشخصيّ، عندما نكُونُ بحاجَةٍ للتَّجدُّدِ الرُّوحِيّ.
أولئكَ الذين يَعرِفونَ إنجيلَ يُوحنَّا بِحَقّ، يعرِفُونَ أنَّ يُوحنَّا يُخبِرُنا في الإصحاحِ الثالِث عن مُعلِّم النامُوس نيقُوديمُوس، الذي كانَ ينبَغي أن يُولَدَ ثانِيَةً. علينا أن نُقدِّمَ المُلاحظَةَ التي إستخدَمَها يسُوعُ مرَّةً واحِدَةً، وذلكَ عندما كان يتحاوَرُ معَ واحِدٍ من أشهَرِ مُعَلِّمي النامُوس. فعلى الرُّغمِ من أنَّ يسُوع لم يستَخدِم قطْ عبارَة "الوِلادة الثانِية" مع َالآخرين، ولكن بحسبِ يُوحنَّا هذا ما كانَ يحصَلُ للذينَ تجاوبُوا معَ يسوعَ بِحَقّ.
لقد صادَقَ نيقُوديمُوس على هُوِيَّةِ يسُوع بقولِهِ أنَّهُ مُعلِّمٌ مُرسَلٌ من الله. قالَ أحدُهم، "إنَ ما نُؤمِنُ بهِ بالفِعل، ذلكَ نفعلُهُ. وكُلُّ ما عدا ذلكَ هوَ كلامٌ دينيٌّ فارِغ." وكأنَّ هذه المُقابَلة تَبدأُ معَ قولِ نيقُوديمُوس ليسُوع، "لقد رَأَيتُ ما تعمَلُهُ، ولهذا أتيتُ لأسمَعَ ما تُعَلِّمُهُ. فبعدَ أن أصغَى الرَّبُّ يسُوعُ لهذا الإعتِراف، قالَ لمُعلِّمِ النامُوسِ هذا ما معناهُ، "عليكَ أن تبدَأَ ثانِيَةً. عليكَ أن تبدَأَ بِطَريقَةٍ أُخرى. عليكَ أن تبدَأَ معي."
قالَ يسُوعُ لمُعلِّم إسرائيل هذا أن لا يتعجَّبَ إن قالَ لهُ أن يُولدَ ثانِيَةً، وكأنَّ هذا الأمر هُوَ غيرُ مفهومٍ أو غيرُ ضروريٍّ أو غيرُ معقُول. فَبِالنسبَةِ ليسُوع، القصدُ من هذه الولادة الجديدة هُوَ أن يرى ويدخُلَ إلى ملكوت الله. هذا هُوَ بِبَساطَةٍ التعليمُ أنَّ اللهَ هو مَلِكٌ، ونحنُ رعاياه. وهذا هُوَ التشديدُ الذي رأيناهُ من خِلالِ الكِتابِ المقدَّس، المُشدَّد عليهِ في هاتَينِ الكلمتَين: "اللهُ أوَّلاً!"
في هذه المُحادَثَة معَ نيقُوديمُوس، قدَّمَ يسُوعُ التصريح الأكثَر عقائديَّةً عن نفسِه. لقد صرَّحَ أنَّهُ إبنُ اللهِ الوَحيد، وحَلّ الله الوحيد لمُشكِلَةِ الخَطيَّة، والمُخلِّصُ الوحيد المُرسَل من الله. ولقد صرَّحَ أيضاً أنَّ الإيمانَ بتصاريحِهِ هذه عن نفسِهِ يعني الخلاص الأبديّ، وعدم الإيمان بهِ يَعني الدينُونة الأبَديَّة (3: 14- 21).
إنَّ هذه التصريحات قد قُدِّمَت جوابَاً على سُؤالٍ طرحَهُ نيقوديمُوس مرَّتَين. وكانَ هذا السؤال، "كَيف؟"بكلمةٍ واحدة، كانَ جوابُ يسُوع لهُ، "آمِن." فدورُنا في إختِبارِ الولادَةِ الجديدة هو أن نُؤمِن. أمَّا دَورُ الله فهُوَ كالريح. وليسَ بإمكانِنا أن نرى أو نتوقَّعَ من أينَ يأتي الرِّيح. "هكذا كُلُّ من وُلِدَ من الرُّوح،" كما قالَ يسُوع. وعلى الرُّغمِ من أنَّنا لا نجدُ إعترافاً صريحاً من نيقُوديموس بالإيمانِ في هذه المُقابَلة، إلا أنَّ المراجِعَ الأُخرى التي تُشيرُ إليهِ في الإنجيل والتقليد، تُقنِعُنا أنَّهُ إختَبرَ التجديد (7: 50؛ 19: 38- 42).
يُخبِرُنا الإصحاحُ الرابِع قِصَّةً عن إمرأَةٍ سامِريَّةٍ بسيطَةٍ خاطئة تجدَّدَت. رُغمَ أنَّ يسُوع لم يستَخدِم هذه الكلمات معَها، ولكن بينَما يُكَيِّفُ إستعاراتِهِ المَجازِيَّة معَ حاجاتِ هذه المرأة، نُدرِكُ أنَّ هذا مثلٌ آخر عن شَخصٍ وُلِدَ ثانِيَةً، لكونِها تجاوَبَت بطريقَةٍ صحيحةٍ معَ يسُوع. يُقدِّمُ يسُوعُ نفسَهُ كالماءِ الحيّ، الذي إن شرِبَتْ منهُ لن تعطَشَ إلى الأبد.
لقد قيلَ لها أنَّ شِربَها من هذا الماءِ الحي سوفَ ينبَعُ فيها كنبعِ مياهٍ حيَّةٍ يرتَوي منهُ الآخرون. ولقد تحقَّقَ هذا عندما تجدَّدَت، وذهَبت وبَشَّرت رجالَ السامِرة بالمَسيح. لقد إكتَشَفت أعظَمَ إختِبارَين في الحياة: أن تُولدَ أنتَ شخصيَّاً من جديد، وأن تُصبِحَ الأداة البَشَريَّة التي بواسطتها يتجدَّدُ الآخرُون.
فكِّرُوا بهذه الأجوِبَة على هذه الأسئِلة الثلاث في الإصحاحاتِ الأربعة الأُولى من هذا الإنجيل. من هُوَ يسُوع؟ إنَّهُ كلمةُ اللهِ الحيّ الذي أصبحَ جسداً وعاشَ بينَنا، لكي نتجدَّدَ أو نولَدَ من جَديد. إنَّهُ ذلكَ الواحِدُ الذي يستطيعُ أن يُحَوِّلَ ماءَنا خمراً. إنَّهُ رجاؤُنا الوحيد ومُخلِّصُنا الوحيد. إنَّهُ الماءُ الحيّ الذي يُروي عطشنا للحياة، وينبَعُ فينا كنبعِ مياهٍ حيَّةٍ يشرَبُ منها الآخرونَ ويتجدَّدُون.
ما هُوَ الإيمان؟ إنَّ الإيمان هُوَ التجاوب بطريقَةٍ صحيحَةٍ مع ما قالَهُ يسُوعُ عن نفسِه. الإيمانُ هو، "تعالَ وانظُرْ أينَ وكيفَ يعيش." الإيمانُ هو الإستِماعُ إلى كلمةِ اللهِ وطاعتها. الإيمانُ هو بسيطٌ ببساطَةِ شُربِكَ للماء، عالماً أنَّهُ سيُروي عطَشَكَ.
وما هِيَ الحياة؟ الحياةُ هي أن تُولدَ من جديد. الحياةُ هي أن تتحوَّلَ ماءُكَ خمراً. الحَياةُ هي أن ترى وتدخُلَ ملكوتَ الله الأبديّ. الحَياةُ هي شربُ الماء الحي الذي يُروي عطشكَ في الحياة ويُصبِحُ فيكَ نبعاً يشرَبُ منهُ الآخرونَ ويُروُونَ ظمأَهُم الروحي العميق.
- عدد الزيارات: 7096