الفصلُ الثاني "دُخولُ وخُروجُ إشعياء" - وُجهة نظر تاريخيَّة حيويَّة
وُجهة نظر تاريخيَّة حيويَّة
رُغمَ أنَّ دراستَنا هذه للكتابِ المقدَّس هي دِراسةٌ تعبُّديَّة عمليَّة، هُناكَ وُجهةُ نظَرٍ تاريخيَّة ينبَغي أن تتحلَّى بها لكي تفهَمَ رسالةَ الأنبياء. في الفترةِ التاريخيَّةِ التي عاشَ فيها الأنبياءُ وكرزوا وكتبوا وخدموا، أي من حوالي 800 إلى 400 ق.م.، كانت هُناك ثلاثُ قُوى عالمية عظيمة؛ الأمبراطُوريَّة الأشوريَّة العُظمى، الذي إجتاحَت مملكة إسرائيل الشمالية؛ الأمبراطوريَّة البابِلية التي إجتاحت وسَبَت مملكة يهوذا الجنوبيَّة، بعدَ أن سبقَ وتغلَّبَ البابِليُّونَ على الأمبراطُوريَّةِ الأشوريَّة؛ ثُم المادِيُّونَ والفُرُس الذي إجتاحوا بابِل.
عاشَ إشعياءُ عندما كانت أشُّور القُوة العُظمى الحاكِمة في العالم، وقبلَ أن تجتاحَ أشور المملكة الشماليَّة وتهزِمَ عاصمتَها السامِرة. فالأسباطُ الشمالِيَّةُ العشرة، التي كانت تُدعى إسرائيل، أُخِذَت للسبي. وصارَ يُشارُ إليها بِ "أسباط إسرائيل المفقودة،" لأنَّ ذكرَهُم إنقطَعَ منذُ ذلكَ الحين. ومُعظَمُ وعظِ إشعياء كانَ بمثابةِ تحذيرٍ للملكة الشمالية بأن الإجتياحَ الأشوريَّ آتٍ كدينونةٍ من الله على خطيَّتِهم في عبادةِ الأوثان.
وبعدَ أن اجتاحَ الأشوريًّون المملكة الشمالية، فهزموها وأخذوا أسباطَ إسرائيل العشرة إلى السبي، تحوَّلَ الأشوريُّونَ نحو الجنوب واجتاحوا المملكة الجنوبية. فاحتلُّوا ستةً وأربعينَ مدينةً مُسوَّرةً في يهوذا. ووصلت جُيوشهم إلى أبوابِ أُورشليم، وأخذوا مائتي ألف يهودي أسرى إلى أشور. وعندما وصلت جُيوشُ أشور إلى أبوابِ أُورشليم، كانَ إشعياءُ في أَوْجِ نُبوَّتِه.
كان الملِكُ الحاكِمُ في تلكَ الحقبة في المملكة الجنوبيَّة، وهو حزقيَّا، كانَ ملِكاً صالِحا. لقد كانَ حزقِيَّا رجُلاً رُوحيَّاً ومُجاهِداً في الصلاة. ولقد كتبَ حزقِيَّا عشرةً من المزامير. وعندما وصلَ الأشوريُّونَ إلى أبوابِ أورشليم، أخذَ قائدُ الجيشِ الأشوري بالنُّطقِ بشتيمةِ الرجال العبرانيين الذين كانوا يحرِسونَ أورشليم، مُتَحدِّياً شعبَ يهوَّذا بالإستِسلام.
وبينما كانَ حزقِيَّا الملك في الهيكَل، يتضرَّعُ أمامَ الله من أجلِ حياةِ شعبِه، أخذَ النبيُّ إشعياء إعلاناً من عندِ الله. فذهبَ إشعياءُ إلى الهيكَل وقالَ لحزقِيَّا أنَّ الإنقاذَ آتٍ، لأنَّ اللهَ سمِعَ صلاتَه. وقالَ إشعياءُ لحزقِيَّا أنَّ الأشوريِّين سوفَ يستَلِمونُ رِسالةً يُخبَرونَ فيها أنَّه عليهِم الرجُوع إلى بِلادِهم، وعندما يصِلونُ إلى أشور، سوفَ يُقتَلُ ملِكُهم هُناك.
تلكَ الليلة، مائةٌ وخمسةٌ وثمانُونَ ألفاً ماتوا من الطاعون في الجيشِ الأشوريّ. وفي الصباحِ التالي، عندما إكتشفَ بقيَّةُ الجيشِ الأشوريّ مصيرَ رِفاقِهم المأساوي، حَمَلوا عِتادَهُم ورجعوا إلى أشور. وعندما وصلوا إلى هُناك، تحقّقت نُبُوَّةُ إشعياء عندما جاءَ إثنانِ من أولادِ ملِكِ أشور وقتلاهُ. إذا تكلًّمنا إنسانِيَّاً، يُمكِنُ القولُ أنَّهُ لولا خِدمة وتأثير النبي إشعياء، لأخذَ الأشوريُّونَ المملكة الجنوبيَّة معَ المملكة الشمالِيَّة، إلى السبيِ والإبادَة.
يُعطِينا إشعياءُ واحِداً من أعظَمِ الأمثِلة في الأنبياء وفي الكتابِ المُقدَّس عن خِدمةِ النبي بالتنبُّوءِ بالمُستقبَل. لقد تنبَّأَ إشعياءُ بأنَّ فارِس سوفَ تحتَل بابِل، وتوصَّلَ إشعياءُ إلى ذِكرِ إسمِ الملك الفارِسي الفاتِح، كورُش الكبير، الذي سوفَ يُصدِرُ قراراً يسمَحُ لِشعبِ يهوذا بالعودةِ من بابِل لكي يبنوا هيكلَ الرب. لقد ذكرَ إشعياءُ كُورُشَ بإسمِهِ مرَّتين، مُتنبِّئاً عن هذه الحدَثِ العظيم في التاريخِ العِبري.
يُخبِرُنا التقليد أنَّ شُيوخَ اليهود المَسبِيِّين أخذوا نُبُوَّةَ إشعياء وأَرَوها لكورُش الكبير، شارِحينَ له أنَّ نبيَّهُم الشيخ الذي عاشَ قبلَ مائة وخمسين سنةً من ذلكَ التاريخ، سبقَ وتنبَّأَ عن كُورُش ذاكِراً إسمَهُ بالتحديد، وقائلاً أنَّ كُورُش هو الذي سوفَ يُطلِقُ شعبِي من السبي. فحرَّكَت هذه النُّبُوَّةُ العجيبة كُورُش لإصدارِ قراره المشهور. وهو لم يمنحَهُم فقط إذناً بالرُّجوع، بل ساهَمَ في توفير موادِ إعادةِ بناءِ الهيكل. فتطبيقاً لنُبُوَّةِ إشعياء بحرفيَّتِها، عندما إجتاحت فارِس بابِل، أولُ شيءٍ عمِلَهُ كُورُش هو أنَّهُ أصدرَ قراراً يسمحُ لليهود بالعَودَةِ إلى أورشَليم لبِناءِ هيكَلِهم." (إشعياء 44: 28 – 45: 7؛ عزرا 1: 2-4).
- عدد الزيارات: 11979