الفصلُ الثاني "دُخولُ وخُروجُ إشعياء"
يقعُ الأنبياءُ في قِسمين: الأنبياءُ الكبارُ والأنبياءُ الصغار. ليسَ أنَّ الأنبياء الكِبار أعظم من الأنبياء الصغار، ولكن الأنبياءَ الكبار سُمِّيوا هكذا لأنَّهم كتبوا أسفاراً أطولَ جداً مما كتبهُ الأنبياءُ الصغار. وإذ نُفكِّرُ بالأنبياءِ الكبارِ والصغار، نقولُ أنَّ إشعياء هو أعظمُهُم، لأنَّ سفرَ إشعياء هو أطولُ الأسفارِ النبويَّة.
إنَّ إشعياء كان ينتَمي إلى طبقةِ الأشراف بينَ اليهود. ويُخبِرنا التقليدُ اليهوديُّ أنَّ إشعياء كانَ قريباً للملكِ عُزِّيَّا، وللملكِ يُوآش من جِهةِ والدِه. وبما أنَّ إشعياء خدمََ عدَّة مُلوك، كانت خلفِيَّتُهُ المَلَكيَّة أفضَلَ إعدادٍ للخدمةِ التي دعاهُ إليها الله.
وُجهة نظر تاريخيَّة حيويَّة
رُغمَ أنَّ دراستَنا هذه للكتابِ المقدَّس هي دِراسةٌ تعبُّديَّة عمليَّة، هُناكَ وُجهةُ نظَرٍ تاريخيَّة ينبَغي أن تتحلَّى بها لكي تفهَمَ رسالةَ الأنبياء. في الفترةِ التاريخيَّةِ التي عاشَ فيها الأنبياءُ وكرزوا وكتبوا وخدموا، أي من حوالي 800 إلى 400 ق.م.، كانت هُناك ثلاثُ قُوى عالمية عظيمة؛ الأمبراطُوريَّة الأشوريَّة العُظمى، الذي إجتاحَت مملكة إسرائيل الشمالية؛ الأمبراطوريَّة البابِلية التي إجتاحت وسَبَت مملكة يهوذا الجنوبيَّة، بعدَ أن سبقَ وتغلَّبَ البابِليُّونَ على الأمبراطُوريَّةِ الأشوريَّة؛ ثُم المادِيُّونَ والفُرُس الذي إجتاحوا بابِل.
عاشَ إشعياءُ عندما كانت أشُّور القُوة العُظمى الحاكِمة في العالم، وقبلَ أن تجتاحَ أشور المملكة الشماليَّة وتهزِمَ عاصمتَها السامِرة. فالأسباطُ الشمالِيَّةُ العشرة، التي كانت تُدعى إسرائيل، أُخِذَت للسبي. وصارَ يُشارُ إليها بِ "أسباط إسرائيل المفقودة،" لأنَّ ذكرَهُم إنقطَعَ منذُ ذلكَ الحين. ومُعظَمُ وعظِ إشعياء كانَ بمثابةِ تحذيرٍ للملكة الشمالية بأن الإجتياحَ الأشوريَّ آتٍ كدينونةٍ من الله على خطيَّتِهم في عبادةِ الأوثان.
وبعدَ أن اجتاحَ الأشوريًّون المملكة الشمالية، فهزموها وأخذوا أسباطَ إسرائيل العشرة إلى السبي، تحوَّلَ الأشوريُّونَ نحو الجنوب واجتاحوا المملكة الجنوبية. فاحتلُّوا ستةً وأربعينَ مدينةً مُسوَّرةً في يهوذا. ووصلت جُيوشهم إلى أبوابِ أُورشليم، وأخذوا مائتي ألف يهودي أسرى إلى أشور. وعندما وصلت جُيوشُ أشور إلى أبوابِ أُورشليم، كانَ إشعياءُ في أَوْجِ نُبوَّتِه.
كان الملِكُ الحاكِمُ في تلكَ الحقبة في المملكة الجنوبيَّة، وهو حزقيَّا، كانَ ملِكاً صالِحا. لقد كانَ حزقِيَّا رجُلاً رُوحيَّاً ومُجاهِداً في الصلاة. ولقد كتبَ حزقِيَّا عشرةً من المزامير. وعندما وصلَ الأشوريُّونَ إلى أبوابِ أورشليم، أخذَ قائدُ الجيشِ الأشوري بالنُّطقِ بشتيمةِ الرجال العبرانيين الذين كانوا يحرِسونَ أورشليم، مُتَحدِّياً شعبَ يهوَّذا بالإستِسلام.
وبينما كانَ حزقِيَّا الملك في الهيكَل، يتضرَّعُ أمامَ الله من أجلِ حياةِ شعبِه، أخذَ النبيُّ إشعياء إعلاناً من عندِ الله. فذهبَ إشعياءُ إلى الهيكَل وقالَ لحزقِيَّا أنَّ الإنقاذَ آتٍ، لأنَّ اللهَ سمِعَ صلاتَه. وقالَ إشعياءُ لحزقِيَّا أنَّ الأشوريِّين سوفَ يستَلِمونُ رِسالةً يُخبَرونَ فيها أنَّه عليهِم الرجُوع إلى بِلادِهم، وعندما يصِلونُ إلى أشور، سوفَ يُقتَلُ ملِكُهم هُناك.
تلكَ الليلة، مائةٌ وخمسةٌ وثمانُونَ ألفاً ماتوا من الطاعون في الجيشِ الأشوريّ. وفي الصباحِ التالي، عندما إكتشفَ بقيَّةُ الجيشِ الأشوريّ مصيرَ رِفاقِهم المأساوي، حَمَلوا عِتادَهُم ورجعوا إلى أشور. وعندما وصلوا إلى هُناك، تحقّقت نُبُوَّةُ إشعياء عندما جاءَ إثنانِ من أولادِ ملِكِ أشور وقتلاهُ. إذا تكلًّمنا إنسانِيَّاً، يُمكِنُ القولُ أنَّهُ لولا خِدمة وتأثير النبي إشعياء، لأخذَ الأشوريُّونَ المملكة الجنوبيَّة معَ المملكة الشمالِيَّة، إلى السبيِ والإبادَة.
يُعطِينا إشعياءُ واحِداً من أعظَمِ الأمثِلة في الأنبياء وفي الكتابِ المُقدَّس عن خِدمةِ النبي بالتنبُّوءِ بالمُستقبَل. لقد تنبَّأَ إشعياءُ بأنَّ فارِس سوفَ تحتَل بابِل، وتوصَّلَ إشعياءُ إلى ذِكرِ إسمِ الملك الفارِسي الفاتِح، كورُش الكبير، الذي سوفَ يُصدِرُ قراراً يسمَحُ لِشعبِ يهوذا بالعودةِ من بابِل لكي يبنوا هيكلَ الرب. لقد ذكرَ إشعياءُ كُورُشَ بإسمِهِ مرَّتين، مُتنبِّئاً عن هذه الحدَثِ العظيم في التاريخِ العِبري.
يُخبِرُنا التقليد أنَّ شُيوخَ اليهود المَسبِيِّين أخذوا نُبُوَّةَ إشعياء وأَرَوها لكورُش الكبير، شارِحينَ له أنَّ نبيَّهُم الشيخ الذي عاشَ قبلَ مائة وخمسين سنةً من ذلكَ التاريخ، سبقَ وتنبَّأَ عن كُورُش ذاكِراً إسمَهُ بالتحديد، وقائلاً أنَّ كُورُش هو الذي سوفَ يُطلِقُ شعبِي من السبي. فحرَّكَت هذه النُّبُوَّةُ العجيبة كُورُش لإصدارِ قراره المشهور. وهو لم يمنحَهُم فقط إذناً بالرُّجوع، بل ساهَمَ في توفير موادِ إعادةِ بناءِ الهيكل. فتطبيقاً لنُبُوَّةِ إشعياء بحرفيَّتِها، عندما إجتاحت فارِس بابِل، أولُ شيءٍ عمِلَهُ كُورُش هو أنَّهُ أصدرَ قراراً يسمحُ لليهود بالعَودَةِ إلى أورشَليم لبِناءِ هيكَلِهم." (إشعياء 44: 28 – 45: 7؛ عزرا 1: 2-4).
واعِظٌ عظيمٌ
لا بُدَّ أنَّ إشعياء كانَ واعِظاً عظيماً. فبحسبِ يسوع، كانَ يوحنَّا المعمدان أعظم نبيٍّ ولدته امرأة (لوقا 7: 28). على أيَّةِ حال، فالإصحاحُ الثالثُ من إنجيلِ لوقا يُخبِرنا أنَّ هذا النبي الذي كان أعظم من ولدته امرأة، عندما جاءَ لِيَعِظ، وعظَ من عظاتِ إشعياء (لُوقا 3: 4). وبما أن أعظمَ نبيٍّ ولدتهُ امرأة وعظَ مواعِظَ إشعياء، فهذا يعنِي أن إشعياء نفسَهُ كانَ نَبيَّ الأنبِياء.
لقد وعظَ إشعياءُ على الأقل لخمسين أو ستِّينَ سنةً. وعاصَر خمسةَ مُلوكٍ في يهوذا وستَّةَ مُلوكٍ في إسرائيل. ولكن حتَّى ولو كانَ لديهِ الكثيرَ ليقولَهُ عمَّا سيأتي على المملكة الشمالية على يدِ أشور، كانَ اهتمامُهُ الأساسي في يهوذا.
إذا أردتَ أن تُكوِّنَ فكرةً عن خلفية إشعياء التاريخيَّة، إقرأ برويَّة الأعداد الأولى من نُبوَّتِه. فالأسفارُ النبويَّة تُخبِرنا عادةً عن موقِعِ نبيٍّ ما في التاريخ بإخبارِنا أنَّهُ عاشَ وخدمَ خِلالَ حُكمِ مُلوكٍ مُعيَّنين. بعضُ المُلوك الذي حكمُوا خلالَ فترةِ حياةِ إشعياء كانوا صالِحين، وبعضُهم كانوا أشراراً. أحدُ المُلوكِ الأشرار في أيامِ إشعياء كانَ منسَّى. ويقولُ التقليدُ أنَّ منسَّى أمرَ بوضعِ إشعياء داخِل شجرة مُجوَّفة حيثُ تمَّ نشرُهُ إلى شِقَّين. مُفسِّرونَ كثيرونَ يُؤمِنون أنَّ إستشهادَ إشعياء يتمُّ وصفُهُ عندما يذكُرُ إصحاحُ الإيمان في الكتابِ المقدَّس أنَّ بعض أبطال الإيمان في العهدِ القديم" نُشِروا" (عبرانِيِّين 11: 37).
تقسيمُ السفر
هُناكَ طريقةٌ صحيحةٌ لتقسيمِ سفرِ إشعياء. فالإصحاحاتُ التسعةُ والثلاثون الأولى من سفرِ إشعياء هي رسالةُ إشعياء التحذيريَّة لشعبِ الله من الإجتياحِ والسبي الأشوريّ. والإصحاحاتُ السبعةُ والعِشرونَ الباقِية من إشعياء هي رِسالةُ شفاء وتعزِية. وكأنَّ الإصحاحات التسعةُ والثلاثون الأولى هي بمثابةِ "العمليَّة الجِراحِيَّة الروحيَّة،" والإصحاحات السبعةُ والعشرونَ الأخيرة هي عمليَّةُ الشِّفاء التي تلي "الجراحة."
إنَّ طريقَةَ تقسيم إصحاحات إشعياء الستَّة والستُّين جعلت بعضَ الناسِ يُقيمونَ توازِياً بينَ سفرِ إشعياء والكتاب المقدَّس نفسه. تأمَّل بهذه المُتوازِيات المُدهِشة: فهُناكَ ستَّةٌ وسِتُّونَ إصحاحاً في سفرِ إشعياء، وهُناكَ ستَّةٌ وسِتُّونَ سِفراً في الكتابِ المقدَّس. وسفرُ إشعياء يُقسَمُ إلى جزئين من تسعةٍ وثلاثينَ إصحاحاً وسبعة وعِشرينَ إصحاحاً، والكتابُ المُقدَّس يُقسَمُ إلى جزئين، العهدُ القديم الذي يحتوي على تسعةٍ وثلاثين سِفراً، والعهدُ الجديدُ يحتَوي على سبعةٍ وعشرينَ سفراً. الجزءُ الأوَّلُ من إشعياءُ هو مثل العهد القديم يتكلَّمُ برسائل التحذير والتأديب الصارِمة، كاشِفاً عن حالة الإنسان المُزرِيَة والحل الذي يجدُهُ في الله.
الجزء الثاني من إشعياء يُشبِهُ "العهدَ الجديد،" الذي يُقدِّمُ رسائِلَ التعزِيَة والرَّجاء للشعبِ الذي أدرَكَ حاجتَهُ لمُخلِّص، بسبب ما قرأوهُ في "العهدِ القديم" في سفرِ إشعياء ودلالتِهِ على الطريقِ للمُخلِّص. العهدُ القديمُ يبدأُ بالسؤال، "أينَ أنت؟" (تكوين 3: 9). العهدُ الجديدُ يبدأُ بالسؤال، "أينَ هُوَ؟" (متى 2: 2). إن هذين القِسمَين لسفرِ إشعياء يجعلانِنا نُدرِكُ حاجتَنا لمُخلِّص، ويُمهِّدانِ لنا الطريق لنلتَقي معَ العبدِ المُتألِّم في إشعياء 53.
دَعوَةُ إشعياء
هُناكَ مقطَعَان من سفرِ إشعياء يُساعِدانِنا على أن نتعرَّفَ على إشعياء نفسه كرجُل، كما مع خِدمتِهِ ورسالته. المقطَعُ الأوَّلُ هو إشعياء 6، الذي نجِدُ فيهِ وصفاً لدعوةِ إشعياء، وتكليفِهِ بالمُهمَّةِ النبويَّة. ولربَّما نرى في هذا المقطع أيضاً وصفاً لتوبَةِ وتجديدِ إشعياء. ففي كلمةِ الله، يدخُلُ المؤمِنُون إلى حضرةِ اللهِ بِشكلٍ مُعبِّر، بطريقةٍ تسمَحُ لهم بالخُروجِ من حضرتِهِ إلى العالم بشكلٍ مُعبِّر. إن الإصحاحِ السادِس من سفرِ إشعياء يحتوي على وصفٍ لإختِبارِ إشعياء بالدخولِ إلى حضرةِ الله والخروجِ من حضرتِه لإتمامِ عملهِ.
وبينما كانَ إشعياء يختبِرُ دُخُولَهُ إلى حضرةِ الله، سمِعَ الربَّ يقول، "من أُرسِل ومن يذهب من أجلِنا؟" (عدد 8). وجواباً على هذا السؤال، تسمَعُ إشعياء يُعبِّرُ عن إلتزامِه بقولِه، "هأنذا يا رب، أرسِلني." إن هذا النموذَج كثيراً ما نراهُ مُعلَناً في كلمةِ الله. فأولئكَ الذين يدخُلونَ إلى حضرةِ اللهِ بِحَقّ، يسمَعونَ مأمُوريَّةً ويذهَبُونَ من أجلِ اللهِ بِحق.
ونرى اللهَ يشرَحُ الأمرَ بالقول، "يا إشعياء، إن الشعبَ لن يسمَعْ لكَ. فليسَ الهدفُ من ذهابِكَ أن يتوبَ شعبُ اللهِ ويتجدَّدون. لأنَّهم اختاروا بحُرِّيَّتِهم أن يبتعِدُوا عنِّي. ولكنَّني أُريدُكَ أن تذهبَ على أيَّةِ حال، لأنَّني أُريدُهم أن يسمعوا رِسالتي." إنَّ هذا صعبٌ على الواعِظ. تصوَّر أن تكونَ واعِظاً بدونِ أن يتجاوَبَ أيُّ شخصٍ معَ وعظِكَ.
يُدهِشُنا إلتزامُ إشعياء بمأموريَّتِه. لقد سألَ إشعياءُ ببساطة، "إلى متى عليَّ أن أنتَظِر لكي يُصبِحوا مُستَعدِّينَ للإصغاء؟" فأجابَهُ اللهُ بما معناهُ، "إلى أن يُصبِحوا جميعاً أمواتاً وعبيداً وبِلادُهم خَرِبَة ومهجورة" (إشعياء 6: 11، 12). إن إلتزامَ إشعياء ينبَغي أن يكونَ مِثالاً لنا جميعاً. وبالحقيقة، إنَّ إلتزامَ جميع هؤلاء الأنبِياء هو أعظمُ عظاتِهم. لقد دخلوا في عقدٍ معَ الله الذي أمرهم أن يذهبوا وهُم أطاعُوا مأمُوريَّتَهُ بأمانة وإخلاص.
إنَّ مسؤوليَّتَنا هي أن نعمَلَ ما يدعونا اللهُ لهُ ويُكلِّفُنا بهِ. ونتيجَةُ طاعتِنا لمأموريةِ الله هي مسؤوليَّتُه. وحدَهُ اللهُ الروحُ القُدُس، يقدِرُ أن يُؤتِي الثِّمار. فمسؤوليَّتُنا هي الأمانة والإثمارُ هو مسؤوليَّةُ الله. ومسؤوليَّتُنا هي أن نعمَل ما دعانا إليهِ اللهُ.
- عدد الزيارات: 11984