الفَصلُ الخامِس صَخرَةٌ وعَصا - إنهاكُ مُوسى
إنهاكُ مُوسى
في الإصحاح 11 من سفر العدد توجدُ حادثةٌ أخرى عن موسى التي أجدُها مُثيرةً للإهتمام. كثيراً ما نسمعُ اليوم عن ما نُسمِّيهِ الإنهاك، أو الإحتراق، أو الإنهيار العصبي، وتعابير أُخرى نُطلِقُها على الذين يفشلون من ذواتِهم جسدِيَّاً، عاطِفيَّا، وعقلِيَّاً. فحتَّى رِجالاتُ اللهِ العِظام تَعِبُوا، وأحياناً أُخرى تَعبوا من أُمُورٍ مُعَيَّنة. وهُناكَ فرقٌ بينَ الحالَتين.
مثلاً، في هذا الإصحاح من سفرِ العدد، نسمَعُ مُوسى يَقُولُ للرَّبِّ، "أنا لا أستطيعُ أن أتحمَّلَ هذه الأُمَّة. إن هذا لحملٌ ثقيلٌ جداً عليَّ. فإن كُنتَ ستُعامِلني بهذه الطريقة، خُذْ نفسي الآن، وهذا سيكونُ لُطفاً منك. أخرجني من هذا الظرفِ الصعب." (عدد 23: 9- 11)
هل سبقَ لكَ وشعرت بمثلِ هذا الشعور؟ لقد وجدتُ أن رجالاً أمثال موسى، إيليَّا، أيُّوب، داود، ويوحنَّا الرسول، وعُظَماءُ آخرون مثلهم في كلمةِ الله، وصلوا لمرحلةٍ من الإنهاك لدرجةٍ صلُّوا فيها للرب طالِبينَ المَوت. هكذا نوع من الإعياء يمكن أن يحدث لرجالات الله الأتقياء. تُخبِرُنا كَلِمَةُ اللهِ أنَّ هذا حَدَثَ لِرجالاتِ اللهِ العِظام أمثال مُوسى، إيليَّا، يُونان، أيُّوب، وآخرُونَ أمثالُهم. ولكن عندما أصبَحَ رِجالاتُ اللهِ هؤُلاء مُنهَكُونَ لِدرجَةِ أنَّهُم طَلَبُوا منَ اللهِ طِلباتٍ مغلُوطة – أي أن يأخُذَ حياتَهُم – أبقَى اللهُ على حياتِهم لأنَّهُ كانَ يعرِفُ قُلُوبَهُم.
لقد عرفَ مُوسى أنَّ اللهَ وحدَهُ بإمكانِهِ أن يتحمَّلَ هذا العِبءَ الثَّقيل للقِيامِ بعمَلِهِ الخارِق للطَّبيعة. ولقد تعلَّمَ مُوسى درساً آخَر حَيويَّاً، عبرَ إختِبارِهِ للإنهاك. الدَّرسُ الذي تعلَّمَهُ مُوسى كانَ أنَّ عملَ اللهِ هُوَ عملُ فريق. فلقد أَدرَكَ أنَّهُ رُغمَ أنَّ اللهَ كانَ يعمَلُ عملَهُ من خلالِهِ، فلن يَكُونَ بإمكانِهِ أن يتحمَّلَ عِبءَ مُقاضاةِ شَعبِ إسرائيلِ بِمُفرَدِهِ. عندما وصلَ إنهاكُ مُوسى بهِ إلى إدراكِ هذه الحقيقة، أعطاهُ اللهُ سَبعينَ رَجُلاً ليُساعِدُوهُ على تحمُّلِ هذا العِبء. ولقد مسحَ اللهُ سَبعينَ رَجُلاً بالرُّوحِ القُدُس، فحكَمُوا بالقَضاءِ للشعبِ تحتَ قيادَةِ مُوسى. وبدُونِ أخذِ القِيادَةِ من مُوسى، قسَّمَ اللهُ العمَلَ إلى أجزاءٍ يُمكِنُ تحمُّلُها، وأقامَ سبعينَ رَجُلاً على هذه الأجزاء من العمل. يُخبِرُنا دارِسو إدارة الأعمال بأنَّ الخُطوات الخَمس للنَّجاحِ في العملِ التَّنفيذِيّ هي:تحليل، تنظيم، تفويض، إشراف ومُعاناة!
عندما جاءَ مُوسى إلى اللهِ مُنهَكاً، أخبَرَهُ اللهُ أنَّ نفسَهُ تحتاجُ إلى التَّرميم. لقد أظهَرَ اللهُ لمُوسى طُرُقَ البِرِّ التي ستُريحُ نَفسَهُ. هذه الطُّرُق كانت ستسمَحُ للهِ أن يعمَلَ العملَ الذي وحدَهُ يستَطيعُ عمَلَهُ، وستجعَلُنا نتذكَّرُ أنَّ عملَ اللهِ من خلالِ شَعبِ اللهِ هُوَ عملُ فريق. بِهذهِ الطَّريقة رَدَّ اللهُ نفسَ رجالاتِهِ العظام عندما كانُوا يشعُرُونَ بالإنهاك.
نحنُ نَعيشُ في عالَمٍ لا يَعرِفُ الصَّبرَ، ونُريدُ الحُصُولَ على ما نُريدُهُ فَوراً. اللهُ لا يُعطينا عادَةً ما نُريدُهُ على الفَور. لقد كانَ رَدُّ نَفسِ مُوسى أمراً عملِيَّاً ونافِعاً جدَّاً في حياتِهِ. فبَدَلَ تجميدِ الوضعِ فوراً، أظهرَ لهُ اللهُ كيفَ يُمكِنُهُ أن يُنَظِّمَ ويُفَوِّضَ الآخرينَ ليُساعِدُوهُ على تحَمُّلِ هذا العِبء.
مما يُثيرُ الدَّهشَةَ أن رجُلاً عظيماً كموسى كان مُمكِنا أن يُنهَك. لقد إختَبَرَ مُوسى الإنهاك لأنَّهُ كانَ إنسانِيَّاً بَشَرِيَّاً مِثلَ كُلِّ واحِدٍ منَّا. كثيرون يظنُّونَ أنَّكَ عندما تُصبِحُ مسيحيَّاً مؤمِناً، تكفُّ عن كونِكَ إنسانيَّاً. ولكن عندما ننظُرُ إلى حياةِ مُوسى، نَجِدُ أنَّ هذا الظَّنَّ لَيسَ صَحيحاً. فالكِتابُ المُقدَّسُ مَليءٌ بِقِصَصِ أشخاصٍ حَقيقيِّينَ تَصارَعُوا معَ الضُّغوطاتِ والتَّحَدِّياتِ ذاتِها التي تدفَعُنا لإكتِشافِ محدُودِيَّةِ طبيعَتِنا البَشَريَّة. إنَّهُم نماذِجُ لنا، لأنَّهُم حقَّقُوا إنجازاتٍ عَظيمَة عندما كانَ رُوحُ اللهِ يُسيطِرُ على طبيعَتِهِم البَشَريَّة.
- عدد الزيارات: 7488