Skip to main content

المسيحي في الجهاد الروحي

(6: 10- 20)

وقف الرسول بنا طويلاً, في تلك البقعة الصغيرة, المقدسة, الجميلة –ولعلها أقدس بقاع الأرض وأجملها- التي يقال لها "البيت". فأطرب نفوسنا بأعذب الأناشيد, التي تعِّطر جوّ البيت المسيحي, حين يسوده التفاهم, وتظلله, المحبة ويتخلله الصفاء.

وقد كنا نود أن يطول بنا المقام في تلك البيئة المقدسة, الجميلة, لنتملى برؤية أنوار المحبة الطاهرة, حين تهبط أشعتها من السماء على نفس المرأة فتنبعث منها إلى زوجها –وقد حالت إلى طاعة وولاء, وتنزل على قلب الرجل فتشع منه نحو زوجته- وقد استحالت إلى محبة ووفاء, فتجمع نيرانها الملتهبة المقدسة على قلبيهما معاً, فتكون عليهما برداً وسلاماً!!

وكم كان يحلو لنا الوقوف لنستمع لتغريد تلك "العصافير" الملائكية, التي يقال لها الأطفال, وهي تخفض أجنحة الذل والطاعة في محضر الوالدين إجلالاً واحتراماً, ونرى البِشر يطفح على وجوه الوالدين وهم يحيطون بعطفهم وحنانهم "أكبادهم" الصغيرة وهي تتمشى أمامهم في شكل فتيان وفتيات.

وما أبدع ذلك المنظر الذي يجمع الأولاد والوالدين في تلك البيئة الأرضية المسماة "بالبيت", وهم يتبادلون عواطف التقدير والمحبة, مع نفرٍ هم بيض القلوب ولو كانوا سود الوجوه, لأن شمس الطبيعة لوّحت وجوههم فصيرّت لونها أسود من فحمة الليل, لكن "شمس البر" أشرق في قلوبهم, فصيرَّها أبهى لمعاناً من ضياء القمر.

نعم كنا نود أن يطول بنا المقام ويطيب في هذه البيئة الهادئة, الهادية إلى سواء السبيل. لكن الرسول انتقل بنا فجأة من هذا الجو المعطّرة أنفاسه بموسيقى السماء, إلى جوّ لا يعرف موسيقى سوى صليل السيوف, ولا تُرى فيه أضواء سوى بريق الخوذ النحاسية, ولعلعة أسنَّة السيوف المرهفة, ولا نصغي لأصوات سوى تلك التي تحدثها "سهام الشرير الملتهبة" عندما تصطدم بالتروس والدروع.

بذا أفهمنا الرسول, أن الحياة المسيحية لا تُقضى كلها في جو مفعمَ بالأمن والسلام, لكن جُلّها يُصرَف في جو كله جهاد, وحرب, وصدام!!.

وما من شك في أن الرسول استقى تعبيراته الحربية التي في هذا الفصل, بوحي من العهد القديم –سيما إشعياء 59: 14, 11: 4, يشوع 5: 13, وسفر الحكمة 15: 17, وكلها أسلحة مجيدة تقلدها رب الجنود. إلا أنه من الطبيعي جداً أن يكون قد استمد بعض هذه التعبيرات من ظرفه الذي كان فيه وقت كتابة هذه الرسالة. فمن المسلم به أنه كان سجيناً في روما يتناوب حراسته أربعة جنود طوال اليوم, فتوثقَ يمناه في يسرى الجندي بسلسلة من حديد. فمن المعقول أن بولس وهو يكتب هذه الرسالة, كان يتطلع إلى أسلحة الجندي الروماني, مستلهماً بها فكرة النيرِّ عن أسلحة الجندي المسيحي, مقارناً "المادّيات" "بالروحيات!!".

فلنتقدم إلى درس هذا الفصل "الحربي" بروح "السلام" والاطمئنان:

أولاً: الفريقان المتحاربان: (6: 10و 11)

-أ-جنود الرب: "يا أخوتي" (6: 10)

-ب-رب المكايد: "إبليس" (6: 11)

ثانياً: طبيعة الحرب وطبيعة الخصم: (6: 12(أ و ب))

-أ-سلباً: "ليست مع دم ولحم" (6: 12(أ))

-ب-إيجاباً: "مع السلاطين... " (6: 12(ج))

ثالثاً:ميدان الحرب: "في السماويات" (6: 12(د))

رابعاً: أسلحة الحرب: (6: 13- 20)

-أ-أسلحة العدَّة الكاملة العادية: (6: 13- 15)

(1)للحقوَين: "منطقة الحق" (6: 14(أ))

(2)للصدر: "درع البر" (6: 14(ب))

(3)للقدمين: "حذاء استعداد إنجيل السلام" (6: 15)

-ب-أسلحة دفاعية: (6: 16و 17)

(1)للقلب: "ترس الإيمان" (6: 16)

(2)للرأس: "خوذة الخلاص" (6: 17(أ))

-ج-سلاح هجومي: (6: 17(ب))

"سيف الروح" (6: 17(ب))

خامساً: سهر الجندي المحارب بالصلاة: (6: 18- 20)

(1)الصلاة لأجل نفسه (6: 18)

(2)الصلاة لأجل جميع القديسين (6: 19)

(3)الصلاة لأجل الرسول الموثق (6: 20)

أولاً الفريقان المتحاربان (6: 10و 11)

عدد 10:

10أَخِيراً يَا إِخْوَتِي تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ.

-أ-جنود الرب وسرّ قوتهم: "تقوَّوا في الرب"

"أخيراً" –يُخيل إلينا أن الرسول, بعد أن أفاض في الإفضاء بالمعلنات الجليلة التي مرت بنا, شرع يطوي رداءه, ويستجمع قواه, ليقول كلمته الأخيرة –وإن شئت قل ليضرب الضربة الأخيرة- قبل أن يختتم هذه الرسالة الخالدة.

وليس بغريب أن يختتم الرسول هذه الرسالة المجيدة التي حدثنا فيها كثيراً عن النعمة, بهذه النغمة الشديدة القوية –نغمة الحرب! أليست الحياة كلها حرباً وجهاداً؟ هذا ما تنادي به الطبيعة, فالقوي فيها يغالب الضعيف ويغلبه, وفي النهاية يبتلعه. وهذا ما نشعر به في العالم الإنساني. فالبشر على الدوام في صراع عنيف, وما تاريخ البشرية إلا تاريخ مواقع حاسمة في سجل الحروب. وما فترات السلام الكائنة بين حربٍ وحرب سوى فُرص استعداد لحرب أشد وأقوى. بل هذا ما تحدثنا به ضمائرنا في عالمنا الداخلي المسمَّى ب"النفس". فالنفس الحية في صراعٍ مستديم ضد ميولها الداخلية أحياناً, وضد التجارب الخارجية حيناً. عبثاً تحاول النفس أن تهرب من التجربة إلى أقصى الجبال, أو أن تهبط إلى أسافل الوديان, فالشر كامن فيها, والتجربة توصوص لها من نوافذ "الإنسان الباطن". فالتجربة التي وجدها القديس أنطونيوس في البراري الواسعة, هي نفس التجربة التي كانت تواجهه في الإسكندرية, وإن تراءت بأشكال مختلفة, أو تلونت كما تتلون الحرباء!!

الكلمة المترجمة "أخيراً" يجوز أن تترَجم حرفياً إلى: "فيما بعد" أو "فيما يأتي" أو "بقي لي أن أقول". كأنَّ ما مر بهم من الكلام يعوزه هذا الحق. فمع أن الخلاص بالنعمة, إلا أن هذا لا يعفي المؤمن من الجهاد الروحيّ,

ولأن ملكوت الله يُغصب, وإن كان البار "بالجهد" يخلص. فالخاطئ والفاجر أين يظهران؟!

"يا أخوتي" –ما أحلى هذه الكلمة المنبعثة من قلب الرسول السجين, إلى أهل أفسس بمن فيهم من العبيد, وإلى سائر سكان مقاطعة آسيا الصغرى. لقد حجبته عنهم جدران سجن روما, لكن تلك الجدران لم تحجز قلبه عن أن يفيض بهذه الكلمة الحلوة العذبة "يا أخوتي"! "يا أخوتي في الإيمان, ويا أخوتي في الجهاد!! فكما أننا في نعم الإنجيل أخوة, كذلك نحن أيضاً في آلامه أخوة ولو أنكم تتمتعون بحرية العالم الفسيح, وأنا أقاسي عنكم ولأجلكم آلام السجون" (3: 1).

ما أوسع هذه الكلمة وما أرحب صدرها "يا أخوتي". إنها تضم إلى صدرها أقواماً لم يعرفهم بولس ولم تخطر أشخاصهم على باله –فهي تشمل كل النفوس المجرَّبة, والمضطهدة, والمعذبة لأجل الإنجيل في كل عصر ومصر. إنها تضم جيوش الشهداء الذين ماتوا لأجل الحق والمرسلين الشجعان الذين عاشوا لأجل الحق.

نعم كان سكان أفسس مجربين بالغنى والترف اللذين غمرا أفسس الفتية الغنية, ومحاربين بسلطان الآلهة ديانا التي تربعت حيناً من الدهر على قلب أفسس, ومغالبين بالقوات والعادات التي سادت تلك البقاع, إلا أن لكل عصر تجاربه, ولكل جيل آلهته, ولكل دهر مصارعته. فالشرور تتنوع, لكنَّ الشرير واحد!!

سر القوة: "تقووا في الرب وفي شدة قوته"

هذا هو سر القوة: "الرب", هذا هو برجنا الحصين الذي نركض إليه ونتمتع: "في الرب". هو البدء وهو الختام, فلنتقو بقوته فينا لا بقوتنا لأن قوتنا ضعف! فليست هذه قوة نخترعها, وإنما هي قوة نكتشفها. ولا هي قوة نوجدها, بل نجدها –لا بل هي تجدنا. فما علينا إلا أن نقبلها ونتقوى بها. ولا هي قوة نسعى إليها كأنها بعيدة المنال, لكنها في متناول كل منا. فما علينا إلا أن نرحب بها في قلوبنا, ونفوسنا: "ولكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم". هي عطية من الله لأنها قوة الله نفسه. ولا سبيل إلى نيل قوة الرب, إلا بأن نلبس الرب يسوع نفسه. لأن قوة الرب ملازمة للرب القوي. وكم من كثيرين يخطئون إذ يقعون في خطيئة سيمون الذي تاق إلى قوة الرب من غير أن يطلب رب القوة. وكم من كثيرين يوقدون على مذابح حياتهم وخدمتهم ناراً من حماسهم الشخصي, فتستحيل إلى رماد لأنها "نار غريبة" عن روح الرب!! فلا يمكننا أن نتقوى في شدة قوة الرب إلا إذا تقوينا في الرب نفسه. هذا هو رأس جيشنا. فلسنا في حاجة إلى أن نستميله ليحارب في صفوفنا, كأن الحرب حربنا نحن, لكننا نحارب تحت لوائه لأن الحرب للرب, فلنتقدم بقلوب واثقة ونفوس مطمئنة, لأننا نحارب في صف رئيس عظيم قد "خرج غالباً ولكي يغلب" فالنصر حليفنا ما دمنا معه لأننا لا نغتصب الظفر, بل نُوهبه. فلنجعل قوة الرب قوتنا.

حسناً قال إيرونيموس: "إن من يقرأ هذا الفصل الجليل وَيقابله بما يماثله في الكتاب المقدس, لا مفر له من أن يخرج بهذه الحقيقة الواضحة, وهي: أن الرب يسوع هو المحارب, وأنه هو نفسه السلاح الكامل".

الكلمة المترجمة "تقوّوا" مجانسة للمصدر المشتقة منه كلمة "عزاء". فلنكن في قوتنا مطمئنين! واثقين, متعزين: "إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا".. "بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" (إشعياء 30: 15). وقد استعملت في الأصل بالصيغة الحالية التي تفيد الاستمرار المتجدد. فهي إذاً تشير إلى حالة مستديمة نكون عليها, لا إلى درجة وقتية نسعى إلى إدراكها.

وقوله: "في الرب" ورد 35 مرة في هذه الرسالة. هذا هو منبع القوة, ومصدرها, والمحرك لها. "في الرب" أصبحنا معافين من كل دينونة (رومية 8: 1). "في الرب" نثبت فنحيا (يو 15: 4-7). "في الرب" نتقوى فننتصر نصراً مبيناً (يو 15: 5).

أما العبارة: "شدة قوة الرب", فقد وردت في 1: 19 من هذه الرسالة, وهي تفيد أن قوة المسيح نبعٌ تصدر عنه شدة متناهية. فالشدة تنبعث من القوة, على اعتبار أنها نتيجة القوة. فنحن نتقوى في شدة قوة الرب,إذ نتشدد بالرب القوي. لأن شدة القوة التي أقامت الرب يسوع من الأموات, هي ملك لنا في حربنا الروحية.

هذه هي "الشدة" اللازمة لنا لنتمكن بها من حمل السلاح, ولولاها لأصبح السلاح الكامل ثقلاً علينا, فيقصم ظهورنا ونحن ضعاف, ويعرقل سيرنا.

عدد 11 :

11الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ.

نداء إلى الفريق الأول: "البسوا... لكي تقدروا"

(1)كلمة مجملة عن السلاح: "البسوا سلاح الله الكامل".

هذا سلاح كامل. فالكلمة المترجمة "السلاح الكامل" هي في اليونانية كلمة واحدة, ولم ترد في العهد الجديد سوى مرة أخرى (لوقا 11: 22) وقد استعملت هناك عن سلاح إبليس, لكنها استعملت هنا عن سلاح المؤمن. هذا يدل على أن هذا السلاح كتلة واحدة لا تتجزأ. فمع أن له عناصر مختلفة, لكن لا يحق للمؤمن أن يتسلح ببعض عناصره ويترك البعض الآخر, لأن من يتهاون في حمل جزء من هذا السلاح, يأتيه الهجوم من هذه الناحية المعرضة للخطر. "فأخيليس" غطسته أمه في ماء سحرية آملة أن تصون جسمه من سهام الأعداء, لكن لم يكن أمامها بُد من أن تمسكه من كعب رجله, وهي تدليه في الماء. فأصابه السهم في الموضع الذي أمسكته منه أمه –في الكعب!!

(2)مصدر السلاح: "الرب". لعل الإشارة هنا منصرفة إلى القوة الحربية التي تعدها الدولة للمتحاربين فيلبسونها. فما على المتجند إلا أن يتقدم ليلبس هذا السلاح, لا أن يلبس رداء يحيكه هو لنفسه, لأن هذا ليس سلاحاً "ملكياً" يشتريه لنفسه, لكنه سلاح مُعدّ من رئيس الجيش, فما على المحارب إلا أن يتقدم ويتقلده.

ولقد سبق الرسول فأشار في رسالتين إلى "لبس السلاح" كأنه رداء, إذ قال: "البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات" (رومية 13: 14) "لابسين درع البر" (1تس 5: 8).

فكما أن الخلاص من الرب أولاً وآخراً, كذلك النصرة من الرب –من ألفها إلى يائها. لأن الرب رئيس جندنا, وهو مُعدّ سلاحنا, وهو المحارب عنا, وهو الظافر فينا. فإذا أردنا أن ننتصر في مصارعتنا مع إبليس (عدد 12) وجب أن ننتصر أولاً في مصارعتنا مع الله (هوشع 12: 24, تكوين 32: 24- 29)

(3)غاية حمل السلاح: "لكي تثبتوا ضد مكايد إبليس".

يلوح لنا أن كلمة: "تثبتوا" هي "مفتاح" هذا الفصل. وقد وردت فيه ثلاث مرات –المرة الأولى حالما نلبس عُدتنا الحربية: "البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا" (عدد 11). المرة الثانية عندما نكمل لبس عدتنا الحربية: "بعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا" (عدد 13), المرة الثالثة, عندما نتمنطق بالمنطقة: "فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق" (عدد 14). والمستفاد من تكرار كلمة "اثبتوا" على هذه الكيفية. إن الصورة التي أمامنا, ترسم لنا حرباً دفاعية أكثر منها هجومية. والإشارة فيها ليست منصرفة إلى دك حصون الأعداء, بل إلى الثبات في وجه الخصم ونحن محتفظون بحصننا

"ها المسيح الرب قادم فاحفظوا الحصون"

هذا يذكرنا بذلك الموقف التاريخي الذي وقفه لوثر عندما قال: "ها أنا أقف هنا. فليساعدني الرب!"

-ب-الفريق الثاني- صاحب المكايد –إبليس "مكايد إبليس". هذا هو إبليس الخداع صاحب "المكايد" الكلمة المترجمة "مكايد" تعني حرفياً "طرق" أو "أساليب منظمة", وهي التي مرت بنا في 4: 14. وكثيراً ما يحتال علينا عدو الخير بهذه "الطرق المنظمة", فيجربنا أحياناً في نقط ضعفنا عن طريق الخطايا المحيطة بنا بسهولة –كما جرّب داود. ومراراً يجربنا في نقط قوتنا كما جرب موسى الحليم, فأسقطه في خطية الغضب, وبطرس الشجاع فأوقعه في خطية الجبن. تارة يوجه إلينا سهماً مسموماً بمُرّ المواعيد. وأخرى يصوّب نحونا ريشة معسولة بعذب المواعيد. فما علينا تجاه تلوناته وألاعيبه, إلا أن نثبت في المسيح واثقين, فلا يُرعبنا الوعيد, ولا ترغبنا المواعيد, عالمين أن هذه كلها "طرق" وأساليب (اطلب 2كورنثوس 11: 14).

طبيعي أن يبتدع إبليس كل هذه "الطرق" و"المكايد" المتلونة لأنه هو الخداع, المشتكي, العنيد, الذي لا يفشل قط. فمثلما جرب فادينا في البرية متخذاً لكل تجربة شكلاً غير الذي أفرغت فيه التجربة الأخرى, ولم ييأس على رغم فشله "بل تركه إلى حين", كذلك في تجربة المؤمنين, لا تلين له قناة, ولا يهدأ له بال, حتى ينفث سمومه القتالة في ضحاياه. وكم لك يا إبليس من ضحايا!! وليس بخافٍ أن إبليس ليس مجرد تأثير, لكنه شخص.

وإذا كان إبليس صاحب "مكايد" وطرق, فلا عجب إذا سموه في العربية "الحارث"! (اطلب المزيد, راجع شرح 2: 2, واطلب 4: 27, أعمال 13: 10, 1تيموثاوس 3: 6و 7, 2تي 2: 26, عب 2: 14, زكريا 3: 1و 2)

عدد 12 :

12فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ.

ثانياً: طبيعة الحرب: "لأن مصارعتنا... "

-أ-طبيعة الحرب: روحية: "لأن مصارعتنا ليست مع دم"

استنتج بعضهم من هذه العبارة ومثيلاتها (كما في 2تي 2: 4و 5), إن الرسول استعمل استعارة مركبة, فمزج الحرب بالمصارعة, لكن الحرب كانت قديماً "حرب التحام", كما تدل الكلمة العبرية التي يعبر بها اليهود عن الحرب: "ملحمة". وفي مثل تلك الحروب كان المجال متسعاً للمصارعة. فالرسول إذاً ملازم لنفس الاستعارة الواحدة –الحرب الروحية!!

الكلمة اليونانية المترجمة: "مصارعة" (بالي) لم ترد في كل الآداب اليونانية سوى هذه المرة وحدها.

هذه حرب روحية, لأن خصومنا فيها روحيون. وقد وصفهم بولس وصفين –أولهما: سلبي: "ليست مع دم ولحم".

والثاني: إيجابي: "بل مع الرؤساء... "

الوصف السلبي: "ليست مع دم ولحم". وردت هذه العبارة –مع تقديم وتأخير في كلمتيها- "لحم ودم" في متى 16: 17, 1كو 15: 50, غلاطية 1: 16 وعب 2: 14 –وهي تعني الإنسان- أو البشر- في حالته الجسدية الراهنة. "فاللحم والدم" لا يرثان ملكوت الله (1كو 15: 50) والإنسان الجسدي-"اللحم والدم"- لم يوحِ إلى بطرس بذلك الاعتراف الجليل. والإنسان الجسدي- "اللحم والدم"- لم يعلّم بولس حق الإنجيل (غلاطية 1: 16) فمراد الرسول إذاً: هو أن المصارعة التي نحن مجاهدون فيها, ليست مع البشر, لأن حربنا ليست مع مجرد أناس عائشين في هذا الجسد الهيولي, الفاني, لكنها حرب روحية ضد "قوات منظمة في عالم الروح". هذه أمرّ وأدهى.

الوصف الإيجابي: "مع الرؤساء مع السلاطين, مع ولاة العالم على ظلمة"

هذه تعبيرات مركزة متجمعة تصف: -أ-أركان حرب جيوش الأعادي في ثلاث كلمات: "رؤساء, سلاطين, ولاة".

والمستفاد منها: (1)أن قوات الشرير منظمة تنظيماً محكماً. (2)أنها ليست مجرد تأثيرات وهواجس لكنها شخصيات معنوية, تعمل تحت قيادة رئيسها الأعلى –إبليس الذي يدبر "مكايدها" ويديرها (عدد 11). (3) أنها منظمة على درجات ورتب, كأن هذه الطغمة التي كانت قبلاً ملائكة نورانية, فسقطت, قد اقتبست تلك الدرجات, من الحالة المجيدة التي كانت عليها قبل سقوطها (رو 8: 38, 1كو 15: 24, كو 1: 16, أفسس 1: 21, 3: 10, 2بط 2: 4 ويهوذا 6). فلقبوا ب"رؤساء وسلاطين", نظراً لسموّ مقامهم, واختلاف بعضهم عن بعض في زيادة القوة. ودعوا "ولاة العالم" بالقياس إلى سلطتهم على "البشر الساقطين", الذي يتخذون منهم أعواناً وجنوداً لتنفيذ "مكايدهم".

ألا يتخذ أعوان لخير والنور, درساً في النظام والترتيب, من أعوان الشر والظلام؟؟!!

-ب-طبيعة سلطان هذه القوات: "على ظلمة هذا الدهر".

هذه العبارة تصف الثلاث الكلمات التي مرت بنا: "رؤساء, سلاطين, ولاة" أي أن أركان حرب الشيطان تحكم –ولكن في عالم الظلام, لأن طبيعتها ظلام, وجوها ظلام, وأسلحتها ظلام, وأساليبها ظلام, والمحكومين بها, ظلام (5: 8), فهي إذاً ظلام في ظلام.

إن كلمة"هذا الدهر" تشير إلى "العالم الحاضر الشرير" الذي أحبه ديماس فترك خدمة مولاه, وإلى "الساعة الراهنة" الذاهبة –"الآن", المضادة للأبد الخلود: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (لو 22: 53) أو بعبارة أخرى هي "شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة".

طبيعة هذه القوات: "مع أجناد الشر الروحية": إذا كانت الثلاث الكلمات التي مرت بنا في غرة هذا العدد, تصف "أركان حرب" إبليس, فإن هذه العبارة تصف "جنوده" الذين يتلقون أوامره, وينفذون مؤامراته. وإذا كانت العبارة الرابعة الواقعة في قلب هذا العدد: "على ظلمة هذا الدهر" تصف طبيعة سلطان أعوان إبليس, فإن هذه الكلمة الخامسة: "أجناد الشر الروحية" تصف جنود إبليس في طبيعتهم الذاتية. فأجناد الشر هم أجناد أشرار, بل شر الأجناد. وكما أن الحرب روحية في طبيعتها وفي أسلحتها, فإن أجنادهم هم أجناد الشر الروحية. والشرور التي يصيبوننا بها ليست شروراً مادية: كالمرض والفقر, والفشل, وإنما هي التذمر الذي يختفي وراء المرض, والمرارة التي تستتر وراء الفقر, واليأس الذي يولده الفشل.

ثالثاً: ميدان الحرب: "في السماويات". هذه هي المرة الخامسة التي فيها وردت هذه العبارة في هذه الرسالة (1: 3و 20, 2: 6, 3: 10), فاطلب تفسيرها في 1: 3. وقد وردت في الإنجيل عبارات مجانسة لها (متى 18: 35, يو 3: 12, 1كو 15: 40و 48و 49, فيلبي 2: 10, 2تي 4: 18, عب 3: 1, 6: 4, 8: 5, 9: 23, 11: 16, 12: 12). ولكي نعرف معنى هذه العبارة: "في السماويات", علينا أن نذكر أنها هي "الدائرة" المقدسة التي تحيط "بالبركات الروحية التي باركنا الله بها في المسيح يسوع" (1: 3), أو أنها هي المقام الذي أُجلس المسيح فيه بعد صعوده عن يمين العظمة "في السماويات" (1: 20), وأنها هي "المرتبة" الروحية الممتازة التي رُفعت إليها الكنيسة مع رأسها وربها وفاديها "في السماويات" (1: 21). فمن المعقول أن هذه العبارة "في السماويات" تعني "الميدان الروحي العلوي" الذي تلتقي فيه قوات الظلام بقوات النور, محاولة –إذا أمكن- أن تنال من المختارين- وهيهات! لأن المسيح رأسنا الأعلى قد ارتفع فوق السماويات, وقد رفعنا معه إلى هذه الدرجة الروحية الممتازة (1: 21). فما دمنا ثابتين في رأسنا الأعلى, ومتمنعين في حصننا الحصين, فإن سهامه الشريرة الملتهبة تنطفئ قبلما تصل إلينا وإن بلغتنا, صارت علينا برداً وسلاماً, مَثلها مَثل "رش" بارودة الصبي, يطلقه على النسر المحلق في الفضاء, فينفضه عنه كما ينفض قطر المطر.

ولا نغفل ما جاء بهذا الصدد في تفسير العلامة إيرونيموس لهذه العبارة: "إن السماء غير الأرض. فالسماويات هي كل ما هو غير أرضي, وفوق الأرض, وفوق قدرة البشر الطبيعية, في العالم العلوي الغير المنظور"

رابعاً: أسلحة محاربتنا (6: 13- 20)

عدد 13 :

13مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا.

-أ-العدة الحربية الكاملة: "سلاح الله الكامل"

"من أجل ذلك" –أي إزاء هذه القوات "الجهنمية" المنظمة التي لا تني عن قصدها وإن طال بها الأمد؛ ليس لنا إلا أن نحمل السلاح الكامل الذي أعده الله لنا. فما أجلّ أفكار الله من جهتنا وما أجملها‍‍‍‍‍! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍لأنه إذا كان إبليس يحيك لنا الحيل ويدبر "المكايد" للإيقاع بنا في التهلكة, فإن الله من جانبه قد "دبر" سلاحاً كاملاً, وحبك لنا "بذلة عسكرية" كاملة العدد فما علينا إلا أن نتقدم فنحمل هذا السلاح الكامل. فلا نشغل أفكارنا بكيفية صنعه, بل نتقدم بقلب صادق, وإرادة حازمة, إلى حمل هذا السلاح. فالكلمة المترجمة "احملوا" تعني حرفياً "خذوا عليكم", أو "خذوا احملوا" أو ّاتخذوا" فهذا "السلاح" على قاب قوسين منا أو أدنى, فليس لنا أن نقول "من يصعد إلى السماء ليحدره لنا أو من يهبط إلى الهاوية ليصعده لنا".

-ب-خطتنا بعد حمل السلاح: "أن تقاوموا... أن تثبتوا"

مراراً يترتب علينا أن "لا نقاوم الشر" كما علمنا المسيح في موعظته على الجبل (متى 5: 39), ومراراً أخرى يتحتم علينا أن "نقاوم في اليوم الشرير" كما أوصانا الرسول هنا. وكلا الأمرين لازم في وقته. فأمام قسوة عدو الخير, علينا أن نتسلح بنية الوداعة, وعدم المقاومة. ولكن أمام "مكايد" الشرير وحيله, وأساليبه الحربية, لا يسعنا إلا أن نتسلح بنية المقاومة. لأن المقاومة في الحالة الأولى تحسب معاندة. وعدم المقاومة في الحالة الثانية يحسب استسلاماً. وما أجمل الشيء متى وضع في موضعه.

فوضع الندا في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندا

الكلمة المترجمة "تقاوموا" وردت أيضاً في يعقوب 5: 6, 1بط 5: 9 على أنه لا يتأتى لنا أن نقاوم, إلا إذا وطدنا موقفنا بالثبات في المسيح.. "أن تثبتوا"؛ فنثبت في مقاومتنا, ونقاوم في ثباتنا.

-ج-يوم الفصل في حربنا: "في اليوم الشرير" لا يكف الشرير عن مناوأتنا في وقت مناسب وغير مناسب. فكل يوم يُعتبر يومه, على نوع ما. لكن هذا العدو الخداع الذي أتقن أساليب الحرب منذ إسقاطه أبوينا الأولين تعلم كيف يختار "أنسب الأيام" لمهاجمتنا, "وأنسب" يوم عنده هو "شر" يوم عندنا. هذا هو اليوم الشرير الذي يركز فيه الشيطان كل قواه موجهاً إياها نحو أضعف نقطة فينا, لينال منا, ويظفر بنصر حاسم. هذا هو "اليوم الفصل" ومن بعده تتزايد قوى الغالب, وتتناقص قوة المغلوب. كأن قوة المغلوب تتسرب في دم الغالب, حالما يخر أمامه صريعاً‍‍‍!!

ومع أن في الإنجيل أقوالاً كثيرة تنبئنا بأنه قبيل مجيء المسيح ثانية تنشب حرب شديدة تتلظى نيرانها بين جنود الخير, وأجناد الشر الروحية, إلا أن الإشارة هنا منصرفة إلى مجاهدة المؤمن بوجه عام في كل عصر ومصر.

-ب-موقفنا في حربنا: "وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا" أي بعد أن تكملوا استعدادكم لحمل السلاح, وتتحملوا ما يصيبكم من هجمات الأعداء, ليس أمامكم إلا أن تحتفظوا بموقفكم, لأن الهدف النهائي الذي يجعله عدو الخير نصب عينيه, هو أن يزحزحكم عن موقفكم. فلا تلينوا أمام هجماته, وترجعوا القهقرى هاربين, ولا تخدعكم حيله الحربية فتتركوا حصنكم المنيع ظناً منكم أنه أمامكم, لأنه إنما يستدرجكم لتتركوا مكانكم, وتدخلوا "أرضه" فيتمكن منكم ويضربكم الضربة القاضية. فاثبتوا بأقدام راسخة في صخر الدهور. ممسكين بالرجاء الموضوع أمامكم "الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما وراء الحجاب. حيث دخل يسوع كسابق لنا" (عب 6: 20).

عدد 14 :

14فَاثْبُتُوا مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ، وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ،

-أ-"البذلة الحربية"- سلاح مثلث للجسم: "المنطقة, والدرع, والحذاء" (6: 14و 15)

من ختام العدد الماضي, استمد الرسول مطلع استهلال لهذا العدد: "أن تثبتوا... فاثبتوا". فالثبات يستلزم فعلاً حاسماً تأتيه الإرادة, وهو يتجدد في كل مناسبة. فيترتب على الجندي, بعد أن عرف أن موقفه الدائم هو الثبات في وجه العدو, أن ينهض في ثباته, وأن يتذرع "بالثبات" وهو يلبس "البذلة الحربية" التي تشتمل على مثلث للجسم:

(1)سلاح الحقوين –منطقة الحق: "ممنطقين أحقاءكم بالحق"

للعامل العادي منطقة تشد ملابسه حول حقويه, كيلا تعرقل سيره, فيصبح بها خفيف الحركة, متأهباً لكل خطوة يتطلبها عمله, من غير عائق لكن "المنطقة" المذكورة هنا, هي منطقة الجندي الروماني, التي كانت تُصنع قديماً من جلد, عليها صفائح صغيرة من الحديد أو "الفولاذ" وبها يُعلق السيف (2صم 20: 8).وكان شدُّ المنطقة قديماً, أولَ علامة للتأهب للقتال, لأن المنطقة تثبّت سائر الأسلحة في مواضعها, وتصون بعض أعضاء الجسد المعرضة للخطر. ولقد كانت المنطقة الحربية لازمة أشد اللزوم للجندي ولولاها لأضحت أسلحته ثقلاً عليه يعرقل حركاته.

أما منطقة الجندي المسيحي فهي: "الحق". "والحق" هنا لا يعني كلمة الله بالذات –هذه سيأتي دورها في الكلام عن سيف الروح. لكنه يشير إلى صفة يتدرع بها المحارب من جانبه هو. فالحق المقصود, هو خلاصة الإخلاص, والبساطة, والأمانة, والصدق, فيكون الجندي مسيحياً حقاً لا غش فيه. وليس بغريب أن تجمع منطقة "الحق" كل هذه الخصال, لأن منطقة الجندي هي رباط الكمال لكل الأسلحة, وبما أن سيف "الحق" كان يعلّق بالمنطقة, فمن المعقول أن يكون "حق" هذه المنطقة هو الحق المعلن في المسيح, أو هو "المسيح الحق" (4: 21) الذي نلبسه ونتمنطق به –وفيه- كما تدل الكلمة الأصلية. فكما كانت منطقة الجندي محيطة به, كذلك يكون الجندي المسيحي محاطاً بالحق ومحوّطاً به, فلا تصيبه سهام الباطل من أية ناحية, لأنه يصبح متسلحاً بالعزم القوي الذي يستجمع به كل قواه, ويظل مستمسكاً بشدة اليقين في الله وحقه, فيقال له حقاً: "البطل المتمنطق"

(2)سلاح للصدر –الدرع: "لابسين درع البر".

يتألف الدرع الروماني من جزءين –مقدم و مؤخر, قد وُصلا على الجانب. وكان القصد منه أن يغطي الصدر والظهر, وأحياناً الرقبة والبطن, وكان وزن درع جليات 5000 شاقل من النحاس, أي 32 رطلاً. ويرجح أنه كان مصنوعاً من صفائح نحاس مثل حراشف السمك. وكان يصنع أحياناً من قضبان صفصاف محاكة مثل السلال, ومغطاة بصفيحة من النحاس. وربما صنع أيضاً من صفائح جلد, أو قماش من كتان أو صوف, وكانت القطعة الصدرية مصنوعة غالباً من كتان مبطن. ولكون الدرع هو الجزء الرئيسي والأكمل في سلاح الدفاع, فقد أشير به إلى تمام الدفاع والأمن (إشعياء 59: 17).

هذا درع الجندي الروماني. أما "درع" الجندي المسيحي فهو: "البر".

يعتقد الدكتور وستكوت أن "البر" الذي يتدرع به الجندي, هو قبوله الحق الإلهي, وتطبيقه إياه, بالمحبة, في علاقته بالناس. هذا يوافق قول الرسول في رسالة سابقة: "لابسين درع الإيمان والمحبة" (1تس 5: 8) فبالإيمان نقبل الحق الإلهي, وبالمحبة نطبقه على معاملاتنا مع الآخرين. ويمكننا أن نختصر الطريق, فنقول إن "البر" المقصود هنا هو "بر المسيح" لأن السلاح المقدم لنا, هو "سلاح الرب" لا سلاحنا نحن.

كما أنا لا برّ لي أدنو من الفادي العلي

ويعتقد الدكتور موليه, أن هذا "البر" هو صفات المؤمن التي يتحلى بها نتيجة ولائه لله, ولإرادته الصالحة المرضية الكاملة. ولعله أراد أن يقول أن المؤمن بإيمانه بالمسيح, يقبل "بر" المسيح, فيلبسه هذا البر, ويصبح فيه صفات عملية جليلة, كأنها من عندياته. لأن "بر" المسيح لا "يحسب" لنا نظرياً وكفى, بل نختبره عملياً في حياتنا. في البداءة يكون لنا, ومن ثم يصبح فينا, فيحمي صدورنا ضد وساوس الشكوك في الله, ويقي أحشاءنا شر تحجر الشعور نحو الآخرين, ويحمي ظهورنا من ذئاب خطايا الماضي التي تتعقبنا ليل نهار لتفتك بنا.

هذا هو البر الذي نلبسه أولاً, ثم يلبسنا هو, فيبدّل ضعفنا بقوة المسيح, وينتزع نجاستنا فتحل محلها طهارة المسيح,فنفتكر –ولكن بفكر المسيح, ونحب ونبغض- ولكن بقلب المسيح, إذ يصبح بر المسيح فينا, ونحن فيه.

عدد 15 :

15وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ.

سلاح للقدمين –الحذاء: "حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام". في هذا العدد أمران يدعوان إلى الغرابة:

أولهما: كيف يعتبر "الحذاء" سلاحاً؟ وجواباً عليه نقول: ظهرت في إحدى المجلات الواسعة الانتشار كلمة بقلم مدرب عسكري ماهر, عنوانها: "الأحذية المتينة الجيدة تلعب دوراً حاسماً في الحروب". ويقول العارفون أن من أهم أسباب اندحار الجنود الحبشية في ساحة القتال, أنهم كانوا حفاة الأقدام, لأن رواسب الغازات السامة لحست بطون أقدامهم!

فماذا يعمل الجنود المساكين الذين يسيرون أحياناً في مسالك وعرة, تمزّق بطون أقدامهم بأسنتها المتحجرة, وأحياناً أخرى يغوصون إلى أحقائهم في مستنقعات آسنة مليئة بالحشرات السامة والجراثيم الفتاكة, ومراراً يسيرون على طرق منتشرة فوقها قطع حديدية مدبَّبة, وضعتها يد الأعداء!

هذه بعض المسالك التي كان على الجنود الرومان أن يسلكوها. فكانوا يسيرون تارة بين صخور ووديان تدمي الأقدام, وطوراً في مستنقعات وأوحال تغوص فيها السيقان. فكان من اللازم أن "يتسلح" بحذاء جيد يحفظ قدميه في كلا الحالين. وإذا كان المصارعون قد اهتموا قديماً بحالة أقدامهم, لتكون خفيفة كأقدام الأيائل, فما أحرى بالجندي المسيحي أن يهتم شديد الاهتمام بحالة قدميه اللتين عليهما يتوقف ثباته في هذه الحرب. سيما وأن كلمة "اثبتوا" هي مفتاح النصرة في هذه الحرب!!

ولكن ما هو "الحذاء" الذي يتسلح به المؤمن؟ هو "استعداد إنجيل السلام" –هو التأهب الذي يولده الإنجيل في قلب من يسمعه ويقبله, فيصبح مستعداً و"جاهزاً" لتبليغ بشرى الإنجيل إلى العائشين في وادي الظلمات. لأن نور الإنجيل متى بلغ إنسان ما, يُمسي فيه ناراً مضطرمة تدفعه إلى حمل شعلة الإنجيل في يده, إلى الواقعين في أسر الظلام, وإذ يلمحه أولئك الأسرى عن بُعد, يقومون مهللين لقدومه الميمون فيحيونه بتلك الأنشودة القديمة الخالدة: "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام المبشر بالخير المخبر بالخلاص القائل لصهيون قد ملك إلهك" (إشعياء 52: 7), فتجاوب معها أصداء تلك الأنشودة الجليلة: "هوذا على الجبال قدما مبشر منادٍ بالسلام عيّدي يا يهوذا أعيادك أوفي نذورك. فإنه لا يعود يعبر فيك أيضاً المهلك" (ناحوم 1: 15).

أما الأمر الثاني الذي يدعو إلى الغرابة, فهو أن الرسول يتحدث عن استعداد "إنجيل السلام", كسلاح في الحرب الروحية –والسلام والحرب متناقضان!! ولكن هذا العجب يزول متى ذكرنا أن قدمي المبشر لا تثبتان في الحرب إلا متى كان متمتعاً بسلام الله الذي يحفظ قلبه وفكره في المسيح, وحاملاً سلام المسيح للواقعين في أسر الشر والفساد. فمع أننا نحارب في حرب روحية, إلا أننا ندخلها بقلب يفيض سلاماً مع الله, ومع أنفسنا, ومع الآخرين. هذا هو سلام الثقة واليقين, الذي به وقف بولس وقفة الشباب على غرار اهتزاز ركبتيه بحكم الشيخوخة, فقال: "أنا عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي" فلا يكفي الجندي المسيحي أن يكون حاصلاً على سلام مع الله, بل عليه أن يكون متمتعاً بسلام الله نفسه.

عدد 16 :

16حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ.

-ب-أسلحة الدفاع. (1)سلاح يقي القلب: الترس

الترس, على الأرجح, من أقدم أدوات الحرب. فإن الإشارات في كتابات الأقدمين عديدة (تكوين 15: 1, مزمور 5: 12 و18: 2). وكانت الأتراس مختلفة الحجم, وتُصنع على الغالب من الخشب الخفيف, وتغطى بطبقات متعددة من الجلود السميكة التي كانت تمسح بالزيت وتصقل جيداً (إشعياء 21: 5) وكانت أكثرها تلون بألوان مختلفة على هيئة دوائر في النصف (ناحوم 2: 3). أما الجلد فكان يُمدَ أحياناً على مشبك من قصب أو فروع الصفصاف. وكثيراً ما كان يصنع بحجلة من الذهب أو النحاس, أو كان يلبَّس بصفائح سميكة من المعادن المذكورة (1ملوك 14: 26 و 27). وكان يُحفر على الأتراس المعدنية صور ونقوش مختلفة.

كان الترس يحمل على الذراع اليسرى, وذلك بإدخال اليد تحت سيرين من الجلد على مؤخره, وقبض الأصابع على سير صغير عند حافته. واستعيض في الأزمنة المتأخرة عن السيور بقبضة من الخشب أو الجلد في وسطه. وأحياناً كان يعلق بسير في العنق عوضاً عن مسكه باليد. أما سطحه الخارجي فكان محدّباً, وذلك لمنع الأسهم من اختراقه, وكانت حوافيه ملبسة بصفائح من الحديد تمكيناً له, ولوقايته من فعل الرطوبة إذا ألقي على الأرض, وكانت الأتراس تُحمل أثناء الحرب فوق الرؤوس, أو تُصف في خط مستقيم لتكون حاجزاً عمومياً.

هذا هو الترس الذي كان يتسلح به الجندي الروماني. فما هو الترس الذي يتسلح به المسيحي؟ -هو ترسُ الإيمان. وليس بخافٍ أن الإيمان يُبدأ معرفة, فيتطور تصديقاً, فيصبح اتكالاً واعتماداً, وثقة. أي أنه يُبدأ غالباً في دائرة العقل, ويمر بالعاطفة, ثم ينتهي بالإرادة. وهو العين المرفوعة على الدوام إلى ربها منتظرة منه العون: "معونتي من عند الرب. الرب ظل لك عن يدك اليمنى... إليك رفعت عينيَّ يا ساكناً في السموات هوذا كما أن أعين العبيد نحو أيدي سادتهم, كما أن عيني الجارية نحو يد سيدتها, هكذا عيوننا نحو الرب إلهنا" (مزمور 121: 1و 2, 123: 1و 2), وهو أيضاً اليد المفتوحة التي تتقبل بركات الله, بالثقة واليقين والشكران.

والإيمان, فضلاً عن كونه يتحد النفس بالله, فيحسب نصرته نصرتها فهو أيضاً يثبت النظر في المستقبل لأنه يرى مالا يُرى ومن لا يُرى. فإذا انهزم في معركة ما, لا يدركه الفشل لأنه واثق في النهاية من النصر المبين, وهو يرى النصر قبل أن يأتي فيخصصه لذاته, ويحسبه ملكاً له قبل أن يتمكن من الاستيلاء عليه فعلاً. فهو يعيش في المستقبل وإن تكن قدماه سائرتين في العالم الحاضر. لأنه هو الثقة بما يُرجى".

ومتى ذكرنا وعد الله لأبرام: "لا تخف يا أبرام. أنا ترس لك" (تكوين 15: 1), علمنا أن ترسنا هو الله نفسه, الذي به نحتمي بالإيمان.

أهمية هذا السلاح: "حاملين فوق الكل" –"أي زيادة على ما ذكر من الأسلحة, أو ما يمكن أن يوضع فوق كل الأسلحة لوقاية الجسد. ويجوز أن تترجم إلى "وفي كل حال" أي في كل دور من أدوار الحرب, وفي أي اتجاه تأتي منه السهام, وضد كل هجوم يقوم به الخصوم –كل هذا لأن الترس يُحمل بإحدى اليدين فيسهل تحريكه ذات اليمين وذات اليسار "في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار".

قوة فعل هذا السلاح: "الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة". هذا أول الأسلحة الدفاعية, التي يلبسها المؤمن ليحتفظ بموقفه. وقد اعتاد المتحاربون قديماً أن يربطوا بالسهام مواد قابلة الاشتعال –كالقار وما إليه, يرمون بها العدو وهي مشتعلة. وإلى ذلك أشار المرنم بقوله: "يجعل سهامه ملتهبة" و"سهام جبار مسنونة مع جمر الرتم" (مزمور 7: 13, 120: 4).

وقد كان الترس قوياً منيعاً, يكفي لإطفاء سهام الشرير الملتهبة فلا تصيب قلب المسيحي المجاهد. ويُكنى "بالسهام الملتهبة" عن التجارب المحرقة التي كانت مالئة جو أفسس –أمثال خطية الغضب المتأججة نيرانه والميول الجنسية التي كانت تذكيها عبادة أرطاميس, ونيران المطامع المادية التي تلتهب في القلب فتأكل الأخضر والهشيم, أو سَورة الفكر التي تزحزح ثقة الإنسان بالله. ناهيك عن نيران الجسد الآكلة.

هذه بعض سهام الشرير الملتهبة التي قد تأتينا مختبئة في الغنى أو مغلفة بالفقر. تارة تأتينا مستورة بالورد والرياحين في أيام نجاحنا, وأخرى تجيئنا محفوفة بالأشواك في أيام فشلنا. لكن الخطر ليس في الغنى أو الفقر, ولا في النجاح أو الفشل, بل في الشر الذي يستتر وراء كل منها.

عدد 17 :

17وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ، وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ.

(2)السلاح الثاني الدفاعي: سلاح يقي الرأس

الخوذة: "وخذوا خوذة الخلاص" الخوذة هي غطاء الرأس. كانت تصنع أحياناً من جلد سميك, وأخرى من نحاس (1صم 17: 38) وتزًّينت قمتها غالباً بعرف أو ريش. وفي الأزمنة المتأخرة, أضيفت إليها قطعة وجيهة لوقاية الوجه وتتبين لنا أهمية الخوذة متى تحققنا أنها تحمي الرأس الذي هو مركز الدماغ. ووازن الجسد, وموطن العينين. فكل سهم يصيب الرأس, يفقد الجسد قوة التوازن, أو يصيب منه مقتلاً.

أما "الخوذة" الروحية فهي "خوذة الخلاص". وقد أشار إليها بولس نفسه في رسالة سابقة بقوله: "وخوذة هي رجاء الخلاص" (1تس 5: 8). فهي خوذة "الخلاص" على اعتبار أن الخلاص فعلٌ تم منذ آمنّا, وهي خوذة "رجاء الخلاص" على اعتبار أن الخلاص عملية لم تتم بعد. المعنى الأول يفيد خلاص التبرير, والثاني يشير إلى خلاص التقديس والتمجيد حين نتمتع بكمال فداء الأجساد. لأننا خلصنا في الماضي (أعمال 16: 31), وها نحن متممون خلاصنا الحالي (فيلبي 2: 12), وسنخلص كمالياً عند مجيء المسيح ثانية (عب 9: 28). يتضح لنا ذلك متى ذكرنا أن الكلمة التي ترجمت إلى "خلاص" في هذا العدد ليست هي "سوتيريا" التي استعملت في 1تسالونيكي 5: 8, بل "سوتيريون" الأولى تعني الخلاص كعملية دبرها الله, والثانية تعني الخلاص كنعمة يقبلها الإنسان بالإيمان.

هذا هو الخلاص, الذي يتقبله الإنسان من الله كعطية مجانية مقدمة منه. فالكلمة التي ترجمت: "خذوا" تعني حرفياً "تقبلوا", أو تسلموا كما من يد رئيس جيشكم الأعلى, الذي أعد لكم هذا السلاح, كناية عن قبول الإنسان ذلك الخلاص العجيب الذي أكمله المسيح على الصليب.

وقد يحلو لنا أن نذكر أن إشعياء رأى فادينا ورئيس جيش خلاصنا "وخوذة الخلاص على رأسه" (إشعياء 59: 17). فما علينا إلا أن نرفع عيوننا إليه بالإيمان فنكون ظافرين. ومادام "الرأس" في حمى أمين, فلا خوف علينا نحن أعضاء الجسد!! وإذا كانت الخوذة تحمي عيوننا أيضاً, فلنرفع عيوننا لأن نجاتنا تقترب" (لوقا 21: 18).

-ج-سلاح الهجوم –سلاح اليد- السيف: "وسيف الروح الذي هو كلمة الله". كان السيف غالباً قصيراً ذا حدين (قضاة 3: 16), وكان له غمد (إرميا 47: 6), وعُلقّ بالمنطقة (2صم 20: 8). وهو السلاح الهجومي الوحيد الذي ذكره الرسول هنا, لأن الحرب التي نحن بصددها, هي حرب دفاعية أكثر منها هجومية: "اثبتوا".

أما سيف المؤمن فهو "كلمة الله", الموحى بها في الكتاب المقدس, وفي الكلمة "ريما" لا "لوجوس". هذا هو السيف الماضي ذو الحدين الذي استخدمه المسيح حين صرع الشيطان بقوة "المكتوب". بل هو السلاح الذي به تغلب بولس في ساعات مجده, وفي أوقات هوانه, إذ كان يرجع دائماً إلى المكتوب (قابل أعمال 14: 14و 15 بمزمور 145). بل هذا هو السلاح الذي حمله لوثيرس طوال مدة الإصلاح, مستمسكاً بقوة المكتوب "البار بالإيمان يحيا". لا بل هذا هو السلاح الذي به صرع يونان عدو الخير, ووقف على قدميه ظافراً منصوراً, حين جاءته "كلمة الرب ثانية"!! "فإلى الشريعة وإلى الشهادة"!!

هذا هو السيف المرهف الفاحص. فقد رأى أحدهم بعض الجنود في الحرب الكبرى يغرزون سيوفهم في أكياس الدريس, لأن أخباراً جاءتهم بأن جواسيس اختبأوا بين الدريس! هذا هو السلاح عينه الذي يستطيع أن يميز أفكار القلب ونياته. هذا هو السلاح الذي يرهف عقولنا, ويحدد عزائمنا, ويشدد إرادتنا. فكم من جندي جريح توكأ على سيفه بعد أن بترت إحدى ساقيه بشظايا القنابل!! "هذه هي تعزيتي في مذلتي أن قولك أحياني".

وقد نُسب هذا السيف إلى "الروح" لأن الروح القدس هو الموحي بالكلمة المقدسة, وهو الناطق بالأنبياء في كلا العهدين – القديم والجديد (عب 3: 7, 9: 8و 10: 15, 1بط 1: 11, 2بط 1: 12).

عدد 18:

18مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهَذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ،

خامساً: سهر الجندي المسيحي –الصلاة

ها قد رسم أمامنا الرسول, صورة للجندي المسيحي المتسلح بكامل عدته, "فمنطقة الحق" تشدد حقويه, "وردع البر" يقي صدره, وأحشاءه, وظهره, "وحذاء استعداد إنجيل السلام" يوطد قدميه. "وترس الإيمان" بيده اليسرى ليحمي قلبه من "سهام الشرير الملتهبة", "وخوذة الخلاص" فوق رأسه لتصون رأسه وعينيه, "وسيف الروح" في يده اليمنى يضرب به ذات اليمين وذات اليسار, فماذا بقي عليه بعد حمل هذا السلاح الكامل؟ بقي شيء واحد –إن أضاعه خسر كل شيء- هو السهر, المعبرَّ عنه بالصلاة هذا هو السلاح الذي سقط من يد بطرس فأسقط في يده, فنيا سيفه عن قصده ولم يصب سوى أذن عبد! وفي النهاية انغلب هو أمام جارية. هذا هو السلاح الذي أوصى به بولس أهل أفسس قائلاً:

"مصلين بكل صلاة وطلبة".

أولاً: الصلاة كسلاح: "مصلين بكل صلاة وطلبة" –تُعتبر الصلاة سلاحاً لأنها هي إحدى وسائل الاستنجاد برئيس جيشنا الأعظم ليرسل إلينا المدد

-أ-نوع الصلاة- "بكل صلاة وطلبة"

الكلمة الأولى: "صلاة" تعني الشركة مع الله, وهي تشمل الحمد والشكر والانتظار في حضرته بسكون والثانية: "طلبة" تعني الأدعية التي نتقدم بها إلى الله. والأولى أعم من الثانية وأشرف وأرفع. الأولى تعيّن صلتنا بالله حتى بعد ارتفاعنا إلى المجد. لكن الثانية قاصرة على أدعيتنا إليه ونحن على أرض الحاجة والعوز. وقوله: "كل صلاة" يعني الصلاة بكل أنواعها: من سرية وجهرية, شفوية وباطنية, مكتوبة ومرتجلة, شخصية وتشفعية.

-ب-أوان الصلاة: "كل وقت". لا أوان للصلاة, لأنها في كل أوان, فهي لا تحمل ساعة يد, ولا ساعة جيب, ولا تتطلع إلى ساعة حائط, لأن عينها على الدوام متوجهة إلى "ساعة" الله التي يتمم فيها مقاصده بحكمة. وليس معنى هذا أن يكون الإنسان متخذاً "هيئة المصلي على الدوام" –إن ساجداً, أو واقفاً أو جالساً- بل أن يكون على الدوام في "روح" الصلاة, إذ يكون قد عود نفسه على التوجّه إلى الله اتجاهاً علوياً كل يوم وكل اليوم!

-ج-جو الصلاة: "في الروح" –أي في الروح القدس الذي هو المحرك على الصلاة, والمرشد في الصلاة, والمعين في الصلاة, والناطق فينا "بأنَّات لا ينطق بها" في الصلاة.

-د-المواظبة على الصلاة: "ساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة" هذه هي المرة الثالثة التي تكررت فيها كلمة "كل" في هذا العدد –والحبل المثلوث لا ينقطع سريعاً وقد أريد بهذه "الكلية" الثالثة شدة المواظبة, ودوام المثابرة والسهر في الصلاة بكل أنواعها. ويُكنى "بالسهر بكل مواظبة" عن توقع انتظار إجابة الصلاة في حينها.

-ه-المصَّلى لأجلهم: (1)لأجل سائر الجنود: "لأجل جميع القديسين". على الجندي أن يوجه قلبه باستمرار إلى الله في الصلاة, ذاكراً إخوته المجاهدين معه في نفس الحرب الواحدة –وإن كانوا في ميادين مختلفة. لأننا وإن كنّا نختلف عن بعضنا البعض في حالاتنا وحاجاتنا, ومعداتنا ومحارباتنا, لا أننا واحد في المسيح, وأنه لمن أكبر المشجعات لنا في جهادنا الروحي, أن نذكر أننا نحارب وحدنا, لكننا نكوِّن جيشاً واحداً مع سائر أخوتنا في العالم: ولو أننا لا نراهم. بهذا كان يتشجع المتحاربون في الحرب الكبرى مع كونهم لا يرون أخوتهم المختفين عنهم في الخنادق! وهو خير امتياز يتمتع به صغيرنا: أن يكون سبب إتيان بركة الظفر والانتصار على كبيرنا ومن يدري! ربما في اليوم الأخير, تُرفع تيجان كبيرة وضعها البشر على رؤوس "عظيمة", لتلبسها رؤوس كانت مختفية عنا, اعتقاداً منا أنها صغيرة.

عدد 19:

19وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لِأُعْلِمَ جِهَاراً بِسِرِّ الإِنْجِيلِ،

(2)لأجل الرسول نفسه ولأجلي". أي امتياز في الدنيا يعدل هذا الذي يشعر بها العبد في المنزل المسيحي عندما يسمع بولس قائلاً له: "صل لأجلي". ما أعظم ديموقراطيتك يا بولس وما أجلَّ وداعتك! نعلم أن الأكثرين في حاجة إلى صلاتك لأجلهم, ولكن ما كنا ندري أنك في حاجة إلى صلاة الجميع –حتى أصغر الأصغرين!! أليس هذا دليلاً على وحدانية المؤمنين في المسيح الواحد, وأن ما يصيب أحدهم من ألم, يشترك فيه الآخر, وأن لا غنى لأكبرهم عن أصغرهم. فما عليك أيها الأخ العزيز إلا أن تثابر في الصلاة فلعلك بصلاتك تسعف عظيماً كبولس وأنت لا تدري!

كان بولس في حاجة إلى الصلاة لأجله, لكي يبلّغ رسالة الإنجيل بكل حكمة وفطنة وشجاعة إلى أهل تلك المدينة العظيمة –عاصمة الدنيا في وقته- روما. "لكي يُعطى لي كلام عند افتتاح فمي" –للوعظ والإرشاد- "لأعلم جهاراً"- بدون تحفظ ولا وَجَل فلا أخفى شيئاً من الحق, فأقول الحق, وكلّ الحق, ولا شيء إلا الحق, (فيلبي 1: 20 ورومية 1: 15و 16) "بسر الإنجيل" –هذه هي المرة السادسة التي وردت فيها هذه الكلمة: "سر" في هذه الرسالة (1: 9, 3, 3:4و 9, 5: 32) فاطلب تفسيرها في هذه المواضع.

عدد 20 :

20الَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ.

تناقض ظاهري: "سفير في سلاسل" –كلمتان متناقضتان يفصل بينهما حرف صغير: "في". إحداهما ترينا الرسول في جلال ومجد: "سفير", والثانية ترينا إياه في موقف المجرمين: "سلاسل". الأولى ترينا إياه نائب ملك: "سفير", والثانية ترينا إياه في مكان العبد: "سلاسل".

هنيئاً لك يا بولس هذا المجد الممتاز, فلو كنت سفيراً فقط لاحترمناك مرة, أما وأنت سفير في سلاسل, فإننا نحترمك ألف مرة ومرة –لا على السفارة التي تمجد السلاسل, بل على السلاسل التي تزين السفارة! فلا التيجان على رؤوس الملوك بأجمل من هذه السلاسل في رجليك!! غيرك تقيده الدنيا العريضة ولو كان في قصورها, لأنه متعلق بأهداب مادتها ولكنك أنت حر ولو كنت مغلولاً بسلاسل سجونها. فأهنأ بما نلت وبشر جهاراً "بسر" الإنجيل ولو كنت في السلاسل!!

  • عدد الزيارات: 10108