Skip to main content

السلوك بحكمة لا بجهالة

(15:5- 21)

في تلك البيئة الأسوية الوثنية ، التي عاش فيها أهل أفسس، كلن من الصعب جداً على المسيحيين أن يعيشوا عيشة نقية صالحة. لكن لم يكن هذا من المستحيل فالصعب شيئ والمستحيل شيئ آخر. بل الصعب يصير ممكناً متى تسلح الإنسان بنيّة التدقيق والحذر. عدد15 :

15فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ،

(1) حكمة التدقيق لا جهالة التفريط: " فانظروا كيف تسلكون..." في هذه الرسالة، فالمسيحي المستنير هو الرجل المفتوح العينين : "انظروا..." وهو الرجل المفتوح القلب: "لا كجهلاء بل كحكماء". فالحكيم يسلك بحذر كي يتقي الخطر ، ولكن الجاهل يغمض عينيه عن كل النتائج فلا ينتبه إلا بعد وقوعه في مخالب الشر والحكيم الحقيقي لا يتخذ الحذر من الخطايا الكبرى وحدها ، بل يوجه همه نحو اتقاء شر الخطايا الصغرى. فالثعالب التي تفسد الكروم، هي الثعالب الصغرى. فضلاً عن ذلك، فان الخطايا الكبرى ظاهرة ، فيسهل على المرء أن يتقيها، لكن الخطايا الصغرى تتخفى بكل سهولة ، وتستتر وراء أعمال صالحة- هنا موطن الضرر.

إن قوله: "تسلكون بالتدقيق" يصور لنا إنساناً سائراً في بقعة منبثة فيها الأسلاك الشائكة ، أو ربَان سفينة عليه أن يقود سفينته بين الصخور والألغام ، فيتحتم على كل منهما أن يتسلح بنية الحذر، ليس فقط عند مناطق الخطر بل عند المناطق التي يظن فيها أنه في مأمن من كل خطر. فقد يقع الحكيم في خطية الغضب، وقد يسقط القديس في خطية النجاسة، وقد يجد الوديع نفسه "متلبساً" بخطية الكبرياء. فعلى كل من هو قائم بيننا، أن ينظر إلى نفسه لئلا يسقط هو أيضاً. ولعل قوله: " لا كجهلاء بل كحكماء" مأخوذ عن مثل العذارى الحكيمات اللواتي انتهزن الفرصة في حينها، بخلاف العذارى الجاهلات اللواتي ضاعت عليهن الفرصة ، فضاعت معها الحياة. ورب فرصة هي فرصة الحياة بأسرها!

عدد 16 :

16مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ

(2) حكمة افتداء الوقت لا جهالة إضاعة الفرص (5: 16)

نبهنا الرسول في هذا العدد إلى أمرين:

أولهما: واجبنا كحكماء- اغتنام الفرص: " مفتدين الوقت"- هذا تعبير مستعار من لغة التجارة، ويجوز أن يترجم إلى: " تكتسبون وقتاً". وهي تنطوي على معنى اقتناص الفرص

من يد عدو الخير. وفي هذا إشارة ضمنية إلى التضحية والحذر في سبيل كسب الوقت . لأن من أراد كسب شيء ما، فلا بد له من أن يخسر في غيره. ولن يتاح للإنسان أن يكسب الوقت إلا متى سلك بحذر وتدقيق، حتى يستطيع أن يفتدي الأيام الشريرة من قبضة الظلام ليجعلها خادمة للخير و النور، وأن يستخدمها خير استخدام.

ثانيهما: الباعث: عسر الأيام: "لأن الأيام شريرة": إن كلمة شريرة يجوز أن تترجم إلى: "عسيرة". هذا مما يجعل فرص الكسب نادرة جداً، لأن سوق الفضيلة في كساد، وسوق الرذيلة في رواج، والعلم كله قد وضع في الشرير، و الخطية ملازمة لهذه الأيام. وعدو الخير يريد اقتناص كل فرصة لمصلحته، فلا يرى باباً للخير مفتوحاً إلا ويسعى في إغلاقه . وإذا كان هذا مبلغ نشاط عدو الخير، فكم بالأولى يكون نشاط رجال الخير .

غير أن قول الرسول: " الأيام شريرة" وإن انطبق بنوع خاص على عصر خاص-عصر كتابة الرسالة- فانه ينطبق بمعنى أعم على كل عصر و مصر .

من بين نصائح الناز نيازى المأثورة: " إنه لمن أخطر الأمور أن نهمل أمراً ثم نحاول بعد ذلك أن نساوم الأيام كي تسترده".

عدد17:

17مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ بَلْ فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ الرَّبِّ.

(3) حكمة الفهم لا غباوة عدم التمييز: " من أجل ذلك لا تكونوا أغبياء بل فاهمين ما هي مشيئة الرب".

إن الحكماء المستنيرين بنور الله، يميزون علامات الأزمنة،ويذوقون كل ما هو مرضي لدى الرب، فيسهل عليهم أن يفهموا ما هي مشيئة الرب، أما الأغبياء، فان الأيام تتسرب من بين أيديهم كما يتسرب الماء من بين أيدي التماثيل الرخامية، وهي لا تحس ولا تشعر.

وغير خافٍ أن كلام الرسول عن"الأيام الشريرة" ينصبُّ بنوع خاص على "الأزمنة الصعبة" التي تتجمع فيها كل قوات الشر ، وتتركز في "كتيبة" واحدة لمهاجمة تدبير الله الحكيم الخير( 1 يوحنا2: 18 ومرقس13) فالحكماؤهم الذين يميزون إرادة الرب في الأيام العسيرة. فلتكن إذاً أعصابنا متنبهة . وعيوننا مفتوحة، ورؤوسنا مرفوعة، ووجوهنا ممتدة إلى قدام- كما لو كنا واقفين على أطارف الأقدام، لنميز كل علامة يلوح في الجو الروحي عن إرادة الرب في كل صغيرة وكبيرة، سيما عندما تتشعب المسالك وتتعقد المشكلات، وتسد نوافذ الرجاء. عندئذ يحلو لنا الانتظار بسكون طالبين أن يعلن الرب مشيئته.

عدد 18:

18وَلاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَةُ، بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ،

(4) حكمة الامتلاء بالروح لا جهالة سكر الخلاعة إن عسر الأيام قد يقود الجهلاء إلى أن"يغرقوا" همومهم في كؤوس الخمر، فينسوا متاعبهم ولو إلى حين. لكن هذه ليست وسيلة الحكماء في التغلب على متاعب الأيام الشريرة.

غالباً هذه هي إحدى العادات التي لاحظها بولس على أهل تلك المقاطعة مدة إقامته بين ظهرانيهم- عادة السكر الذميمة، التي كنوا يتوسلون بها إلى رفع أنفسهم فوق مستوى ظروفهم الصعبة. وفي الوقت نفسه كانت الديانات القديمة تعلق أهمية كبرى على الحركات الانفعالية"والدروشة" المعبرة عن " انجذاب" النفس. ولقد كانوا يستعينون على هذه الانفعالات"بروح الخمر" الذي فيه الخلاعة. هذه طريقة شيطانية لإغراق الهموم، وللبلوغ إلى العالم" الروحاني". لكن الرسول أرانا"طريقاً أفضل في الامتلاء بالروح القدس . هذا هو الروح الذي إذا امتلأ به المؤمنون يوم الخمسين، رآهم العالم الخارجي كأنهم"سكارى". وشتان بين طريقهم و طريقه!!

إن روح الخمر نجسة ومنجّسة، لكن الروح القدس، قدوس ومقدّس .إن روح الخمر مخربة هادمة، كما يدلنا المعنى الحرفي لكلمة "خلاعة" فهي تعني الخرب الذي لا يعمر. لكن الروح القدس محيي، ومجدد، وبان روح الخمر ترفع السكير لحظة، لتخفضه بعد حين إلى أسفل السافلين لكن الروح القدس يرفع المؤمن إلى أعلى عليين، إلى أبد الآبدين خلاعة روح الخمر غاية، لكن الامتلاء بالروح وسيلة لتمجيد الله. "لا تسكروا بالخمر... بل ...امتلئوا بالروح". هذان: نهي وأمر، تفصل بينهما كلمة"بل". فهما متماثلان في القوة والسلطان. فإذا كان السكر بالخمر خطيّة، فإن عدم الامتلاء بالروح ، خطيّة أيضاً. الأولى خطيّة غير المؤمن، والثانية خطيّة المؤمن، فكل مؤمن لا يمتلئ بالروح، يعتبر ببكوريته.

إن حرف الباء المتصل بكلمة"بالروح" يجوز أن يترجم إلى: "في الروح" فالروح هو الجو الذي فيه نحيا، وفيه نمتلئ، وفيه نخدم، فكما يوضع الإناء في الماء ليمتلئ، كذلك نكون نحن في الروح لنمتلئ. على أنه الامتلاء إلا بعد تفريغ، ولا امتلاء إلا بقدر التفريغ. فعلى قدر ما نفرغ من أنفسنا، وشرورنا، وبرّنا الذاتي، والأشياء المحبوبة لدينا، بهذا القدر عينه نمتلئ بالروح ولن يتاح لنا أن نمتلئ بالروح تماماً إلا بالطاعة الكاملة والإيمان الوطيد

  • عدد الزيارات: 5946