Skip to main content

أبناء النور وأعمال الظلمة

(5: 13-11)

-ا- الموقف: "ولا تشتركوا في أعمال الظلمة...بل وبخوها" (5: 11):

11وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا

هذا موقف ذو جانبين: أحدهما-سلبي: "لاتشتركوا..."

والثاني-إيجابي: "بل...وبخوها"

الجانب السلبي: "لا تشتركوا...". تنطوي هذه العبارة على حقيقتين:

الحقيقة الأولى: ماهية موقفنا: "لا تشتركوا...ط. وردت هذه الكلمة في فيلبي4: 14ورؤيا18: 4وأفسس5: 3- وهي تعني الصلة الشخصية الخفية أكثر منها الصلة الخارجية الظاهرة لدى العيون. فكثيرون يشتركون في الجوهر لكنهم يتهربون من المظهر. كثيرون يشتركون في المؤامرة ويختفون وقت المظاهرة. لكنها شركة على كل حال، والمتآمر شرّ من المنفّذ.

هين علينا أن لا نشترك في أعمال الظلمة غير المثمرة، متى ذكرنا أننا صرنا شركاء المسيح الذي قد اشترك وإيانا" في اللحم والدم" (عب2: 14)

الحقيقة الثانية: ماهية الأشياء التي نقف منها هذا الموقف: "أعمال الظلمة غير المثمرة" في رسالة معاصرة لهذه، تكلم الرسول عن"أعمال الجسد وثمر الروح" (غلاطية5: 19-24). وفي هذه الرسالة تكلم عن"ثمر النور وأعمال الظلمة" (أفسس5: 9-11). والمستفاد من هذين الفصلين مجتمعين معاً أن الروح والنور لهما ثمر، لكن الجسد والظلمة لهما أعمال، لأن الروح حي وكذلك النور، ولا بد للحي من ثمر. لكن الجسد ميت، أو هو حي في عالم الموت- وكذلك الظلمة- والميت عديم الثمر. نعم أن للجسد والظلمة أعمالاً، لكنها أعمال غير مثمرة. وأن لهما آمالاً لكنها خلابة كالسراب. فهي كشجرة مورقة لكنها بغير ثمر. وكسحب خريفية، بغير مطر. فمع أن لأعمال الظلمة عواقب خطيرة، بل أخطر العواقب، إلا أنها أعمال غير مثمرة، لأنها تعد الشرير بالخيرات الكثيرة، وفي النهاية لا يحصد سوى الريح! فعخان نال الرداء الشنعاري، لكنه نال معه قبراً، فلم يتمتع بالرداء. لأن ظلمة القبر صيرته له كفناً، لا رداء. فأعمال الظلمة إذاً غير مثمرة في عرف الإصلاح والبناء، لأنها شريرة هادمة. لا حساب لها في سجل أعمال الصلاح الخالدة، لأنها ضارة لا نفع فيها.

الجانب الإيجابي: "بل بالحري وبخوها". ليس واجب المسيحي مقصوراً على نيل النور والتمتع به، بل عليه أن ينشر النور، لكونه هو نوراً لأن النور من طبعه أن ينتشر، فلا يكفيه أن لا يشترك في الشر، بل عليه أن يوبخه، بأن يكشف القناع عنه، فيبرزه في حقيقته، مجرداً إياه عن ثوب الرياء، ورداء الادعاء. لا بروح التشفي والانتقام، بل بروح الإصلاح، لأن التستر على الجريمة، هو اشتراك في الجريمة عينها. (متى18: 15ويوحنا3: 20و16: 1.8وكورنثوس14: 24).

عدد12:

12لأَنَّ الأُمُورَ الْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرّاً ذِكْرُهَا أَيْضاً قَبِيحٌ.

-ب- الباعث على هذا الموقف: "لأن الأمور الحادثة منهم سراً ذكرها أيضاً قبيح". هذا تحوًط ضد الاسترسال في وصف خطايا الآخرين، والتمادي في تعقبها، والتعقب عليها. لأن الإفراط في هذا الباب يوقعنا في خطية التلذذ بذكر هذه الخطايا، التي يعتبر ذكرها أيضاً قبيحاً، فلا داع لذكرها ولو بأسمائها.

ومتى ذكرنا أن الأربعة الأعداد (8-11) جمل تفسيرية، وأن كلام الرسول في عدد12 مكمل لكلامه في عدد7، تحقق لدينا"إن الأمور الحادثة منهم سراً" هي نفس تلك "الأمور التي بسببها يأتي غضب الله على أبناء المعصية".

عدد13:

13وَلَكِنَّ الْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِالنُّورِ. لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ.

-ج- تأثير النور على الظلام: "الكل إذا توبخ يظهر بالنور. لأن كل ما أظهر فهو نور". إن للنور تأثيراً مثلثاً على الظلام:

(1) النور طارد للظلام. فمتى انكشف الظلام من مخابئه أمام أشعة النور، طار أمامه وتلاشى. وكذلك فمتى أظهرت تلك الأمور الحادثة منهم سراً، وأخرجت من "أوجرتها"، ولّت الأدبار أمام قوة الصلاح، كما يولي الظلام مدبراً أمام النور.

(2) النور مشجع للنور الضئيل الذي يتخلله الظلام: فهو يحقّ الحق ويرهق الباطل. وغير خاف أن رذائل كثيرة كانت فضائل فمسخت بالإفراط أو التفريط. فالكبرياء هي عزة نفس زادت عن حدها. والشئ متى زاد عن حده انقلب إلى ضده. والبخل هو اقتصاد مسخ شحاً. والنذير كرم أفرط فيه. والمحبة النجسة محبة مشروعة تعدت حدودها، وتجاوزت حقوقها. فمتى سلط النور على الأعمال المشتبه في أمرها، فحصها ومحصها وحللها إلى عناصرها، وأظهر منها ما هو صالح للبقاء في حضرة النور، وطرد منها كل ما هو شرير فالشر يطير، والخير يظهر"وكل ما أظهر فهو نور" (يوحنا3: 20).

(3) النور يحوّل الظلام إلى نور. هذا ما تفعله الشمس بأشعتها النورانية الشافية. ولطالما تحدث راسكن وغيره من رجال الفن عن هذه الأشعة المجيدة وعن فعلها الممتاز في تحويل فضلات الأرض، ونفاية المستنقعات إلى معجزات في عالم الفن والجمال والإبداع. وما أكبر دين البحر الميت لهذه الأشعة السحرية، التي حولت فقره المدقع إلى غنى جزيل، وخلقت من مخلفاته الآسنة، عقاقير للشفاء هذا معنى كلمة"أظهر"-أي"تجلى"و"استنار". فكل من يستنير لا يلبث أن ينير. وكل من يستضئ لا بد أن يضئ.

النور قوة مظهرة لأنه قوة مطهرة، فلا يجسر على البقاء أمامه، إلا ما كان مثله نوراً.

عدد14 :

14لِذَلِكَ يَقُولُ: «اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ».

معدن النور الذي يجابه الظلام- نور المسيح: "لذلك يقول...". تكلم الرسول في الأعداد السابقة عن تأثير النور على الظلام، فكان من الطبيعي أن يدلنا على معدن هذا النور، إن معدنه هو المسيح، بدليل القول: "استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضئ لك المسيح".[1]

ولكن من هو هذا "القائل"؟ يعتقد بعض المفسرين- سيما المعاصرين- أن هذا الاقتباس شطر من ترنيمة كانت معروفة بين المسيحيين الأولين، يرنمونها وقت العماد، وهي مجانسة لقول الرسول نفسه في 1تيمو 3: 16. ولعلها نظم لقول المسيح الوارد في يوحنا 5: 25. ويقول أصحاب هذا الرأي إن ما ذكره الرسول عن "الترانيم الروحية" في الأعداد التالية يؤيد ما ذهبوا إليه" أن هذا الاقتباس شطر من ترنيمة ويعتقد توما الأكويني أن الرسول اقتبس ذلك النداء البليغ من أشعياء60: 1"قومي استنيري لأنه قد جاء نورك". ويقول ايرونيموس إن بولس فاه بهذا النداء بوحي من الروح مباشرة. ف"القائل" هنا هو الروح القدس الناطق بالأنبياء.

ويظن الدكتور كاي أن لآلئ هذا الاقتباس ليست مأخوذة من مصدر واحد في الكتاب، بل من مصادر كثيرة: أشعياء60: 1وأشعياء51: 17 وأشعياء51: 2.1.

كان الغير المؤمنين في أفسس، سالكين في عالم الموت الروحي- وكله ظلام في ظلام. لكن الفادي أشرق عليهم بروحه الأقدس ليهبهم حياة ونوراً، فما عليهم إلا أن يستيقظوا من نوم الموت ليتمتعوا بالحياة ويستقبلوا النور، عندئذ يستنيرون وينيرون.

أما الرب المتنبئ عنه أشعياء في قوله: "مجد الرب"، فهو المسيح الذي نسب إليه الرسول هذه القوة الحية المحيية. هذا هو المسيح الذي رآه أشعياء في رؤياه التاريخية ( إشعياء6: 1، ويوحنا 22: 41).

ويقول ايدرشيم إن الرسول يشير هنا إلى نداء للتوبة كان اليهود يذيعونه بالأبواق في عيد المظال. ولكن هذا لا يخالف الرأي القائل أن النداء مشتقّ أصلاً من نبوات إشعياء.


2-ويقول تشندروف إنه قرأ عبارة في كنايات يوحنا الدمشقي مؤداها: "لقد تسلمنا من السلف الصالح هذا النداء الذي يذيعه بوق رئيس الملائكة لأولئك الذين رقدوا منذ بدء الخليقة إلى الآن". ويحدثنا مصدر آخر عن ليرونيموس أنه سمع مرة واعظاً يتكلم عن هذه الآية في الكنيسة، وإذا أراد أن يبهت سامعيه بحال طريف، قال إن هذا الاقتباس وجه أولاً كخطب إلى آدم الذي دفن في الجلحنة- حسبما تخيل هو!- ولذلك سمى ذلك المكان"جمجمة" نسبة إلى جمجمة الإنسان الأول الذي دفن فيه. ولما دقت الساعة ورفع المسيح على الصليب، فوق تلك البقعة عينها، عندئذ أطلق هذا النداء: "استيقظ يا آدم- يا أيها النائم- وقم من الأموات فيضئ لك المسيح"- وفي قراءة أخرى: "فيلمسك المسيح"- بدمه المنسكب فوق الجلجثة!!.

  • عدد الزيارات: 7437