المسيح هو الدرس والأستاذ والمدرسة
-ب- الدرس والأستاذ والمدرسة- هذه كلها مجتمعة ومركزة في شخص المسيح. فالمسيح هو الدرس: "وأما أنتم فلم تتعلموا المسيح هكذا". في البشائر الأربع، عرفنا المسيح معلماً، لكن بولس عرفنا إياه هنا أنه هو الدرس الذي يبتدئ الإنسان بتعلمه منذ وقت التجديد، ويظل متفقهاً فيه حتى يدخل الأبدية، وهناك أيضا يستمر متلقّناً هذا الدرس البسيط جداً لدرجة يفهمه فيها الأطفال، والعويص جداً لدرجة يعجز فيها العلماء عن سبر غوره. إن أهم درس هو معرفة "معنى المسيح". فالمسيح إذاً هو خلاصة التعاليم اللاهوتية، وهو جوهر كل المبادئ المسيحية، لأن المسيح هو المسيحية. فهو لم ينشر دينا، لكنه عرفنا عن شخصه، فإن تعلمنا العقائد والعلوم اللاهوتية ولم نتعلمه هو، فلا نكون قد تعلمنا شيئاً.
أراد الرسول بكلمة "هكذا" تلك الصورة التي رسمها في الأعداد السابقة (17-19). ويستنتج بعض المفسرين، من هذه الكلمة ،أن الرسول يشير ضمناً إلى جماعة ممن دعي عليهم اسم المسيح، لكنهم ظلوا على حياتهم الأولى الفاسدة، نظير أولئك الذين أشار إليهم بولس في رسالة معاصرة لهذه: "لأن كثيرين ممن كنت أذكرهم لكم مراراً والآن أذكرهم أيضا باكياً وهم أعداء صليب المسيح"(فيليبي3: 18).
عدد 21:
- 21إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمُوهُ وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هُوَ حَقٌّ فِي يَسُوعَ،
-ج- المسيح هو الأستاذ: "إن كنتم قد سمعتموه".
كلمة "إن"، في هذا الوضع، ليست شرطيَّة، بل تحقيقيّة يقينية. فهي لا تشترط أمراً لم يحدث بعد: لكنها تفترض وقوعه فعلاً وحقاً. فقوله: "إن كنتم قد سمعتموه" يعتبر موازياً للقول: ما دمتم قد سمعتموه حقاً ويقيناً. والظاهر أن الرسول التجأ إلى هذا الأسلوب الإنكاري- كما في 3: 2- ليجعل العمليات مؤيدة للنظريات.
ورد ضمير "الهاء" المتصل بالفعل: "سمعتموه"- في الأصل - سابقاً للفعل لا لاحقاً له، على سبيل التوكيد: إياه"سمعتم". فمع أن المكتوب إليهم لم يحظوا بأن تتملى عيونهم من مرأى سناه، ولا بأن تتشنف آذانهم بسمع طيب حديثه ونجواه، إلا أنهم سمعوه في رسله الذين بعثهم بروحه الأقدس- وفي مقدمتهم بولس (يوحنا10: 27، أعمال1: 1). وفوق ذلك، فإن المسيح هو الحق الذي سمعوه، وهو الرسالة التي بلغت إليهم، وهو موضوع الكرازة التي انتهت إليهم. فهو لم يعلن لنا حقاً، بل هو الحق. ولم يرنا طريقاً، بل هو الطريق: ولم يدلنا إلى سبيل الحياة، بل هو الحياة- د- المسيح هو المدرسة: " وعلمتم فيه".هذه العبارة مكملة لسابقتها، كما أن سابقتها مفسرة لها. والمراد بها: أن المؤمنين إنما عرفوا المسيح وهم في روح المسيح متحدون به إتحاداً حيوياً. فصار فكر المسيح فكرهم، وأضحت لغة المسيح لسانهم، وأمست إرادة المسيح عزيمتهم، وبات حب المسيح غذاء عاطفتهم ووجدانهم: "وأما نحن فلنا فكر المسيح" (1كو2: 16)-ه-منهج التعليم: "كما هو حق في يسوع". هذه هي المرة الوحيدة التي ذكر فيها الرسول اسم المخلص: "يسوع" مجرّداً، في هذه الرسالة. وهو يعني بهذا الاسم المجيد، شخص يسوع التاريخي، الذي صلب، ومات، وقام، وصعد، فجلس عن يمين العظمة في الأعالي، وسوف يأتي ليدين الأحياء والأموات.
"كما هو حق في يسوع"- غالباً لاحظ الرسول أن قوله: "تعلمتم المسيح" لا يخلو من الغموض والإبهام،سيما لدى عقلية قوم انتقلوا حديثاً من الوثنية الجوفاء، فأراد أن يزيل هذا الإبهام بعبارة تجلو غامضه، فقال: "ما هو حق في يسوع"-أعني أن الذي تعلّموه هو الحقّ
الذي أعلن لهم في يسوع الناصري. فكل كنوز العلم والمعرفة المدخرة في المسيح السرمدي، قد انكشفت لنا في يسوع الناصري الذي رأيناه ولمسناه وسمعناه، وفيه أعلنت لنا إرادة الله،وتجلى لنا معنى الحياة.
في هذه القرينة،ركزّ الرسول محور كلامه على"الحق" ومشتقاته: في عدد 15 أوصى المؤمنين بأن يكونوا "صادقين في المحبة"، وفي عدد 24 ناشدهم بأن يلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة "الحق".
وفي عدد 25 طلب إليهم أن يطرحوا الكذب ويتكلموا "بالصدق" كل واحد مع قريبه. فإذا ما رغب أحدهم في ترديد سؤال بيلاطس: "وما هو الحق" فالجواب عليه صريح واضح: هو ما أعلن لنا في مسيح الله، الذي رأيناه ولمسناه في شخص يسوع الناصري.
- عدد الزيارات: 3956