المسيح والكنيسة
هذه أول مرة نلتقي فيه بكلمة: "كنيسة" في هذه الرسالة, وفيما بعد نلتقي بها ثمان مرات أخر ( 3: 10 و21, 5: 23 و 24 و25 و27 و29 و 32) ومعناها الحرفي "مَدعو من" العالم الساقط إلى اتحاد حيوي مع المسيح الممجد. وقد أشار إليها الرسول ضمناً في كلمة "دعوته" (1: 18). وهي تعني الجماعة المسيحية, وتقابلها في العبرية الكلمة المترجمة "الجامعة", فهي الجماعة الروحية التي آل إليها المجمع اليهودي. فلا عجب إذا سُمى مجمع اليهود في الوقت الحاضر: "الكنيس".
"الكنيسة" هي "العروس امرأة الحمل" التي رآها يوحنا (رؤيا 21: 9) هي الجماعة التي دعاها الله, فبرّرها ومجدّها (رومية 8: 30), هي "كنيسة الأبكار" التي حدثنا عنها كاتب الرسالة إلى العبرانيين (عب 12: 23), هي "الجنس المختار, والكهنوت الملوكي, والأمة المقدسة, وشعب الاقتناء" كما علمنا عنها بطرس الرسول (1 بطرس 2: 9). هي جد المسيح السرّي. فالمسيح هو مصدر حياتها, وعلة كيانها, وأصل وجدانها. هو ملكها, ومحبها محبة الإنسان لجسده, هو الموحي إليها بإرادته, المجرى فيها, وبها وبواسطتها سلطان قدرته وقدرة سلطته. تمتاز صلته بها عن صلته بسائر المخلوقات, بهذه الرابطة الحيوية القوية التي عّبر عنها بقوله: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان". فالأغصان تستمد عصارة حياتها من الكرمة, والكرمة تجود بثمارها بواسطة الأغصان .
وغير خاف أن مقام الرأس بالنسبة إلى الجسد في هذه القرينة يختلف عنه في 1 كورنثوس12: 12. هناك تكلم الرسول عن الرأس باعتبار كونه أحد أعضاء الجسد, وهنا تكلم عنه باعتبار كونه سيداً لجسد وحياة الجسد بل كل الجسد. هذا يوافق قوله في 1كو12: 12 "لأنه كما أن الجسد هو واحد وله أعضاء كثيرة وكل أعضاء الجسد الواحد إذا كانت كثيرة هي جسد واحد, كذلك المسيح أيضاً". فكما أن الكرمة تعني الجذع والأغصان معاً, كذلك المسيح هو الرأس والجسد معاً, لأنه الكل في الكل.
23الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ.
عدد 23 مقام الكنيسة بالنسبة إلى المسيح ومقام المسيح بالنسبة إلى الكون بأسره: اُستعملت كلمة: "التي" في غرة هذا العدد لتدل على أن ما بعدها حجة لما قبلها. فهي بمثابة قوله "لأنها هي" أي أن المسيح صار رأساً فوق كل شيء للكنيسة لأنها هي جسده. ملء الذي يملأ الكلّ في الكل.
أوضح لرسول مقام الكنيسة بالنسبة إلى المسيح في كلمتين :
أولاهما: "جسده" - وهي تصف الصلة الحية المكينة التي تربط الكنيسة بالمسيح. فالجسد مرتبط ارتباطاً حياً بالرأس, ويستمد منه حياته وإرادته, ويخضع لكل إشارة منه, وهو موضوع محبته.
والكلمة الثانية: "ملء" - هي بَدل من الكلمة الأولى "جسد" وهي تصف الوظيفة الحية التي تقوم بها الكنيسة في نسبتها إلى المسيح .
إن كلمة "ملء" من مميزات رسائل بولس التي كتبها في السجن, سيما رسالته إلى كولوسي, ورسالته هذه وهي تفيد: (1)الفاعلية - أي المالئة, أو المتممة, على اعتبار أن الجسم متمم للرأس وبه يعبر الرأس عن ميوله, ويحقق آماله, وينّفذ رغائبه, ويجري سلطانه. فكما أن الأغصان متممة للكرمة على اعتبار أنها تحمل ثمار الكرمة, كذلك يعتبر الجسد متمماً للرأس باعتبار كونه منفذاً إرادته, وبه يسير ويتحرك على الأرض, وهو شريك آماله
وآلامه. هذا يذكرنا بقول الرسول في رسالة معاصرة لهذه "أكمّل نقائص شدائد المسيح" (كو 1: 24). فمع أن المسيح تحَّمل كل الآلام, تامة غير ناقصة في شئ, فقال "قد أكمل" إلا أن بولس باعتبار كونه أحد أعضاء جسد المسيح, له -بل عليه - أن يشاطر الرأس آلامه. فقال "اكمّل نقائص شدائد المسيح في جسدي". وفي هذا يقول يوحنا الذهبي الفم: "كما أن ملء الرأس هو الجسد, كذلك ملء الجسد هو الرأس" .
وقد تفيد الكلمة "ملء": (2) "المفعولية" أي أن الكنيسة مملوءة من المسيح وقد وردت بهذا المعنى في مرقس 6: 43 في قوله "اثنتي عشرة قفة مملوّة" (أنظر أيضاً مرقس 8: 20), وفي 1كو10: 26" لأن للرب الأرض وملأها" وفي كولوسي 1: 19"لأن فيه – في المسيح – سُرَّ أن يحل كل الملء" (أنظر أيضاً كولوسي 2: 9) "فإنه فيه" – في المسيح – "يحل كل ملء اللاهوت جسدياً". فكما أن ملء اللاهوت حلّفي المسيح المتجسد, كذلك ملء المسيح حل في الكنيسة التي هي جسده. على أن ملء اللاهوت حل في المسيح بغير حد ولا قياس, لكن ملء المسيح يحل في الكنيسة على قدر اتساعها وقابليتها. "افغر فاك فأملأه".
هذا المعنى الثاني مطابق لبقية الآية التي تظهر مقام المسيح بالنسبة إلى الكون بأسره: "الذي" – أي المسيح "يملأ الكل في الكل". فليس المسيح مالئاً الكنيسة وحدها, لكنه أيضاً يملأ كل الكون في كل زمان, وفي كل مكان, بكل شيء, إذ هو الكل في الكل.
فالكون من دونه "خرِب وخال, وعلى وجه غمره ظلمة" (تك 1: 2).
- عدد الزيارات: 4766