الفصل الحادي عشر: المعذّبون المبتهجون
ألقى مسيحيو شمال إفريقيا أنفسهم في أتون المحن والبلايا، غير آبهين بشكل مذهل للعواقب. وارتفع عددهم إلى المئات، بل إلى الآلاف، أولئك الذين ثبت أنهم يعانون الأمرّين بسبب التزامهم الإيمان بالمسيح. لقد أعلنوا سرورهم وغبطتهم ليكونوا هكذا وماتوا مبتهجين فرحين جداً. رفضوا بصراحة، وبشكل قاطع، أن يقربّوا التقدمات لآلهة روما، ولم يرتضوا لأنفسهم أن يُقسموا بقدرة الإمبراطور الإلهية. ليس من السهل على جيلنا الحالي أن يتفهّم هذه الحماسة أو يدرك مثل هذه التصرفات، لأننا لم نعتد عليها. وقد نعجب متسائلين: ما الذي يقف وراء هذا العناد الذي لا يقبل المساومة؟ ولماذا صمّم المسيحيون أن يعترفوا بإيمانهم المسيحي مجاهرة حتّى ولو أدّى بهم ذلك إلى التضحية بحياتهم؟
علينا أولاً أن نتذكر أنهم كانوا واثقين من المبدأ الذي أرسوا عليه أقدامهم. فقد آمنوا تماماً، وبشكل راسخ، بأنهم اكتشفوا الحق. كما اقتنعوا بشكل أكيد أنّ المسيح هو بالحقيقة الله المتجسّد الذي جاء من السماء ليكون "نور العالم"(1). إنهم آمنوا بما قاله لهم سيدهم، ووثقوا بأن طريق المسيح هو الأفضل، لقد رأوا الفرق بأمّ أعينهم. كانوا يفتخرون بمسيحيتهم، كما أن إخلاصهم لم يسمح لهم بأن يتفّوهوا بالكذبة العظيمة المطلوبة منهم ولم يكن لهم أبداً أن يعبدوا الإمبراطور الروماني رباً وإلهاً. لقد شعروا بمحبة الإله الحقيقي الذي خلق كل شيء، واختبروا دفء الجماعة المسيحية ولطفها، وكان اختبارهم لهذه البركات بمثابة تذّوق مبدئي للسماء في وسط عالم قاسٍ وشرس. كان إيمانهم يمنهم بهجة عظيمة. فهذا الإيمان حوّل حياتهم كلّها، ولم يبقَ عندهم أدنى شك بحقيقته وبصحتّه. ولا شيء كان بإمكانه أن ينتزع منهم هذا الإيمان أو يجعلهم يتنكرون له.
وأكثر من ذلك، فقد كانوا ممتلئين بشعور شخصي غامر من العرفان بالجميل والإقرار بالفضل لمخلّصهم الذي أحبهم عندما لم يكونوا يفكّرون فيه. لقد فتّش عنهم كما يفتش الراعي عن خرافه الضّالة. واعتنى بهم عندما كانوا في حالة بؤس وشقاء وانحدار. ثم أصعدهم من طين الحمأة، وثبّت على صخرةٍ أرجلهم(2). فكيف لهم أن ينكروا ربهم وهو الذي منحهم كل شيء حسناً، وهو من أعطاهم كل هذا الفرح والحبور الذي أصبحوا الآن يتمتعون به؟ لقد وهبهم كل ما يجعل هذه الحياة جديرة بالاهتمام وذات شأن رفيع – لقد منحهم الصحة والعافية والصداقة والمحبة، واحترام الذات والمسامحة، والقبول والرجاء العظيم بالحياة الأبدية الخالدة. فكيف لهم أن يلعنوا ذاك الذي خلّصهم وأعالهم وأحبّهم إلى المنتهى؟! كما أعطى كل ما لديه من أجلهم، وهو الذي ناضل بكفاح مضنٍ تحت وطأة صليب ثقيل، وأخيراً مات معلّقاً عليه من أجلهم هم.
كذلك، لم ينقص عن ذلك مقدار تأثرهم بالشرف العظيم الذي شعروا بأن الرب أنعم به عليهم: أن يكونوا شعبه الخاص، أولئك الذين سوف يقومون من القبر لكي يملكوا معه إلى أبد الآبدين. أمّا الامتياز الأكبر والأروع، فهو من نصيب من أفرزهم الرب شخصياً ليعلنوا اسمه جهراً أمام هذا العالم المترقّب المنتظر. لقد كانوا في أشدّ الاشتياق لخدمة المسيح بأي شكل من الأشكال. فكيف إذاً يُظهرون ولاءهم وحبهم له؟ وكيف سيعظّمونه على كل صلاحه من نحوهم؟ إلاّ باحتمال الانزعاج بفرح من أجله على مدى عدّة أيام، وبشهادة مخلصة، وإعلان ثابت وطيد لإيمانهم أمام الجماهير المحتشدة للاستماع إلى حكم الموت الذي سيصدر بحقهم، ثم وميض السيف، ومن ثم الحياة الأبدية. ومن بين هذه الجماهير المحتشدة المترقّبة في السجون أو في الساحة العامة، قد يُقبل بعضهم إلى معرفة الحق في اللحظة عينها لانتقال المؤمنين من هذا العالم. ومع أن تلاميذ الرب الأولين تخلّوا عنه وهربوا، إلاّ أن هؤلاء سيقفون معه ويصمدون بشجاعة وإباء، وإذا كان بطرس قد أنكره، فهم، على الأقل، لم ولن يخجلوا من أن يكونوا أصدقاءه. فمثلهم مثل شاول الطرسوسي، إذ شعروا بأنهم مُفرزين ليحملوا اسمه أمام الحكّام والملوك.(3) إنهم سوف يعترفون الاعتراف الحسن أمام ولاة عصرهم وحكّامهم، كما فعل المسيح أمام بيلاطس البنطي.(4)
لم تفاجئهم تحدّيات الاضطهاد. هذا لأن سيدهم دعاهم إلى هذا العمل العظيم الجبّار، وهو الذي وعد بأن يدعمهم ويقوّيهم. "فانظروا إلى نفوسكم. لأنهم سيسلّمونكم إلى مجالس وتُجلدون في مجامع وتوقفون أمام ولاة وملوك من أجلي شهادة لهم. وينبغي أن يُكرز أولاً بالإنجيل في جميع الأمم. فمتى ساقوكم ليسلّموكم فلا تعتنوا من قبل بما تتكلمون ولا تهتموا. بل مهما أُعطيتم في تلك الساعة فبذلك تكلّموا. لأن لستم أنتم المتكلّمين بل الروح القدس... وتكونون مبغَضين من الجميع من أجل اسمي. ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص."(5) كان ذلك حقاً، هذا لأن هؤلاء الرجال والنساء وجدوا في ساعة المحنة الحرية المجيدة التي دفعتهم إلى التحدث عن يسوع المسيح بسرور وبفصاحة انسكبا عليهم من فوق. لقد شعروا بمنتهى السعادة لكونهم مسيحيين، وهم أكثر الناس امتيازاً في العالم بأسره. لم يكن لديهم شيء يرغبون في إخفائه، أو يخجلون منه، فسيدهم لم يرتكب أية جريمة، وكذلك الأمر بالنسبة إليهم. كانوا فخورين بحمل اسم المسيح. وقد عبّر ترتوليانوس عن هذا الشعور العارم بالولاء للمسيح: "نقول أمام جميع الناس، وحينما تُمزّق أجسادنا وتدمى من جرّاء تعذيباتكم، فإننا جميعاً نصرخ بأعلى ما أوتينا من قوة: "نحن نعبد الله من خلال المسيح". يحقّ لكم أن تعتقدوا أن المسيح ليس سوى إنسان، ولكن اعلموا إنه من خلاله، و به فقط قد شاء الله أن يُعرف ويُعبد."(6)
تشدّد المسيحيون المضطهدون وتقوّوا في معاناتهم هذه، باقتناعهم التام المطلق بأن هناك حياة أفضل تنتظرهم. وليس المطلوب منهم إلاّ أن يعبروا عتبة الموت الضيّقة ليدخلوا بعد ذلك إلى دارهم الأبدية السرمدية، فيكونوا دائماً وأبداً في حضرة الله المبارك حيث لا دموع ولا أحزان. وإذ سيعودون للاجتماع من جديد بفرح بأحبائهم، في ذلك المكان المثالي، كانوا يشتاقون إلى أن يُرحّب بهم هناك، لا كعمّال بطّالين، بل كخدّام صالحين وأمناء يرضى عنهم ربّهم. إنّ إقراراً جريئاً بالإيمان بالمسيح سوف لن يضيع أجره. يقول المسيح: "فكل من يعترف بي قدّام الناس أعترف أنا أيضاً به قدّام أبي الذي في السماوات."(7) كما أن الأقدم عهداً بين الترانيم جميعها تقول: "إن كنّا قد متنا معه فسنحيا أيضاً معه، وإن كنا نصبر معه فسنملك أيضاً معه."(8)
كان هناك الكثيرون ممن يرغبون في أن يملكوا مع الرّب يسوع، كانوا يشتاقون بإخلاص إلى أن يُتّوجوا بتاج الشهادة. وفي يقينهم بإحراز النصر المبين على قوى الظلام، كانوا قد حلّوا أنفسهم من رباطات هذا العالم الكاذب والمخدّر. قُدّر لهذا العالم أن يزول عن قريب، وهم لم يعودوا يرغبون في أن يبقوا مستعبدين لادّعاءاته التافهة، ولا لفساده المستشري. تكلم ترتوليانوس بلسانهم جميعهم عندما قال: "نحن نرغب التعجيل في أمر حصولنا على المُلك، لا أن نطيل زمن عبوديتنا... نعم، ليأتِ ملكوتك أيها الرب سريعاً، وسريعاً جداً. وسيكون هذا تحقيقاً لأشواق المسيحيين، وإرباكاً للملائكة. هذا ما نصلّي من أجله مبتهلين."(9)
كانوا يتوقعون باستمرار رجوع المسيح. لذلك كانوا أمام كل أزمة أو مصيبة جديدة يتذكّرون تحذير السيّد و وعده: "نعم، أنا آتي سريعاً."(10) "اسهروا إذاً لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم."(11) سيأتي الرب كمخلّص لشعبه، وكديّان للعالم. يقول الكتاب أيضاً: "هو ذا الديّان واقف قدّام الباب"(12) "يوم الرب كلصٍّ في الليل هكذا يجيء. لأنه حيثما يقولون سلام وأمان حينئذٍ يفاجئهم هلاك بغتةً كالمخاض للحبلى فلا ينجون."(13)
ها إن أيام العز والقوّة، قد زالت فعلاً من الإمبراطورية الرومانية، وحيث بدأت تتدهور وتضمحل، برزت حينذاك بوادر شؤم وتعاسة تنذر بالسوء، وكأن العالم يُسرع الخطى اقتراباً إلى نهايته: أوبئة وحروب وهزّات أرضية، وانهيار الحكومات الثابتة، وخيبة أمل بالنسبة إلى ما كانت الإمبراطورية تمثّله. لقد قال المسيح: "فإذا سمعتم بحروب وبأخبار حروب فلا ترتاعوا. لأنها لابدّ أن تكون. ولكن ليس المنتهى بعد. لأنه تقوم أمّة على أمّة ومملكة على مملكة، وتكون زلازل في أماكن وتكون مجاعات واضطرابات. هذه مبتدأ الأوجاع... لأنه يكون في تلك الأيام ضيق لم يكن مثله منذ ابتداء الخليقة التي خلقها الله الآن ولن يكون."(14)
كان كل شيء في انحدار، وفُقد كل أمل في معالجة حالة الإنسانية ولم يعد بإمكانها سوى التقهقر والانحدار إلى الأسوأ. وليس غير أولئك المتفائلين جداً كان بإمكانهم أن يفكّروا في غير ذلك. والمسيحي الذي كان قد أُخذ من هذا العالم، قبل حلول هذه الأيام الأخيرة المرعبة، كان بوسعه أن يُعدّ نفسه مباركاً فعلاً. قال ترتوليانوس: "يبقى المؤمن منتظراً ذلك اليوم... وهو قلقٌ يومياً على ما يرجوه كل يوم."(15) إن رغبة الكثيرين من المؤمنين في ترك هذا العالم قبل أن يشبّ فيه الحريق الهائل الأخير، قطع في الواقع ما تبقّى لهم من صلات به، وهكذا شدّدهم لمواجهة ساعة المحنة، لحظة المغادرة والانطلاق.
كان بإمكان أتباع المسيح أن يبقوا واثقين بانتصارهم النهائي مهما كانت معاناتهم. وسبق لكلمة الله الحيّة أن تنبّـأت بخصوص هياج الوثنيين المجنون على ابن الإنسان. "هؤلاء سيحاربون (المسيح) و (المسيح) يغلبهم لأنه رب الأرباب وملك الملوك."(16) كان ترتوليانوس يتطلّع إلى اليوم الذي فيه ستنقلب ممالك العالم وستجثو كل ركبة باسم الرب يسوع.(19) لقد أسرعت مخيّلته واستبقت مجيء المسيح، يوم الدينونة العظيم وتدمير المعذِّب. فلسوف يجرف الانتصار الأخير معه ذكريات الذل والخزي، هذه التي لحقت بشعب الله، وكل ما عانوه على أيدي أولئك الظالمين الأشرار. كتب يقول: "ولكن... يا للمشهد الآتي! ظهور الرب، معترَفاً به، ممجّداً ومنتصراً. فكم سيكون عند ذاك جذل الملائكة وابتهاجهم، وكم سيشرق مجد القديسين حين يقومون ويظهرون! وبعد ذلك، سناء عهد مُلك القديسين الرائع، ومدينة أورشليم الجديدة! ولكن، هناك مشاهد أخرى إلى جانب كل ما تقدّم! إنه يوم الدينونة الأخير، اليوم الذي لم تكن تتوقعه الأمم، ذلك اليوم الذي ضحكوا عند سماعهم عنه... فعلامَ سأتعجب عندئذٍ وأندهش؟ ... سوف أرى جميع أولئك الملوك الجبابرة الذين أُعلن عنهم جهراً بأنهم قد مُجّدوا في السماء، وهم يئنون ويتأوهون جميعاً في الظلمات العميقة السحيقة، وسأرى... الحُكّام، ومضطهدي اسم الرب، وهم يذوبون في نيران هي أشدّ ضراوة وأعنف قسوة من تلك التي هاجوا وماجوا بها ضد المسيحيين المؤمنين... فلاسفة... شعراء... كتّاب المآسي... ممثلين... وسائقي المركبات، ومنذ الآن نستطيع أن نتخيّل ما سيحدث لهم."(18) عند ذاك سنلاحظ مصير أولئك الذين بصقوا على الرب يسوع وضحكوا في وجهه، وجلدوه وصلبوه.
فإذا ما جاء الاضطهاد، فلا بدّ أن يكون وراءه الخلاص. لقد تشجّع المسيحيون بكلمات سيّدهم: "ومتى ابتدأت هذه تكون فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم لأن نجاتكم تقترب."(19) كان يوم رجوع الرب يقترب أكثر فأكثر، فما هي علامات دنّو مجيئه يا ترى؟ قال المسيح: "الشمس تظلم والقمر لا يعطي ضوءه، ونجوم السماء تتساقط والقوّات التي في السموات تتزعزع. وحينئذٍ يبصرون ابن الإنسان آتياً في سحاب بقوة كثيرة ومجد. فيرسل حينئذٍ ملائكته ويجمع مختاريه من الأربع الرياح من أقصاء الأرض إلى أقصاء السماء."(20) كان المسيحيون ينتظرون هذه العلامات بتوقّع. فهم سيكونون بين أولئك المختارين الذين جاء المسيح من أجلهم. وإذ يعلمون ذلك، لم يهابوا السيف الخاطف ولا التهديد البشري المؤقّت.
وإذ كانوا ينتظرون هذا الحدث العظيم، كانوا يجدون تعزية خصوصاً في السِّفر الذي كمّل قانون العهد الجديد، سِفر الرؤيا الذي كتبه الرسول يوحنا الشيخ من منفاه في جزيرة بطمس. وتصف فقراته الأخيرة، بتفاصيل رائعة، انتصار المسيح في النهاية، إلى جانب أمجاد المدينة المقدّسة.(21) رأى يوحنا ما سوف يحدث في المستقبل، وبيّن ما رآه. لقد أُفرز الشهداء لكي يحصلوا على تكريم خاص. فهم حملوا اسم المسيح حتى نهاية المطاف، رافضين أية تسوية مع هذا العالم، ومع حكّامه المجدّفين. "ورأيت نفوس الذين قُتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته ولم يقبلوا السمة على جباههم وعلى أيديهم فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة."(22)
كان الشهداء ينتظرون حقاً إحراز مكافأة عظيمة، إذ ما وُجدوا مُخلصين حتى الموت. وأولئك الذين هلكوا في سبيل ملكوت الله، سيُرفعون فوراً إلى المجد بصفتهم "كهنة الله والمسيح"(23)، بينما إخوتهم العاديين، الذين ماتوا بسبب العجز أو المرض، كانوا لا يزالون في عالم الأموات (Hades) حيث ينتظرون نهاية العالم ويوم الدينونة قبل أن يدخلوا بيتهم الأبدي. وأمّا بقية الأموات، بحسب رؤيا يوحنا، فلن يعودوا إلى الحياة إلا بعد مضي ألف سنة.(24) ومتى تمّت الألف السنة الأولى، يُحلّ الشيطان من سجنه مرة أخرى، "ليُضل الأمم" و "ليجمعهم للحرب"(25)، قبل اندلاع الحريق النهائي الهائل وخلق "سماء جديدة وأرض جديدة"(26)
النبوة القائلة إن الشهداء سيصعدون ليحكموا مع المسيح على مدى ألف سنة، استأثرت بعقول المسيحيين في جميع أنحاء العالم آنذاك. وقد ذُكر الحكم الألفي هذا في ما كتبه بوليكاربوس في آسيا الصغرى (تركيا حالياً)، و إيرينايوس في بلاد الغال (فرنسا حالياً)، و يوستينوس الشهيد في روما، وبين المونتانيين في فريجيا وفي إفريقيا الشمالية. وقد اعتبر معظم هؤلاء الكتّاب، إن هذه الفقرات من سِفر الرؤيا تشير إلى مملكة أرضية حقيقية سوف يتمّ تدشينها، والتي سيحكم فيها المسيح مع قديسيه على مدى ألف سنة فعلية، أمّا غيرهم، ومن جملتهم إقليمندوس و أوريجانوس في الإسكندرية، ومن ثم أغسطينوس في إفريقيا، فقد علّموا أن هذا الحكم الألفي قد بدأ فعلاً عند مجيء المسيح الأول، والذي بصعوده إلى السماء، بدأ يحكم هناك مع الشهداء.(27) ولكن، بمعزل عن أيٍّ من هذه التفاسير هو المفضّل، فإن هذه المقاطع الكتابية ولّدت عند المسيحيين تعزية عظيمة واطمئناناً ثابتاً وقوياً في ما كانوا يواجهونه من صراعات.
وهناك أيضاً سبب آخر وراء إخلاص المسيحيين العنيد لإيمانهم: لقد كانوا على علم بالنتائج الحتمية التي سوف تترتّب على البدائل. وأدركوا أنهم انخرطوا، لا في صراع الأفكار والمبادئ الأخلاقية فحسب، بل في معركة بين القوى الروحية أيضاً. كان رفضهم للأوثان، وامتناعهم عن المشاركة في أي شكل من أشكال العبادة الوثنية، ينبع من اقتناعهم بأن الأصنام ليست مجموعة من الأخشاب والأحجار الباطلة التي لا نفع منها وحسب، لكنها أيضاً مساكن تقطنها قوّات شريرة ومقتدرة جداً، تلك القوّات التي قد تتمكّن من إتلاف الصحة والخُلق وسبل العيش عند الناس، رجالاً ونساءً، وتسبّب لهم الجنون، وحتى الموت.
كانت القوة المتميّزة لهذه الأرواح معروفة جداً: فالذين يتعبّدون لها كانوا قادرين على تقديم براهين على حصول أحداث خارقة لا يمكن تفسيرها إلاّ بقوة تلك الأرواح. كان الكهنة الوثنيون ومستحضرو الأرواح يفتخرون بالأمور الخارقة للطبيعة. لكن مصدر عرافتهم وسحرهم هو شيطاني بحت. وما إن يتوسّل المتعبِّد ويتضرّع إلى الروح الشريرة، حتى يجد نفسه وقد استُعبد بشكل تام للشيء الرهيب والمروِّع الذي كان قد التجأ إليه طالباً عونه. لم تُخدع الجماعة المسيحية بالفكرة القائلة إنّ تقريب التقدمات للأصنام، أو القَسم بقوة الإمبراطور الإلهية ليست إلاّ أعمالاً أدبية فارغة ومن دون معنى. لكنهم عرفوا أن تيارات شريرة شديدة الخطورة تكمن وراء هذه الديانات الكاذبة والبطّالة، وأن كل من يقترب منها يعرِّض نفسه لخطر الانجراف في شقاوة لا يُعبَّر عنها. لم يكونوا يجترئون على أن يرتكبوا مجدّداً بنير عبودية.(28) لقد حذرتّهم كلمة الله بوضوح كافٍ من أن يكون لهم صلة ما أو أية علاقة بهذه القوى الشيطانية: "بل إن ما يذبحه الأمم فإنما يذبحونه للشياطين لا لله. فلست أريد أن تكونوا أنتم شركاء الشياطين. لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس شياطين. لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة شياطين."(29)
إلاّ أن معرفة القوى الخارقة والفوق الطبيعية لم تكن مقتصرة على عبدة الأوثان وحدهم. وبالطبع فإن أسمى القوى الروحية جميعها هو الله الكلّي القدرة نفسه، وهو يمنح من في علاقة حميمة به قدرات فذّة ورائعة. وكثيراً ما كان المسيحيون في القرنين الثاني والثالث للميلاد يطردون الأرواح الشريرة باسم يسوع، وذلك على غرار نظرائهم في العهد الجديد، كما أن معجزات الشفاء لم تكن نادرة، أو غير شائعة آنذاك. والشهداء كانوا يشهدون لأحلام ورؤى إلهية المصدر وذات معانٍ روحية عميقة، كما فعل أيضاً العديد من إخوتهم العاديين. وقد أدى ذلك إلى انضمام عدد غير قليل من الناس إلى مسيرة الإيمان بالمسيح. وفي كثير من الأحوال، كانت حماسة المسيحيين وغيرتهم المذهلة قد نشأت بكل تأكيد من خبرتهم الشخصية القوية بكلّ من قوة الشيطان وقوة الله. ولم يكن عندهم أي شك في الجهة التي كانوا يرغبون في الوقوف إلى جانبها.(30)
لم ينظر المسيحيون إلى ساعة المحنة كأنها إذلالاً يجب احتماله، بل اعتبروها فرصة يجب انتهازها. فحينما كانوا يجدون أنفسهم مرغمين على أن يكونوا محطّ الأنظار في الأماكن العامة، كانوا يجدون في ذلك فرصتهم ليضيئوا هناك بمحبّة الله. إن كنّا نحن في أيامنا، نحاول أن نتحاشى، أو أن نتجاهل ببساطة، التحدّي الموضوع أمامنا في العظة على الجبل، فقد قبلوه هم بالمقابل، كما إنهم افتخروا به. لقد غفروا لأعدائهم وباركوهم أيضاً، وأداروا الخد الآخر، تماماً كما أوصاهم سيّدهم: "لكنّي أقول لكم أيها السامعون أحبّوا أعداءكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. باركوا لاعنيكم. وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم. من ضربك على خدّك فاعرض له الآخر أيضاً، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضاً."(31) لقد صلّى المسيحيون من أجل الذين كانوا يعذِّبونهم، وساروا الميل الثاني الرمزي بفرح إطاعةً لربّهم.(32) كانوا يعلمون أنهم سيكافأون على إخلاصهم. فالمسيح صرّح بالقول: "طوبى للمطرودين من أجل البِر. لأن لهم ملكوت السموات. طوبى لكم إذا عيّروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا. لأن أجركم عظيم في السموات."(33)
لقد اختبروا التعزية في أحزانهم وأوجاعهم. وملأ روح الله قلوبهم بالبهجة وبالسرور المتّقد الملتهب الذي أعطاهم الجرأة والثقة. كما أنهم اكتشفوا في أوقات الحاجة والعوز كيف أن الرب يسوع، العبد المتألم، يقترب أكثر من عبيده المتألمين. هذا وإنهم لم يذكروا في تبشيرهم عن قوة الله التي لا تُقاوم، على قدر ما تكلّموا عن تعزياته الدافئة، وعن محبته الثابتة وحنانه من نحو الضعيف والمنسحق. لقد كانوا على حق. هذا لأن المسيحية لا تكرز بإله بعيد، يكتفي بفرض مراسيم باردة ناشفة وإصدار أحكام صائبة، لكنها تقدّم أباً محباً يبحث عن الخطاة لكي يخلّصهم. فالإنجيل لا يتحدث عن الله الذي يُلبس الأقوياء مجداً، بل عن الله الذي يملأ قلوب المتواضعين بالفرح والسرور. "أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتّضعين، أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين."(34)
كان تصرّف المسيحيين في قاعة المحكمة وفي الميدان مدعاة باستمرار لاندهاش الجموع المحتشدة. وحتى لو جُنِّبوا الموت، يبقى أن شهادتهم المخلصة كانت إنجازاً مقتدراً وانتصاراً بحدِّ ذاتها. كان الاعتراف العلني بالإيمان بالمسيح جزءاً من دعوة الله للكنيسة في كرازتها بالإنجيل للعالم، وفرصة يجب انتهازها بأي ثمن. كان الوثنيون يسجنون المسيحيين في الزنزانات، ويعرّضونهم للوحوش الكاسرة، ويأتون بهم مقيّدين بالسلاسل والحديد ليقفوا أمام الحكّام والولاة، وبالرغم من كل هذا، لم يكن المسيحيون يتصرفون بعدم لياقة، أو يُظهرون سخطهم على الحكام، ونادراً جداً ما كانوا يخافون أو يرتعبون. بل عوضاً عن ذلك، كانت جلسات المحاكمة هذه تتّسم بموقف الشكر الهادئ لله، وبتعبير راسخ عن الثقة به تعالى كمن يمسك بيده زمام كل شيء. لقد علموا أن القضاة، ليسوا إلاّ أدوات يحرّكها الله الأزلي بيده الحكيمة بموجب إرادته. ألم يخاطب الرب يسوع بيلاطس البنطي بالقول: "لم يكن لك عليّ سلطان البّتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق؟"(35) كان هذا الوثوق المطلق بالله تعالى وبتحكّمه بجميع الأشياء، هو الذي ألهم المؤمنين الصبر والسلوان، ومنحهم التصرّف الجليل الوقور الذي كان مؤثراً للغاية ومثيراً للإعجاب حقاً، كما ورد في السجلات ومحاضر الدعاوى القضائية، لقد كانوا شجعاناً في وجه التهديد والوعيد، لطفاء مع أعنف معذِّبيهم وأشرسهم، وقد تقبّلوا المعاناة والآلام بفرح عظيم، على اعتبار أنها الطريق الذي عيّنه لهم الرب لقيادتهم إلى المجد في ملكوته السماوي العتيد.
لقد تأثّر المشاهدون تأثراً عميقاً بكل ما تقدّم. ولدينا شواهد صحيحة ومتحقّق منها عن وثنيين أدركوا حقيقة الإنجيل، وصمّموا على إتّباع المسيح في اللحظة نفسها التي كانوا يشاهدون فيها المسيحيين، رجالاً ونساءً، يدانون ويموتون من أجل القضية المسيحية.(36) كذلك كان هناك بكل تأكيد عدد أكبر من الناس، من وثنيين ويهود، تحركت مشاعرهم في العمق بما رأوا وما سمعوا، وقد حصلوا من جرّاء ذلك على انطباعات مفعمة بالحيوية، قادتهم مع مرور الوقت إلى الإيمان عينه. كتب ترتوليانوس إلى الحكام الرومان: "لا تنفعكم شراستكم شيئاً، مع أنكم تزدادون براعةً وإبداعاً في التعبير عنها، إنها لمن الأمور التي تجذب الناس إلى جماعتنا. لأنه كلّما أمعنتم في قهرنا وسحقنا، ازداد عددنا." وبعد هذا ينطق ترتوليانوس بذلك التحدّي الرائع الممتاز، الذي دخل في تراثنا المسيحي عندما قال: "إن دماء المسيحيين هي بذار. يحثّ الكثير من فلاسفتكم الناس على التحلّي بالصبر لاحتمال الآلام والموت... ومع ذلك فإن كلماتهم هذه قد استقطبت حولهم عدداً من التلاميذ أقلّ من أولئك الذين علّمهم المسيحيون بقدوة أعمالهم. هذا العناد نفسه الذي تعيّروننا به، هو الذي يُظهر لكم وجه الحق. فمن ذا الذي لا يتحرّك للبحث عن السبب الذي يقف وراء صمودنا العنيد بعد أن يراه، ومن ذا الذي لا ينضم إلى إيماننا بعد تقصّيه له، ومن ذا الذي لا يرغب في المعاناة بعد انضمامه إلينا، حتى يتسنّى له أن يربح نعمة الله كلّها؟... من أجل هذا، نحن نشكركم على حكمكم علينا في الوقت عينه الذي فيه يصدر هذا الحكم. ثمة تباين كبير بين ما لله وما للإنسان، حتى إنه عندما تُدينوننا، يقوم الله بتبريرنا."(37)
لقد كانت دماء الشهداء بذار الكنيسة فعلاً. فأبواب السجون كانت محاطة بحشود الصحابة والأصدقاء، وجميعهم مملوؤن غيرةً لزيارة إخوتهم وأخواتهم المقيّدين بين جدرانها. كانت الاستجوابات العمومية في المحاكم الرومانية ناجحة، بشكل ليس له مثيل، في نشر رسالة الإنجيل بشمال إفريقيا. كما أن مقابر الشهداء أصبحت مواقع مفضّلة لعقد الاجتماعات المسيحية. والكنائس استقت أيضاً قوّتها وتشدّدها من القدوة الملهمة لأبطالها وبواسلها. لقد كانوا يحتفلون كل سنة بذكرى اليوم الذي فيه تألم هؤلاء الأبطال على اعتبار أن هذا اليوم هو يوم مجدهم. كان المسيحيون يشجعون الكنائس من السجون ويقدّمون لها نصائح عديدة، وكانت أقوالهم تُعتبر كأنها إلهامات أوحى بها إليهم الله ذاته. وقد رحّب كثيرٌ من الناس بما كان يحصل عليه هؤلاء المؤمنون السجناء من أحلام ورؤى، واعتبروها صادرة من عند الله. كانت روايات الشهداء المكتوبة، أكثر المؤلفات شعبية عند الكنائس الأولى. لقد ازدهرت الجماعات المسيحية ونمت بقوّة، من جراء الأحزان والأوجاع عينها التي كان القصد منها تحطيم هذه الجماعات.
فما هي الخلاصة التي نستطيع أن نستنتجها من هذا التصرّف الرائع عند مواجهة الاضطهاد؟ إن القسوة والضراوة التي تعامل بهما الحكام الرومان مع الإيمان المسيحي لم تستطيعا سحقه، بل جعلتاه أكثر شعبية. لم تُمحَ الكنائس أو تُزال من الوجود لكنها نشطت وتعزّزت. فلِمَ حصل ذلك؟ علينا أولاً أن نتذكر أنه، مع حلول القرن الثالث للميلاد، كان المسيحيون قد أصبحوا يشكّلون أقلية عددها محترم في المدن في إفريقيا الشمالية، كما أنهم كانوا الأغلبية في بعض المناطق. كانت هذه المقاومة الجريئة للسلطات أسهل حينما يكثر عدد المسيحيين جداً. ولم يكن باستطاعة الحكام أن يلقوا القبض عليهم جميعاً ويبيدوهم: لم تكن السجون تكفي لاستيعاب هذه الجماهير الغفيرة، ولو فعلت الحكومة ذلك، لتوقفت نشاطات الحياة العامة في البلاد وجمدت تماماً. كان على نسبة معيّنة من الذين احتشدوا لتقديم الإكرام علناً للشهداء، أن يكابدوا عقاباً على فعلهم هذا، إلاّ أن الكنيسة، ككلّ، كانت في أمان من الإبادة. ومقابل كل مسيحي يقبع مسجوناً في داخل زنزانته، هناك مئة آخرون خارج السجن، وجميع هؤلاء متشوّقون إلى مؤازرته ومساندته في ساعة الشهادة والمجد، وأيضاً إلى تكريم ذكراه بعد ذلك.
ولا ريب في أن النمو الراسخ لجماعة المسيحيين في السنوات التي سبقت الأزمة، يشكّل المفتاح لتفسير جرأة هذه الجماعة وقدرتها على الصمود والبقاء حين نزلت بها النوائب. لقد استفادت الكنائس من السلام والحرية المتوافرين لها، إذ اشتغلت جدياً ما دام ضوء النهار مشرقاً. وقد أصبح لديها الآن، كما كان حال يوسف في مصر، مصادر فسيحة واسعة من المختزنات الروحية، تكفيها لسنوات القحط والجوع. كذلك كان عند المسيحيين، وعلى غرار العذارى الخمس الحكيمات، مقدار كافٍ من الزيت لإنارة مصابيحهم، وهذه المصابيح كانت مضيئة، ومجهّزة أفضل تجهيز وأكمله لتشع بلمعانها في أحلك الليالي.(38)
وعليه فإن التاريخ نفسه يُظهر لنا، وحتى من وجهة النظر البشرية، كيف أن القوى العاملة لصالح الكنيسة كانت أعظم من القوى المنظمّة ضدّها. والمسيحيون كانوا يتمتّعون بتأكيد راسخ بالانتصار، وذلك بفضل اقتناعهم بصحة الإنجيل وببطلان الوثنية. بالمقابل، لم يكن عند الوثنيين أية ثقة مماثلة بديانتهم. كان الوثنيون يخجلون من سخافات ديانتهم ومن فسادها الخلقي، وأما تمسّكهم بها فهو لأنهم قد تعوّدوا عليها ولأنها كانت أساس علائقهم. إن سلاح الافتراء الذي طالما استعمله الوثنيون ضد المسيحيين في الأيام الأولى، سقط عاجزاً ضعيفاً على أرض المعركة، عندما أظهر الشهداء، وعلى مرأى من الجميع، أيّ نوع من الإيمان كان عندهم. لم تستطع الوثنية أن توحي بمثل هذه الاستقامة الخلقية أو الإقدام والصبر والعزيمة الشخصية. وأكثر من هذا، فقد كانت تعجز عن إلهام معتنقيها بالرجاء العظيم، وبتأكيد الخلاص والحياة الأبدية، الوعود التي كانت تؤازر المسيحيين وتثبّتهم إلى آخر ساعات حياتهم. لم يكن بوسع الوثنية أيضاً أن تضاهي المسيحية لجهة شركة المحبة، علامتها المميّزة، متخطّية بذلك التمييز البغيض بين الناس، على أساس الطبقة الاجتماعية والثقافة والعنصر، العوامل التي كانت تُفسد الجماعات الوثنية.
وبالطبع، لقد عمل الاضطهاد على ضمّ الجماعات المسيحية بعضها إلى بعض، وأصبحت الفروقات القديمة طيّ النسيان خلال فترات الحرمان المشتركة. وكلّما كان يُتلى أي مرسوم من المراسيم الإمبراطورية، كان يعني ذلك أن الضربة قد تسقط على أي واحد من أعضاء الكنيسة من دون أي تمييز. عند ذاك كان المؤمنون يسارعون فوراً لزيارة بعضهم بعضاً للتشجيع، والحث على الصمود. وما إن يعلموا بخبر إلقاء السلطات القبض على أيّ من أعضاء الكنيسة، حتى كانوا يقومون بحشد طاقاتهم، ولملمة شملهم لأجل تنظيم زيارات دورية إلى السجن، لسدّ أيّ نوع من احتياجات زميلهم، ولمؤازرته وشدّ عزيمته في الإيمان. كانوا يفسّرون له الكتاب المقدس مادحين إيمانه، وممجّدين مدى عظمة مهمته الإلهية، وهم يبذلون كل ما في وسعهم لمساعدته على إكمال النصر على طول أرض المعركة الممتدّة أمامه. كانوا يصلّون لأجله بحرارة، كما أن غيرتهم هذه لم تكن أقل عندما كانوا يُصلّون معه. وفي يوم المحاكمة كانوا يحتشدون بعدد كبير، مالئين قاعة المحاكمة، أو في الساحة العامة، لكي يقدّموا لأخيهم دعماً معنوياً، ويصلّوا لأجله أيضاً، وللاستماع إلى آخر كلماته، ولكي يحتفظ بشجاعته وإقدامه ولا يضعف. إن أولئك الذين اختيروا للوقوف أمام الجماهير المحتشدة، كان يُنظر إليهم كجنود المسيح، وكأبطال الجماعة المسيحية. وإذ كانوا يشهدون لحق الإنجيل، كانوا في الواقع يقّرون أيضاً بمدى قوّة مجموعتهم المسيحية وإيمانها. فالشهيد كان يمثّل الكنيسة التي ينتمي إليها، وبطولة الواحد كانت تنعكس إيجاباً كشرف للجميع.
لم يكن الأبطال الحقيقيون في الكنيسة الأولى في إفريقيا الشمالية من وعّاظها العظماء، أو من صفوف علماء اللاهوت اللاّمعين فيها. إن الرجال والنساء الذين كانوا يُذكرون بحب عميق والذين يُتحدث دائماً عن مآثرهم بولاء مفعم بالمحبة، كانوا في الواقع فقراء بأمور هذا العالم، ولكنهم كانوا أغنياء بإيمانهم. قال صموئيل برنكل (Samue Brengle): "إن إحدى كبرى مفارقات التاريخ، هو التجاهل والاستخفاف التام بالرتب والألقاب في الأحكام النهائية التي يمرّرها الناس بعضهم على بعض. إن التقدير النهائي للرجال يُظهر بأن التاريخ لا يهتم، ولا حتى بمقدار ذرّة واحدة، بالرتب والألقاب التي يحملها المرء، ولا يأبه حتى للمناصب التي كان يتبوّأها، ولكنه يهتم فقط بنوعية أعماله وطبيعة عقله وقلبه. نحن لا نزال نتذكر حتى اليوم فيليستاس و سبيراتوس و كلرينوس بأطيب الذكريات وأحبها، بينما أسماء الأرستقراطيين المتغطرسين الذين نطقوا على هؤلاء القديسين بحكم الموت، أصبحت في طي النسيان. وقد قال المسيح بحق: "ولكن، كثيرون أوّلون يكونون آخرين والآخرون أوّلين."(39)
حواشي الفصل:
1- (يوحنا 8: 12)
2- بالإشارة إلى (المزمور 40: 2)
3- (أعمال 9: 15و16)
4- 1 (تيموثاوس 6: 13)
5- (مرقس 13: 9- 13)
6- Apologeticus 21
7- (متى 10: 32)
8- 2 (تيموثاوس 2: 11و12)
9- De Oratione 5
10- (رؤيا 22: 20)
11- (متى 24: 42)
12- (يعقوب 5: 9)
13- 1 (تسالونيكي 5: 2و3)
14- (مرقس 13: 7و8، 19)
15- De Anima 33
16- (رؤيا 17: 14)
17- (فيلبي 2: 10)
18- De Spectaculis 30
19- (لوقا 21: 28)
20- (مرقس 13: 24-27)
21- (رؤيا 20: 4) يعتبر بعض العلماء أن سِفر الرؤيا قد كتبه "يوحنا آخر" إلاّ أن البرهان على صحة هذا
الرأي غير متوافر.
22- (رؤيا20: 6). راجع (Schaff HOTCC Vol. II p. 83)
23- (رؤيا 20: 5)
24- (رؤيا 20: 2، 7و8)
25- 2 (بطرس 3: 7-13)
26- (Schaff HOTCC Vol. II p. 589 – 620) يبحث الأفكار المتنوعة التي كانت عند
اللاهوتيين المسيحيين الأوائل بشأن علم الأمور الأخيرة.
27- (غلاطية 4: 8و9، 5: 1)
28- 1 (كورنثوس 10: 20و21)
29- Frend pp. (94 – 95)
30- (لوقا 6: 27- 29)
31- بالإشارة إلى (متى 5: 41)
32- (متى 5: 10- 12)
33- (لوقا 1: 52- 53)
34- (يوحنا 19: 11)
35- Neill pp.(43 – 44)
36- Apologeticus 50
37- بالإشارة إلى (تكوين: 46-57)، (متى 25: 1-13)
38- مقتبسة (Oswald Sanders Spiritual Leadership p. 13)
39- (مرقس 10: 31)
- عدد الزيارات: 3009