المقدمة
إن المسيحية جزء أساسي من تراثنا الديني والثقافي في شمال إفريقيا. فقد عرف الناس، في هذه القارة، طريق المسيح وأحبُّوها زمناً طويلاً قبل أن تصل تعاليمُه إلى أوروبا الغربية وأمريكا والشرق الأقصى.
ففي مدة لا تتجاوز الخمسين سنة منذ أن ألقى المسيح الموعظة على الجبل، ترسَّخ الإنجيلُ في شمال إفريقيا كإيمان غير محصَّن لأقليَّة مضطهدة. وخلال قرنين ونصف، سمع سكان هذه البلاد إنجيل المسيح واستجابوا له لا بتأييد من السلطة الرومانية، بل على الرغم منها. والواقع أنَّ الحكَّام والقضاة الرومانيين عملوا كلَّ ما بوسعهم للضغط على الإيمان، وتدمير قادته، ولجر أتباعه إلى المعابد الوثنية. كما سُنَّت على أعلى المستويات سلسلة جازمة من القوانين القاسية على يد مجموعة متتالية من الأباطرة الطغاة الذين كانوا يهدفون إلى محو المسيحية من على البسيطة.
وإنه لمن المثير أن كنائس شمال إفريقيا، في سنوات الاضطهاد، لم تزدد إلاّ ازدهاراً ونموَّاً. لقد كان إيمانها صلباً وشهادتها السلمية للناس والمحيطين بها فعالة بدرجة جعلت الجزء الأكبر من تونس وكثيراً من الجزائر وأجزاء كبيرة من ليبيا والمغرب تُعرف في القرن الثالث بأنها مسيحية.
لقد كان المسيحيون الأوائل في شمال إفريقيا متميِّزين عن الطوائف الكاثوليكية والبروتستانتية المعاصرة كليهما. فهم، بكل بساطة، كانوا متشبثين بالتعاليم الأصلية للمسيح نفسه وكتابات أتباعه الأوائل التي تواترت من الأجيال الأولى وجُمعت في الكتاب المعروف "بالعهد الجديد". وكان سرُّ نجاحهم هو أسلوب حياتهم الجديد المبنيُّ على المبادئ النبيلة للمحبة والأمانة واللطف مع جميع الناس. كما أنه كان لديهم رجاء قوي في وعود الله لهم بأن هناك حياةً وفرحاً وراء ظلمة القبر.
وسنرى في هذه الصفحات ما كان أسلافنا يؤمنون به بكل قوَّة، والآثار الرائعة لذلك الإيمان في المجتمع الأول لشمال إفريقيا.
- عدد الزيارات: 3351