الفصل الأول: الإسلام، طائفة نصرانية لا دين جديد
لا يمكن الكلام في تاريخ المسيحية العربية بعيداً عن الإسلام العربي. فقد خلّفت المسيحية آثاراً مهمة في تاريخ العرب لم تمحها الأزمان ولم يعف عليها الدهر، كما وتركت ختمها العميق في نشأة الإسلام وحياة وتعاليم رسول المسلمين نفسه. وتأثيرها في الإسلام تلون إلى حد بعيد باليهودية، بسبب تغلغل هذه الديانة في كافة مناطق الجزيرة العربية، لاسيما يثرب، وخيبر، وتيماء، واليمن. فصبغت الجزيرة بصبغة يهودية بلغت قبائل كثيرة من العرب، منها قبائل يهودية استعربت كالنضير وقريضة وقينقاع، ومنها قبائل عربية تهود بعضها كحمير وكندة وكنانة.
لم يأتي نبي المسلمين من خارج هذا المحيط العربي، بل أنه ولد فيه وشب على عاداته وتقاليده واستقى من الأفكار الدينية اليهودية والنصرانية التي تشبع بها مجتمع شبه الجزيرة إلى أن جاءته الدعوة. والدعوة ذاتها قامت في الأصل على ما رآه بعض النصارى من دور ديني لمحمد، كما وتثبتت على ما استنبطه محمد نفسه من كتب أهل الكتاب.
إنّ الرهبان الذين تنبؤا بقدوم محمد، إن صحت الروايات الإسلامية في هذا الشأن، لا يعقل أنهم تشوقوا إلى دين جديد يتنافى مع دينهم، أو انتظروا نبياً يخالف معتقداتهم ويطغي عليهم ويضعهم بين فكي الكماشة، إما الإسلام أو السيف، بل أن الأوضاع السائدة آنذاك استدعت انتظار زعيم مصلح يحفظ ما تقدمه من أديان ويعمل على توحيد أحزاب اليهود والنصارى المتناحرة، ويضم إلى عبادة الله الواحد من نال منهم التشويش الديني.
كانت الأحزاب والفرق الدينية التي انتشرت في جزيرة العرب آنذاك قد ولدت آراء دينية غامضة تصلبت في شكل طقوس دينية، "كان لها مؤثرات هامة هيأت لقيام زعيم ديني قومي كمحمد".[93] وهي الحالة التي قال فلنهاوزن بأنها: "تفشت في كل الجزيرة العربية حتى سيطرت على بعض الأشراف. فالأرض كانت ممهدة لقدوم الإسلام".[94] ويقول جرجس سال: [95] "إن بلاد العرب كانت وقتئذ غاصة بشعوب وأمم عديدة مختلفة يتفرقون في بيداء ضلالهم بلا هاد يهديهم، وجلهم عبدة أوثان وباقوهم يهودا ونصارى من أهل البدع. فتوخى محمد أن يجمعهم على معرفة إله واحد".
أدرك محمد دوره جيدا وارتضى بمسؤولية النبي المصلح ولم يرى بداية أنه مؤسسا لدين جديد. لقد فطن إلى ضرورة التوفيق بين الفرق النصرانية المنحرفة وسعى بكل جهده إلى تأسيس طائفة دينية تجمع تحت جناحيها فراخ النصرانية واليهودية المنقسمة المشتتة. إنها دعوة انحصرت في إطار التوحيد وجمع الشمل، وقد تجلت طبيعتها في القول القرآني "أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" وإذ استجاب محمد دعوة الله هذه، قال: "لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون". [96]
وصف نولدكه الإسلام بأنه "الصيغة التي دخلت بها المسيحية إلى بلاد العرب كلها".[97] يوافقه في ذلك جملة من البحاث، منهم هشام جعيط بقوله: "وإذ استجاب النبي للنداء المسيحي في جوهره... يصح اعتبار الدعوة المحمدية صيغة
-------------------------------
93 - العرب ، تاريخ موجز، فيليب حتي، ص 31
94 -
Julius Wellhausen, zit. Karl Jaros in "Der Islam" Hess, Bad Schussenried, 1997"Die Situation der Christen auf der arabischen Halbinsel" S.3
95 - مقالة في الإسلام ، جرجس سال، ج 3 ص 16
96 - أبو موسى الحريري "قس ونبي"- النصرانية والإسلام ص 116
97 - تاريخ القرآن، تيودور نولدكه، الترجمة العربية ص 8
عربية للتوحيدية وللتراث التوحيدي العتيق ... وهكذا رجع القرآن إلى أصوله الحضارية – العالم الروماني المسيحي – بعد أن اكتسى ثوبا عربيا".[98] ويقطع الأب جوزيف قزي الشك باليقين، فيقول: "يبدو إذا، وبهذا الوضوح التام، إن
المسلمين هم النصارى الذين توحدوا في أمة واحدة، أمة مقتصدة، أمة وسط، وذلك بعد تفرقهم وتحزبهم. ويبدو أيضا بالوضوح نفسه، أن الإسلام هو الاسم العربي للنصرانية، أي للطائفة التي آمنت من بني إسرائيل وأيدها النبي في إيمانها على التي كفرت".[99]
لم تكن نظرة المسيحية في الإسلام بالأمس تختلف عنها اليوم. ولم يستغرب المسيحيون مجيئه في زمن اكتظ بالانقسامات المذهبية وتفشي البدع وظهور الهراطقة على المسرح الديني. وعند ظهوره كان الإسلام عندهم "أقرب إلى طائفة يهودية – مسيحية منه إلى دين جديد... فقد اعتبر يوحنا الدمشقي محمداً هرطوقياً، لا مؤسساً لدين جديد ... وقد كان يقول لخصومه المسلمين: "عندما تدعوننا مشركين ندعوكم مشوّهين".[100]
تشهد الأخبار على وجود نصراني عام طغى في مكة واخترق قبيلة قريش ذاتها، وهي التي وكل إليها العناية بالكعبة، بل وتدل المصادر على تغلغل النصرانية في عشيرة الرسول العربي، من جده إلى والده، وأعمامه، وأقربائه ومعارفه. يأتي الشيخ خليل عبد الكريم في كتابه المشهور"فترة التكوين في حياة الصادق الأمين" إلى ذكر بعض نصارى قريش. فيقول: "إذن فاز بنو أسد بسهم وفير من بين فروع قريش بصفة الأنتلجنتسيا فكان من بينهم ورقة بن نوفل والبطرك عثمان بن الحويرث و الطاهرة و سيدة نساء قريش خديجة بنت خويلد".[101]
أما ورقة بن نوفل وابنة أخيه خديجة فهم أقرباء لمحمد، ويلتقي نسب ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي بنسب الرسول العربي في جد جده. والفرع المنحدر من عبد العزى هو الفرع المتنصر من قريش والذي أهملت ذكره المصادر الإسلامية. وقد أجمع الرواة على نصرانية ورقة، كما دلت عليها أشعاره، غير أن نصرانية ورقة تختلف بشكل كبير عن مسيحية أورشليم وأنطاكيا، وهي صورة مشوهة للمسيحية، عرفها العرب في وسط الجزيرة، وخلقتها مؤثرات انبعثت من بدع ومذاهب مسيحية ويهودية ووثنية.
بناءاً عليه ذهب البعض إلى الاعتقاد، أن عرب مكة والمدينة وسادة قريش، الذين اعتنقوا المسيحية وصاروا من أتباعها، لم يأخذوا المسيحية الحقيقية، وإنما أخذوا النصرانية التي عُدَّت بدعة، [102] وأن نبي العرب لم يخالط خلال حياته سوى أتباع المسيحية الزائفة. لذا يستوجب عدم الخلط بين المسيحية العربية التي سادت شرق وجنوب الجزيرة وبين نصرانية مكة وقريش. ففي الشرق والجنوب كانت المذاهب الغالبة هي نسطورية يعقوبية، وهذه المذاهب، بغض النظر عن تأثرها بالجدل الفلسفي في طبيعة المسيح، كانت تؤمن بلاهوت المسيح وبموته وقيامته وبعصمة الكتاب المقدس ولا يمكن بحال من الأحوال مقارنتها بنصرانية وسط الجزيرة.
--------------------------------
98 - تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، هشام جعيط، 164 – 165
99 - قس ونبي، ص 116
100 - تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، فيليب حتي، ج 2 ص 143 – 144
101 - فترة التكوين في حياة الصادق الأمين، خليل عبد الكريم ص 10
102 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي، الفصل 79
- عدد الزيارات: 431