Skip to main content

الفصل الثاني: التكوين يسبق الوحي

إنّ المتأمل في حياة محمد بن عبد الله على أساس تاريخي مادي محض، وضمن منطق الأحداث، وبعيدا عن الأسطورة العاطفية، لن يرى فيه سوى ذاك القريشي الذي تعلم وتتلمذ لسنوات طويلة على يد أسقف نصارى مكة، القس ورقة بن نوفل.

ولا بد للباحث الأمين في تاريخ محمد قبل بعثته، التاريخ الذي يُعرَّفه البعض بـ "فترة التكوين"، أن يصل إلى الاستنتاج، بأن المحرك الأساسي في حياة محمد وتطلعاته الدينية، والمكتشف لمواهبه وقدراته، والمحرض له على تسلق سلالم القيادة والشهرة كانت خديجة بنت خويلد، ابنة أخو القس ورقة.

من الغريب، أن السيرة النبوية تضرب صفحا عن خمسة عشر عاما في حياة محمد تمتد من زواجه بخديجة إلى بعثته، وهذا ما يزيد الباحثين يقينا، بأن هذه الفترة المعتمة في المصادر الإسلامية كانت للمخاض الداخلي وللنهل من المعرفة. فلا يمكن لشاب كمحمد أن يتجه للبحث اللاهوتي دون تهيئة مسبقة وتأثير يولد لديه هذا الاهتمام. إنها حقائق تاريخية هامة في حياة "النبي" لا نغفل عنها ولو تنكر لها المسلمون، وهي عند البعض فرضيات لا مناص منها وعند البعض الآخر من المسلمات.

وإنه لمن المستحيل على أهل العلم أن يزجوا بهذا الأمر في خانة الفرضيات المحتملة بسبب ما للمسيحية من وزن وجاذبية في المحيط الذي وجد فيه محمد، وهذا ما يدعونا، مع نولدكه أن "نأخذ بعين الاعتبار التأثير المسيحي على النبي"،[103] ويقودنا لنرى مع الأستاذ جعيط صعوبة أن لا يكون محمد قد تأثر بنصرانية القس ورقة  "إذ لابد من وجود مثل هذه التأثيرات... ولا مناص من هذه الفرضية إذ لا يمكن فهم تأثيرات مسيحية الشام على الرسول لو لم تجد صدى مسبقا في النفس".[104]

لكننا ننوه، أن مسيحية الشام لم تكن هي المؤثر الأساسي في فكر محمد رغم اتصاله ببعض رهبانها. فهذه المسيحية كانت ملكانية يعقوبية نسطورية، وأن ألوهية المسيح وحقيقة الثالوث الأقدس وعقيدة الفداء هي من المسلمات عند كافة الفرق المسيحية في بلاد الشام. ولمّا كان محمد قد أنكر هذه المعتقدات جملة وتفصيلاً، لا يجوز القول بتأثير مسيحية الشام عليه. ونوعز بالفكر، أن دمشق هي المركز الذي اتصل فيه المسلمون للمرة الأولى بالفكر المسيحي النقي، وذلك بعد الفتح. أما ما عرفوه قبل ذلك فجاءهم عن طريق الهراطقة وكتبهم المنحولة.[105]

لعل القول الأوضح في هذا الشأن نجده عند الأب جوزيف قزي، الذي يشدد على المصدر الأساسي للمعرفة المحمدية قبل البعثة. فيقول: "ولسنا نجد في مكة، في أيام النبي محمد، غير القس ورقة يلازم محمدا طيلة أربع وأربعين سنة ... هناك تدرب النبي على يد القس الخبير بشؤون الله والناس". [106]

ذهب الشيخ خليل عبد الكريم  بشكل شبه صريح إلى أن خديجة بنت خويلد وابن عمها ورقة قد أشرفا على إعداد محمد دينيا وفكريا، وعليه يفهم المرء أن ما ورد بقرآن محمد، عن نفي ألوهية  المسيح  وبنوته  لله  لم يكن من الصعب على

---------------------------------

103 -  تاريخ القرآن،  تيودور نولدكه، الترجمة العربية ص 8

104 - تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، هشام جعيط، ص 152 – 154 و 162

105 - المسيحية والحضارة العربية، الأب الدكتور جورج شحاتة قنواتي، ص 96

106 - قس ونبي، أبو موسى الحريري، ص 34 و41 هوية القس ورقة

محمد أن يعرفه أو أن يقول به في غياب وحي مزعوم وهو قريب الصلة جدا، برجل نصراني أبيوني مثل ورقة. وحول دور ورقة وخديجة في تهيئة محمد يقول: "دور لا نجد له في تاريخ الأديان مجرد شبيه. ملحمة خالدة سلخت من عمر الطاهرة والقس عقدا ونصف عقد من الزمان في الإعداد والتصنيع والتهيئة والتأهيل ... وحدثت واقعة "غار حراء". [107]

لمّا بلغ محمد الأربعين من عمره أتاه "الوحي" في غار حراء عند مكة، وما أن وصل الخبر لخديجة ومنها لعمها القس، صاح هذا الأخير: "قدوس قدوس، والذي نفس ورقة  بيده، لئن كنت صدقتيني يا خديجة  لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة". [108]

إذا، التعليم والتدريب ونهل العلم والمعرفة ثم الوحي. وإذ سبق التعليم الوحي،[109] كان للتعليم أهمية أكبر في تكوين شخصية محمد ورسالته. وربما شعر بعض كتبة الأحاديث والسيرة النبوية بهذا الدور الخطير الذي لعبته فترة التكوين في حياة محمد وما كان للقس ورقة من تأثير وسلطان على توجهات محمد وخطابه الديني، فأعلنوا عن هذه الحقيقة بالقول الشهير: "ولم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحي".[110] وهنا إشارة صريحة إلى جفاف أهم ينابيع المعرفة التي كان محمد ينهل منها وانقطاع صلته بمصادر "الوحي النصراني"، مما تسبب في إغراق "النبي" في اتجاهات فكرية تناقضت مع ما تعلمه وتتلمذ عليه.

من خلال ما تقدم نستطيع أن نستشف الدور الكبير الذي لعبته خديجة بنت خويلد وعمها القس ورقة في اختيار نبي أمة العرب بعد أن قرأوا و درسوا و تمعنوا في كتب اليهود و النصارى وبعد أن قامت خديجة المثقفة و العالمة بأحوال مجتمعها بدراسة متأنية و تمحيص و تدقيق، اختارت و قررت و دعمت و أعلنت للعرب، أن "محمد هو نبي هذه الأمة".

ويبقى السؤال لمن يرفض رؤيتنا للدور الذي رآه النصارى لمحمد: إن كان ورقة قد رأى في محمد نبياً ومؤسساً لدين جديد، لماذا مات على نصرانيته ولم يعلن إيمانه بإسلام محمد؟

-------------------------------

107 - فترة التكوين في حياة الصادق الأمين، خليل عبد الكريم ، ص 18

108 - السيرة النبوية، ابن هشام- مبعث النبي

109 - تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، هشام جعيط، ص 155

110 - صحيح البخاري بشرح الكرماني  1 : 38

  • عدد الزيارات: 382