مَن هوَ الكفؤ ليقود؟
قبل أن يتحمل الإنسان مسؤولية القيادة، يجب عليه أن يزن الأمور بتؤدة. "لا تكونوا معلمين كثيرين يا أخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم" (يعقوب 3: 1) فإن القائد يكون معرَّضاً للنقد القاسي الصارم أكثر من أتباعه. لذلك وجب علينا التفكير أمام هذا الوضع.
كما أن الجملة التالية في الإصحاح ذاته تؤدي إلى ما يتبع ذلك "لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا". إننا نعرف أنفسنا ونعرف أننا كثيراً ما نزلّ. إننا نتعثَّر بطرق كثيرة، وما دام الأمر كذلك فإننا بالطبع نتردَّد قبل أن نقرِّر القيام بقيادة الآخرين.
ومع ذلك فإن من الجليّ الواضح عند تحليل حياة كبار القادة أمام الله، أن هذا الشعور بعدم الكفاءة ليس بالسبب الكافي لرفض العمل، فنحن على كل حال خطاة أمام الله. إذ من منا يمكنه الإدعاء بأنه لم يخفق بطرق مختلفة، وفي مواقف عديدة؟ فإذا كان ذلك سبباً كافياً لعدم التقدم وتحمُّل مسؤولية القيادة، فلن يتمكن أحد من قيادة أحد.
دعنا نلقي نظرة على بعض القادة الذين اختارهم الله فيما مضى، وكيف كان ردّ الفعل لديهم عندما جوبهوا بالدعوة للقيام بواجب القيادة.
دعوة موسى:
أنظر إلى موسى عندما كان في الصحراء يرعى غنم حميه يثرون، عندما أتته دعوة الله. إن ما حدث هو أن ذلك الرجل الذي نال ثقافة عالية في مصر، والذي كان معتاداً على حياة الترف والرفاهية في مصر، أصبح يعمل عملاً حقيراً، الأمر الذي أذاقه مرارة الذلّ والهوان, كان رعي الغنم مهنة السذّج والجهلة. كان من الممكن أن يقبع موسى نادباً سوء حظه وما أحاط به من بؤس وتعاسة، فيفوته سماع الدعوة أو تلبيتها. ومما زاد الطين بلّة هو أنه كان يعمل لحساب حميِهِ.
وعندئذ حصل شيء غريب ورائع، فقد "ظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط علَّيقة، فنظر وإذا العلَّيقة تتوقَّد بالنار والعلَّيقة لم تكن تحترق" (خروج 3: 2).
وكان أوَّل ما فعله الله أن عرَّف عن نفسه لموسى، ولقد تأكد موسى أن الله كان يكلِّمه. إن هذا أمر يجب أن تتأكد منه في أعماق نفسك. إذ عندما يأتي إليك من يدعوك لتقوم بخدمة، بطريقة أو بأخرى، عليك أن تتأكد من أن هذا الموضوع يختصّ بالله. لا تتزحزح قيد أَنملة- سواء بالقبول أو بالرفض- حتى تتحقَّق من إرادة الله في الأمر.
قد تعرف أحياناً إرادة الله في الحال، وقد تنتظر توضيحاً من الله في مرّات أخرى, ولكن كن على ثقة من أن الله سيعرِّفك بإرادته. إن أبانا الذي في السموات قادر على الاتّصال بأولاده. الله سوف يثبت إرادته لك في المسألة. لا يريد لنا أن نعيش في حيرة وشك.
بما أن الله مهتم بما نعمل، فسوف يوضح لنا إرادته. لقد وعد بذلك "أعلّمك وأرشدك الطريق التي تسلكها، عيني عليك" (مزمور 32: 8). لاحظ ضمير المتكلم في هذه الآية العائد إلى الله إذ يظهر مرتين. فالإرشاد هو مسؤولية الله. التأكيد على الإرشاد هو القاعدة في الكتاب المقدس، كما هو التأكيد على الغفران. لاحظ أيضاً قول الله: "أعلّمك وأرشدك الطريق التي تسلكها". إنه يرينا الطريق للسير، إنه تأكيد مبارك.
هناك وعد آخر في (المزمور 48: 14) "لأن الله هذا هو إلهنا إلى الدهر والأبد، هو يهدينا حتى إلى الموت". إن كلمات هذا الوعد لا تخطئ أبداً "إنه سيكون هادينا". إذن يمكنك الاعتماد على إرادته وقدرته ليريك ما هي إرادته نحوك. وكما فعل موسى يمكنك التأكد من أن الله هو الذي يتكلم.
وما حدث بعد ذلك هو أن الله أوحى إلى موسى بما يتوجب عليه نحو شعبه. "فقال الرب إني قد رأيت مذلّة شعبي الذي في مصر، وسمعت صراخهم من أجل مسخِّريهم. إني علمت أوجاعهم" (خروج 3: 7). وتذكرون كيف كان موسى مثقلاً بأعباء المسؤولية عن بني إسرائيل عندما أخرجهم من تحت نير فرعون، وقد تشجَّع عندما علم أن الله نفسه مهتم بهم أيضاً.
وهنا صرَّح الله تصريحاً مثيراً "فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً" (خروج 3: 8). هل يمكنك أن تتصوَّر الفرح والابتهاج اللذين غمرا موسى في تلك اللحظة؟ إن الله الحيّ سوف يشارك في تخليص الشعب.
ثم أضاف الله تصريحاً أربك موسى. "فالآن هلمَّ فأرسلك إلى فرعون وتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر" (خروج 3: 10).
هل تتصوّر معي الأسئلة التي لا بد ازدحمت في فكر موسى؟ "لكن يا مولاي، ظننت أنك ستنزل وتخلِّصهم، فما الداعي إذن لأن أذهب أنا إلى فرعون، وأخرج أنا بني إسرائيل؟ ما دمت يا مولاي ستنزل أنت وتخلّصهم، فما الحاجة لذهابي أنا؟".
ثم أن ذلك سؤال هام، وعلى كلٍّ منا أن يجد الإجابة عنه في أعماق نفسه. وعندما نفهم أن الإنسان هو مركز الدائرة في إتمام الله لمخطَّطاته ومقاصده، حينئذٍ ندرك ما هو دورنا في ملكوت الله.
وهذا ما حدث مع موسى، فقد كان لدى الله عمل ليقوم به موسى، ومع ذلك لم يشعر موسى بأهليَّته للقيام بذلك العمل، فصرخ بسؤاله أمام الله: من أنا؟
وبالطبع لم يكن هذا سؤالاً تصعب الإجابة عنه. لأن من السهل على الله الإجابة عنه بكلمتين: "أنت موسى". ولكن السؤال كان غير ذي موضوع. ولذا لم يأبه الرب بالإجابة عنه.
وهنا يكمن أحد أكبر أسرار القيادة في مشروع المسيحية. وقال الله: "بالطبع سوف أكون معك". لقد كان الرب يريد إفهام موسى حقيقة جبّارة. وكأنه يقول "يا موسى، ليس مهماً من تكون، وإن كنت تشعر بأنك كفؤ أم لا، وهل أنت قادر على القيام بالواجب أم لا. من المؤكد أني سأكون هناك. وما قلته لك يبقى سارياً. سأنزل لأنقذهم. سأعمل ذلك، وسأعطيك الامتياز لتكون معي. ستكون الأداة التي يتم الإنقاذ بها".
في جميع الأحوال تذكَّر هذه الحقيقة عندما يدعوك الله لحمل مسؤولية القيادة في أعماله. إن الله لا يبحث عمن يشعرون بالكفاءة. قال بولس: "ليس أننا كفاة من أنفسنا أن نفتكر شيئاً كأنه من أنفسنا، بل كفايتنا من الله" (2 كورنثوس 3: 5).
إني متأكد من أن الشعور بالحاجة وعدم الكفاءة، يمكن أن يكون مصدراً للقوة بدلاً من نقطة ضعف، إذ أن شهادة بولس تعني ذلك. "فقال لي تكفيك نعمتي، لأن قوَّتي في الضَّعف تُكْمَل، فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل عليّ قوة المسيح. لذلك أُسرّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح لأني حينما أنا ضعيف فحينئذٍ أنا قويّ" (2 كورنثوس 12: 9 – 10).
إن بعضهم يُدهَشون من ذلك ويقولون: هل تعني أن بولس الرسول كان يشعر بذلك فعلاً؟ والجواب على ذلك هو نعم. وهذا بلا شك ساهم إلى حد بعيد في عظمته.
أما الدرس الثاني الذي نتعلَّمه عند النظر إلى دعوة موسى فإنه عظيم الأهميّة. من الصحيح أن نعي عدم كفايتنا، ولكن يجب ألاَّ نتوقَّف عند هذا، بل يجب أن نقتنع بكفاية الله المطلقة. وكانت تلك خطوة الله التالية في التعامل مع موسى.
وطرح موسى سؤالاً آخر. "ها أنا آتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. فإذا قالوا لي ما اسمه، فماذا أقول لهم؟" (خروج 3: 13).
وكانت إجابة الله عن ذلك السؤال إجابة رائعة. "وقال الله لموسى أهيه الذي اهيه. وقال هكذا تقول لبني إسرائيل: أَهيه أرسلني إليكم. فقال الله أيضاً لموسى. هكذا تقول لبني إسرائيل. يهوه إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم. هذا اسمي إلى الأبد وهذا ذكري إلى دور فدور" (خروج 3: 14 -15).
لقد كنت شاباً مسيحياً يافعاً، وقد ارتبكت بهذه الإجابة لمدة طويلة. ماذا عنى الله عندما عرَّف عن نفسه بقوله أنه "أهيه الذي اهيه"؟ إن أهيه هو فعل مضارع في العبرية ويعني "أكون"، وهذا هو أيضاً معنى اسم يهوه. إنه الكائن الدائم. يطلبه الإنسان فيجده. لقد كان، ويكون الآن، وسيكون إلى الأبد. إذا دعاك الله لتقوم بواجب معيَّن، تجد نفسك بحاجة لتعرف أن الله الذي يدعوك هو هو دائم الوجود لكي يدعمك.
والأهم هو أن شعورنا الدائم بالحاجة، يجعلنا دائمي التركيز على هذه الحقيقة. هل نحن في حاجة إلى تعزية؟ نسمع الرب يقول: أنا هو، أنا أَهيه. "ملقين كل همّكم عليه، لأنه هو يعتني بكم" (1 بطرس 5: 7). هل نحن بحاجة للانتصار على خطيئة تزعجنا؟ يجيبنا: أنا انتصاركم. "ولكن شكراً لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1 كورنثوس 15 : 57). هل نحن بحاجة إلى محبَّة؟ "الله محبَّة" (1 يوحنا 4: 8)، وهكذا دواليك بالنسبة لكل الاحتياجات. فإن الله هو الكفاية الدائمة الحاضر دائماً لسدّ جميعها. إنه الكائن الدائم الذي لا يخيِّب شعبه.
وعليه فمن الحق أن نُقِرَّ بعدم كفايتنا، ولكن يجب ألاَّ نتوقَّف عند هذا، وإلاَّ لوجدنا أنفسنا في مأزق. يجب علينا إذن الاستمرار لنقرّ بمقدرة الله وكفاءته وكفايته، لمجابهة أية تجربة وللتغلُّب على أية مشكلة ولإحراز أي انتصار. لقد احتاج موسى لبعض الوقت حتى أدرك هذه الحقيقة، بعد هذا استخدمه الله بقوة.
دعوة جدعون:
لكي نقوّي في أذهاننا هذه الحقيقة الضرورية المطلقة، المتعلقة بكفاية الله، دعونا ندرس حالة رجل آخر كان على وشك أن يدعوه الله. نقرأ عن المعارك الكبرى التي خاضها جدعون وخرج منها منتصراً. إنه، بحفنة من الرجال، دحر جيوش العدو وأرغمها على الفرار. فهل كان دائماً هكذا- مقداماً شجاعاً لامعاً باسلاً؟ لم يكن هكذا دائماً.
لقد كان بنو إسرائيل يتعذّبون تحت وطأة المديانيين، فقد كانوا يختبئون في الكهوف والمغاور في الجبال، وكان المديانيون يغزون أراضيهم فيجمعون محصولاتهم، ويستولون على مواشيهم. كان المديانيون يحلّون حلول الكارثة، ينتشرون كالجراد ويستهلكون كل شيء عند عبورهم الأرض. أما معضلة بني إسرائيل فكانت خطيئتهم. "وعمل بنو إسرائيل الشرّ في عيني الرب، فدفعهم الرب ليد مديان سبع سنين" (قضاة 6 : 1).
وفي إحدى الليالي، بينما كان جدعون يخبط حنطة في المعصرة لكي يهرِّبها من المديانيين. ظهر له ملاك الرب، وطلب منه أن يكون الأداة لكي يخلِّص الله بها شعبه من يد المديانيين.
وكان ردَ جدعون مما ألف الله سماعه: "فقال جدعون أسألك يا سيدي بماذا أخلّص إسرائيل؟ ها عشيرتي هي الذلَّى في منسىّ وأنا الأصغر في بيت أبي" (قضاة 6: 15).
ومرة أخرى تطرَّق الله إلى لبّ الموضوع مع الرجل الذي اختاره للعمل "فقال له الرب، إني سأكون معك، وستضرب المديانيين كرجل واحد" (قضاة 6: 16).
وهنا نستطيع ملاحظة التشابه مع ما قاله الله لموسى من وسط العلَّيقة المشتعلة. لقد قال الله لجدعون ما معناه: لا يهمّ إن كانت عشيرتك العظمى أو الذلّى في منسىَّ، أو كنت أنت الأكبر أو الأصغر في بيت أبيك. ليس المهمّ من تكون أنت، بل المهمّ أني سأكون معك. إن ما ستعتمد عليه ليس ضعفك بل قوَّتي، لأني سأعمل من خلالك.
إذن، إذا دعاك الله للقيام بواجب، وشعرت بالضعف والعجز، فلا تتحيَّر بل استبشر لأنك أصبحت برفقة الله. لقد شعر رجال الله خلال القرون الماضية الشعور ذاته، ولكنهم آمنوا بأن الله كفؤ للقيام بالعمل الذي دعاهم إليه.
دعوة إرميا:
هناك شخص أخر ينبغي أن نلقي نظرة عليه، في ما يتعلَّق بهذا الموضوع. إنه إرميا، أحد أنبياء الله الكبار. كان إرميا أميناً لدعوة الله، ولطالما تألَّم من أجل إيمانه ودعوته. ولكن كيف أتته الدعوة؟ وكيف تجاوب إرميا عندما ناداه الله وطلب إليه أن يحمل على عاتقه مسؤولية إرشاد شعب المملكة؟ دعونا نرى ما ورد في الكتاب. "فكانت كلمة الله إليَّ قائلاً، قبلما صوَّرتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدَّستك، وجعلتك نبياً للشعوب" (إرميا1: 4-5).
كانت مهمة النبي الأساسية أن ينادي بكلمة الله. فكيف أجاب إرميا عن هذا التحدّي؟ هل اغتنم الفرصة في الحال بإيمان وحماسة؟ لا، بل كان جوابه مماثلاً لجواب كل من موسى وجدعون، إذ قال "فقلت آه يا سيد الرب، إني لا أعرف أن أتكلَّم لأني ولد" (إرميا 1: 6). كان في جوابه الإقرار بعدم الكفاءة، ولم يشعر بأنه أهل للمهمَّة التي دعاه الله إليها.
وماذا كان ردّ الله على ذلك؟ لقد أجاب إرميا: "لا تَقُل أني ولدٌ، لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب، وتتكلَّم بكل ما آمرك به. لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك" (إرميا 1: 7- 8). وهنا يجب ملاحظة وعد الله "أنا معك". ومرة أخرى نرى بوضوح أن المهمّ هو أن الله موجود وحاضر مع المؤمن. إنه الإله الكلّيّ الحكمة والكلّيّ المقدرة والكلّيّ الكفاءة. وهو الذي سيكون إلى جانبه ليشدّ أزره. إن هذا ما يؤكّد عليه الله ويظلّ يردِّده.
وفي حالة إرميا بالذات، لم يكن وعد الله له جنة ملأى بالورود، بل أكّد له حضوره وحمايته وهدايته دائماً وأبداً. "فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك". (إرميا 1: 19 وانظر أيضاً 15: 20 و20: 11).
دعوات أخرى- في الماضي والحاضر
هل تذكرون آخر دعوة، بل آخر تكليف أعطاه الرب يسوع المسيح لأتباعه؟ "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" وأضاف إلى هذه المهمة التي كلفهم بها وعده العظيم "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 18: 19، 20). إن الله لا يزال يعطينا الأساس نفسه لخدمته بأمانة، كما أعطاه لقدماء الأبطال في الإيمان، والأساس هو: "أنا معكم".
دعيتُ قبل بضع سنوات لألقي كلمة خلال رياضة روحية في إحدى مدارس الأحد، وكان جيم رايبورن، مؤسس حركة حياة الشباب، يدرِّس طوال سنوات في صف الكبار للكنيسة المشيخيَّة في مدينة كولورادو سبرنغر. كانت مدرسة تلك الكنيسة تقوم بعمل رياضة روحية، وقد طلبوا من جماعة "الملاّحين" إرسال مُحَاضِر. وكان الأخ رود سارجنت وهو من وُجِّهت إليه الدعوة، غير قادر على الذهاب، فدعاني إلى مكتبه واقترح عليَّ أن أقوم أنا بتلك المهمة.
لقد جمدت، إذ ماذا أستطيع أن أقدِّم لصف يشرف عليه رجل مثل جيم رايبورن؟ إن صفاً يقوم بالتدريس فيه أحد رجال الله الكبار هو فوق مستواي. وخطر لي أن يكون ردّي على الإقتراح مثل القول "أنا ولد ولا يمكنني أن أتكلَّم". في ذلك الوقت كنت حديث الإيمان، ولم يمضِ عليَّ أكثر من سبع سنوات في معرفة الخلاص. ثم أن أكثر الموجودين في تلك المدرسة يفوقونني في السن وفي المعرفة. وعليه بدأت أحاول شرح الأمر والإعتذار، وطلبت من رود أن يجد شخصاً آخر يقوم بتلك المهمة.
جلس رود قبالتي ساكناً ينظر إليَّ دون أن ينبس ببنت شفة. وبعد فترة وجيزة تكلَّم قائلاً: "يا ليروي، هناك شيء لاحظته فيك، وهو رغبتك في السير في الطريق السهل وتجنُّب القيام بخطوة جريئة بإيمان وثقة". ثم طلب مني أن أفكر لبرهة وأصلّي حول الأمر.
وفعلاً فعلت ذلك، وعلى الرغم من أني كنت لم أزل أشعر بعدم الكفاءة تجاه ذلك الواجب، فقد ألهمني الله بالقبول. ولا أحتاج أن أقول أني هيأت نفسي قبل الصف بدرس مكثَّف وساعات من الصلاة بقدر ما استطعت.
وكم كان فرحي شديداً بإتمام الرياضة الروحية على ما يرام، ولقد أحسست فعلاً بقيادة الله وقوته المعطاة. وبذا علَّمني الرب درساً مفيداً خلال هذا الموقف كان أقل ما فيه تلك الحقيقة وهي أن عليَّ ألاَّ ألجأ إلى الموقف السهل. وكانت هذه التجربة مفيدة لي رغم قسوتها، ولقد شعرت بقيمتها سنين عديدة.
ثم هناك شيء آخر قد يستعمله الشيطان ليمنعنا من التقدُّم بإيمان والاستجابة لدعوة الله، وهو ما قد يكون في خلفيَّتنا وماضينا ويظل يساورنا ويزعجنا. قد نظن هذا عائقاً يضرُّ بالعمل ولا نستطيع التغلُّب عليه. لكن الكتاب المقدس يذكِّرنا مرة أخرى بخطأ هذا الظن.
كان بولس قبل إيمانه فظَّاً قاتلاً، وقد أمضى وقتاً طويلاً وبذل جهداً كبيراً في اضطهاد كنيسة الله. لقد اعترف بخجل فيما بعد وهو يصلّي: "إني كنت أحبس وأضرب في كل مجمع الذين يؤمنون بك. وحين سُفِكَ دم استفانوس شهيدك كنت أنا واقفاً وراضياً بقتله وحافظاً ثياب الذين قتلوه" (أعمال 22: 19 – 20).
وكتب بولس فيما بعد واصفاً نفسه فقال: "أنا الذي لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً لأني اضطهدت كنيسة الله" (1 كورنثوس 15: 9)، ولكنه كتب أيضاً "وأنا أشكر المسيح يسوع ربَّنا الذي قوَّاني، أنه حسبني أميناً إذ جعلني للخدمة، أنا الذي كنت قبلاً مجدِّفاً ومضطهداً ومفترياً" (1 تيموثاوس 1: 12 – 13).
كان بولس رجلاً ذا ماضٍ مظلم يجعله غير صالح لخدمة الله. لكنه أصبح مع ذلك الرسول الكبير للأمم، وقد استعمله الله في كتابة كثير من أسفار العهد الجديد.
هناك أناس آخرون تشوَّهت حياتهم بلطخات سود لكنهم أصبحوا فيما بعد عاملين في خدمة الله. إني أتذكَّر يوحنا مرقس. لقد برهن هذا الشاب، في أثناء مرافقته لبولس وبرنابا في رحلتهما الأولى، أنه ليس أهلاً للاعتماد عليه. فعندما خطَّط هذان الرسولان لرحلتهما الثانية رفض بولس قبول يوحنا مرقس في رفقته بسبب إخفاقه السابق. (انظر أعمال 15: 36 -38).
ومع ذلك فقد اختار الله هذا الرجل فيما بعد ليكتب إنجيل مرقس الذي قدَّم للعالم ابن الله الخادم الأمين إلى الأبد. ولم يكن ماضي مرقس الأساسي هو الذي بنى عليه الله اختياره لمرقس للقيام بواجبه.
اختار الله داود ليكون قائداً ومرشداً لشعبه وليكون الرأس الإداري للحكومة، مع أنه لم يكن أصلاً سوى راعي غنم على هضاب بيت لحم. ولكن الله دعاه، وقد قبل الدعوة بصرف النظر عن ماضيه.
إذن عندما يدعوكم الله للقيام بواجب، فلا تسمحوا للشعور بعدم الكفاءة وانعدام الماضي المشرِّف أن يعوقكم عن تلبية الدعوة. "لأن الله هو العامل فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرَّة" (فيلبي 2: 13).
- عدد الزيارات: 11482