الفصل 2
وما إن أطلّ صباح اليوم التالي حتى انطلق الصيادون يتقدّمهم مثيرو الطرائد. فسار هؤلاء- بمن فيهم تالوس- في خط طويل وأخذوا يطلقون صيحات خاصة وهم يقرعون تروسهم. وكان غرضهم أن يدفعوا بحيوانات الصيد نحو الصيادين. وفي مكان غير بعيد, إذ بخنـزير بري ضخم, أثاره الصوت الغريب, يرفع رأسه بأنيابه الحادة الفتاكة وهو يقبع غاضباً. ثم انطلق في العراء حيث شاهده فوراً مثيرو الطرائد. ولما رأوه صرخ كبيرهم: "اسرعوا! لا تدعوه يهرب. ادفعوا به نحو الرمَّاحين! لا تدعوه يتوغّل داخل الأجمة وإلا خسرناه".
فاندفع الخنـزير بسرعة أمام مثيريه الذين لحقوا به بحيث لم يتركوا له مجالاً للهرب إلى الشجيرات الكثيفة. فاتجه, عوض ذلك بسرعة جنونية نحو الفخ الذي وضعه الصيادون. وكان في انتظاره هناك, إرِك وصياد محنَّك يحملان رمحيهما في أيديهما. وفيما كان الخنـزير متجهاً نحوهما قال الصياد الشيخ لإرِك:
"ها هو آت, يا إرِك. وسيكون أول صيد لك. ما عليك إلا أن تقوم بمحاولتك الأولى لكسب هذه الغنيمة. لا تخطئ الضربة!".
فأجاب إرِك وهو يسدد رمحه نحو الحيوان المندفع صوبه: "هه, سوف استخدم أنيابه لصنع عقد جميل. لاحظ..."! ورمى رميته فأخطأ الهدف. فاختبأ هو وصديقه فيما كان الخنـزير يميل ويدخل بعنف وسط أجمة من القصب على ساقيه قريبة من مكان انتظارهما.
فقال الشيخ مشمئزاً: "تباً لك, لقد أخطأت. فقد كنت جدّ مضطرب ورميت رمحك قبل الوقت المناسب".
أصرّ إرِك قائلاً: "لا لا. لقد أصبته بجرح, لا سيما وإني شاهدت رمحي يغرز في جنبه".
"على أية حال, لقد اختفى الآن" قال الصياد المستاء وهو متجه مع إرِك صوب الرمح الذي كان قد انغرز في جِذل شجرة عند طرف المياه.
"وتذهب الآن وأخبر الجميع أيّ أبله أخرق هو أنا؟ لا, إن هذا الحيوان هو لي. لقد أصبته بجرح ولن يأخذ أنيابه شخص سواي". ولما أخذ رمحه بين يديه, راح يركض وراء الخنـزير الهارب قبل أن يتمكن الصياد من إيقافه.
فناداه: "لا تكن أحمق. لن تجده بين القصب. انتظر, فقد تكون هناك وحوش أخرى". ولكن إرِك لم يُعِرهُ أذناً صاغية.
في هذا الوقت جاء تالوس وباقي مثيري الطرائد يلهثون إلى حيث كان الصياد الشيخ ينتظر. فسأله تالوس: "أين الخنـزير الذي سُقناه إليكم؟".
فأجابه الصياد: "لقد هرب. وظنّ إرِك أنه أصابه بجرح فذهب يبحث عنه بين القصب". قال هذا وأشار بيده في الاتجاه الذي ذهب فيه الخنـزير إلى قلب الأجمة عند الساقية.
"أتقصد هناك؟ وأنه ذهب وراء خنـزير مجروح؟ قد يرتدّ عليه الخنـزير ويقتله". قال تالوس هذا مستغرباً وخائفاً مما قد يحصل في ما لو ارتد الخنـزير على مُطارده. غير أن الصياد لم يكن مهتماً حسب الظاهر, وحاول إقناع تالوس بأن الخنـزير قد اختفى وابتعد كثيراً. وأضاف: "هلمّ نرجع إلى الصيد". واقتناعاً منهم بأن الصياد كان على حق- وبأن إرِك سيتخلى عن عملية المطاردة ويلحق بهم- عاد الباقون إلى البحث عن خنـزير آخر... ما عدا تالوس الذي قال لهم:
"سأذهب لأتأكد من أن إرِك بخير- إن استطعت العثور عليه".
"حسناً, ولكن لا تتأخر. إلحق بنا ظهراً عند حافة الجبل ذلك".
ولما مضى تالوس في اتجاه القصب, حذّره الزعيم بقوله: "انتبه أنت أيضاً لنفسك من الخنازير البرية".
في هذا الوقت كان إرِك قد وصل لإلى فسحة مكشوفة بعد أن شق طريقه بعناء وسط القصب الكثيف لمسافة طويلة. ورغبة منه في رؤية آثار الحيوان نظر إلى الأرض وفجأة هتف: "هه! بقع من الدم. حتماً لقد جرحت الخنـزير! ولا بد أنه ليس بعيداً من هنا".
وعلى حين غرّة, اندفع الخنـزير بسرعة السهم من مخبئه وصدم إرِك على غير انتظار ورماه أرضاً. ثم استدار الحيوان المجنون وأسرع ثانية نحو إرِك المطروح أرضاً دون حراك... ولحظتئذ ظهر تالوس إلى الفسحة المكشوفة وجابه الخنـزير قبل أن يتمكن من الوصول إلى إرِك المصعوق, بأمتار قليلة. وبعصا غليظة استطاع تالوس أن يخيف الخنـزير مبعداً إياه.
ناداه تالوس: "إرِك!" ثم رفع قلبه بالصلاة وهو يتحرّى جروحه قائلاً: "أشكرك اللهم لأنك قدتني في الوقت المناسب". وعندها خلع قميصه التحتيّ واقتطع منه شققاً يضمد بها ساق إرِك المجروحة. فاستقام إرِك جالساً وهو يشعر بالامتنان الظاهر لأجل تدخُّل تالوس.
فقال إرِك: "بطردك ذلك الخنـزير أنقذت حياتي أيها الروماني- وكل ذلك بعصا ليس إلاَّ, مما تطلّب شجاعة نادرة". وأضاف معتذراً: "سامحني على سخريتي منك".
فردّ عليه تالوس: "إن الله يهب الشجاعة لجميع المتكلين عليه. والآن ابقَ هادئاً لكي أتمكن من تضميد جروحك. فلقد فقدتَ الكثير من دمك". وسرعان ما توقف نـزف الدم بعد أن أحكم تالوس وضع ضماداته الخشنة قدر المستطاع. بعد ذلك ترك إرِك يستريح قليلاً ليتغلّب على الصدمة ثم أعانه ليقف على رجليه.
ولما أخذ بذراعه اليسرى واضعاً إياها حول كتفه, قال تالوس: "لنرَ الآن إن كان في وسعك أن تمشي". فشرع إرِك يقفز على ساقه اليمنى مستنداً إلى تالوس. ولم يستطيعا أن يحرزا تقدماً كبيراً بسبب الضعف الذي ولّدته الصدمة فضلاً عن فقدان الدم. ولكن شيئاً فشيئاً تمكنا من العودة إلى القرية.
وأخيراً قال إرِك: "أعتقد أني لست ذلك الصياد الشجاع الذي كنت أتصوره. لقد تركت الخنـزير يفوقني دهاء وبالكاد أقدر أن أمسك نفسي عن البكاء من شدة الألم".
أجاب تالوس معزياً صديقه المغلوب على أمره: "لا أحد يشك في شجاعتك يا إرِك. ولا غضاضة في ذرف دموع قليلة بعد الذي أصابك".
وبعد جهد في سبيل خطوات أخرى قليلة, قال إرِك: "يجب أن أحصل على قسط من الراحة, فأنا أضعف مما ظننت. لو رآني الآخرون في هذه الحالة لازدروا بي ظناً منهم أني هزيل".
"دعك مما يظنه الناس" قال تالوس وهو يعين إرِك على الجلوس مستنداً إلى شجرة للراحة.
وبينما كان إرِك يستريح قليلاً طفق تالوس يحدثه عن الله وعن شجاعة يسوع التي جعلته يقهر التجربة وأيضاً الموت.
وما أن ختم تالوس كلامه قال له إرِك: "ها قد بدأت أرى أن العمل الصالح يستلزم شجاعة أكبر من خوض المعارك".
"أجل, إن صيرورة المرء مسيحياً تتطلب شجاعة أكبر من محاربة الخنازير البرية".
- عدد الزيارات: 2395