تالوس وسفينة القراصنة: الفصل 1
مع وقع حوافر الخيل تقدّم الحارس الأمامي لفريق من التجار السَلتيين مقترباً من أبواب قرية الفاندال وأخذ ينادي طالباً الدخول. وسرعان ما انفتحت الأبواب التي كانت مقفلة بإحكام. فرحَّب القرويون فرحين بالتجار القادمين بسلام.
وتالوس، الشاب الروماني المتجول بين قرى الفاندال المنتشرة هنا وهناك كارزاً لها بالمسيح، راح ينظر باهتمام كبير.
قال مخاطباً نفسه: (الحمد الله، ستتاح لي الفرصة الآن لأخبر رجال القبائل عن المسيح!).
وحالما عرض التجار ما لديهم من بضائع، تهافت الناس بسرعة على شرائها: أسلحة حربية، أدوات فخارية، وأقمشة جميلة عرضت للبيع فأقبل عليها القرويون بشوق، كيف لا ولم يروا مثلها في بلادهم منذ زمن بعيد.
قي ذلك المساء - بعد أن أكل الجميع وشبعوا- تحلق الزوار حول النار وطفق تالوس يخاطبهم وختم كلامه قائلاً: (وهكذا أُعلن ملكوت الله بواسطة مخلِّصنا يسوع المسيح).
أصغى السيتُون بشوق لأنهم كانوا يحبون سماع القصص. ولكنهم لم يفهموا رسالة محبة الله.
قال واحد من أفراد الحرس الستّي: (هذا الشاب يحسن الكلام ويتمتع بصوت جميل).
فأجابه آخر جالس بجواره: (أجل، ولكنه لو تكلم عن الحروب والصيد لكنت استلذَ كلامه أكثر).
وعلَّق تاجر كان يجلس القرفصاء متأملاً: (إنه لا يأتي على ذكر الأرواح التي تسكن السنديانات المقدسة).
وإذا بشاب سلتي من عمر تالوس يتقدم ليعرّف الروماني بنفسه. قال: (اسمي أرِك. وقد ترامى إليَّ أنك روماني. وسمعت أن الرومان محاربون عظام، أما أنت فلا تتحدث إلا عن اللطف والمحبة بين البشر. فهل الروايات التي سمعتها عن شجاعة الرومان كاذبة؟".
أجاب تالوس: "لا يا إرِك إن الرومان فتحوا العالم كله تقريباً بقوة السيف. ولَكن فَتْحَ عقول البشر بكلام الحق يستلزم شجاعة أكبر". فأثار كلامُهُ السلتيَّ الشاب الذي كان يفخر بتاريخ بطولات قبيلته الطويل.فضحك مستخفاً: "هه, لست أعتقد أن الكلام أجرأ من العراك".
في تلك الليلة جلس تالوس على فراشه المكسوّ بالقش واستغرق مفكراً. ثم جعل يصلّي واضعاً مشكلته أمام الله. قال:
"أعنِّي يا رب. فلقد أخفقت في توصيل رسالتك إلى هؤلاء الناس. ألتمس منك أن تريني الطريق بوضوح".
وفي اليوم التالي راقب تالوس الفاندال الذين كانوا قد احتشدوا في القرية آتين من المناجم والحقول والغابات البعيدة ومعهم بضائعهم ليتاجروا بها. كانت أخبار التجار قد شاعت بسرعة, والكثيرون منهم كانوا من أصدقاء تالوس الذين ربحهم إلى المسيح خلال تجواله, لذلك كان الترحيب به حاراً.
فردّ واحد سُرّ بمشاهدته ثانية, وقال: "تالوس, إني مغتبط لرؤياك. شكراً لله أنك في صحة جيدة. كيف تسير أمورك وأعمالك؟ ستُسرّ ولا شك أن تعرف أن المسيحيين المؤمنين هنا في ازدياد مستمر والكهنة جدّ خائفين من أن لا يعود الناس إلى أذيّتنا, وحتى قورش الفتى الذي اعتاد أن يسبب لك مقاومة كبيرة قد أظهر اهتماماً باجتماعاتنا مؤخراً. حبذا لو كان في إمكانك أن تأتي وتعلِّمنا ترانيم أخرى عن يسوع المسيح".
وبينما كان تالوس يتحدث إلى صديقه المسيحي, رآه إرِك وقد كان ساعتئذ يساعد أباه في المتاجرة بالسلاح مقابل الحصول على الجلود الفاندالية. فناداه: "أيها الروماني, تعال. فسأريك خنجراً حاداً تستطيع استخدامه إذا ما أفلست من الكلام". ولما رأى أن تالوس لم يستجب لدعوته, تقدّم إرِك بضع خطوات إلى حيث كان الصديقان يتحدثان, وقال مقرّعاً:
"...أم أنك تخاف أن تحمل سلاحاً؟".
فاستشاط صديق تالوس وصفع الوغد الصغير الذي حاول الاستهزاء بصديقه الحميم, قائلاً له: "اصمت يا هذا... إن إصبع تالوس تملك من الشجاعة أكثر مما يملك جسمك كله أيها الحقير". وانتفض غاضباً بحيث بدا مخيفاً حقاً. ولكن السلتيّ المتعجرف لم يكن ليرتاع, فهجم شاهراً خنجره وراح يتهدد ويتوعد فيما كان ينظر إلى الرجل الغريب ويقول: "سأريك كم...".
ولكن تالوس لم يقف مكتوف اليدين بل أخذ يباعد بينهما ويتوّسل إليهما أن يلزما الهدوء. وصاح بهما: "كُفَّا, كُفَّا. لا تتخاصما حول موضوع الشجاعة. إن الله يزود جميع البشر بالشجاعة لعمل الحق إن هم سألوه".
وهكذا حكّم إرِك والفاندالي عقليهما واقتنعا- ولو مؤقتاً على الأقل- بضرورة الكفّ عن المشاجرة بناء لنصيحة تالوس.
انتهت الأعمال التجارية خلال أيام قلائل, فقام تالوس وودّع أصدقاءه الذين اضطروا أن يعودوا إلى القرى الفاندالية الأخرى البعيدة.
وبينما كان أحدهم يوَدِّع تالوس قال محذراً: "إياك وهؤلاء السلتييِّن! إنهم متوحشون شرسون كالغابات المظلمة التي يسكنونها".
فأجابه تالوس بثقة: "لا تخف, فالله هو حاميّ وحاميكم".
في تلك الليلة أعلن زعيم القرية عن القيام بحفلة صيد على شرف ضيوفه السلتييِّن. قال: "إننا ندعو أصدقاءنا السلتييّن إلى صيد الخنازير البرية غداً لكي يكون لديهم طعام كاف حتى وصولهم إلى منازلهم".
وهنا أيضاً لم يستطع إرِك إلاّ أن يسخر من تالوس. فقال مازحاً:
"أتجرؤ على الوقوف في وجه أنياب الخنـزير البريّ, أيها الروماني؟ أم إنك تبقى مع النساء والأطفال في القرية لتأمن الخطر؟".
أجابه تالوس: "سأكون في الصيد يا إرِك وسأثير الخنازير من مكامنها. أنتم السلتيين ستكونون ضيوفنا وعليكم ستقع مسؤولية الصيد". مع ذلك بقي السلتيّ يشعر بتفوقه الممزوج بالكبرياء وهو يتوجه إلى كوخ في تلك الليلة.
- عدد الزيارات: 2699