Skip to main content

الفصل 5

وأخيراً جاء الوقت المعين للسباق، فجلس الإمبراطور وصحبه في أماكنهم محاطين بالحرس، وساد الجمهور صمت مفعم بالتوقع والإثارة. كانت المقاعد كلها ملآنة لأن شائعات سرت بأن شيئاً خاصاً سيتم في ذلك اليوم. ولما بدأ تالوس وسائق سُلا يدخلان المدرج استدارت الرؤوس كلها نحو المدخل.

وفجأة تعكَّر الصمت. أعطى الإمبراطور إشاراته فمزقت الأبواق موسيقاها وابتدأ السباق. فاندفع سائق سُلا-وهو أكثر خبرة- قدام تالوس فوراً، فضجَّت أصوات النظارة وقد بلغ عددهم خمسين ألفاً. ودارت العربتان حول المسرح البيضاوي الشكل وتمكنت خيول تالوس المدربة جيداً من أن تقترب تدريجياً من خيول العربة الأخرى-كانت تعدو بسرعة حتى قاربت العجلات بعضها بعضاً مما جعل المتفرجين يعيشون على  أعصابهم. ثم رفع سائق سُلا صوته على صوت الجمهور وخاطب تالوس (اسمع أيها المسيحي! في الدورة القامة سأجعلك ترتطم بالحائط).

ولو لم يتباهّ سائق سُلا لكان في مقدوره أن يأخذ تالوس على حين غرة. لكن تالوس كان متأهباً ويعرف مايجب عليه فعله. وفي أثناء مرورهما في الدورة الأخيرة من أمام منصة الإمبراطور لاحظ تالوس أن العربة الأخرى بدأت تنحرف. فما كان منه إلا أن انحرف هو أيضاً بطاقمه في اللحظة المناسبة ونجا من الفخ المنصوب له، وعندئذ سمع سائق سُلا يسب فيما كانت مركبته ترتطم بالحائط قاذفة به على الهواء ليسقط بعدها بعنف في ميدان السباق. وفي لحظة من الزمن أضحى النظارة وكأن على رؤوسهم الطير، وبعد ثوان قصار سُمع صوت صرير وتحطُّم شديد عند انكسار محور العجلة المعطوب في عربة تالوس أثر انعطافه بشكل فجائي شديد. فقد بذلت الخيول أقصى مالديها من قوة فأدى تضافر قواها إلى جر المركبة المتصدعة عبر خط النهاية. فما كان من الإمبراطور نفسه إلا أن هب واقفاً وهو يحدق في الشاب الذي كان لم يزل واقفاً في مكانه ممسكاً بزمام خيوله الأربعة. عند ذاك اندفع الجمهور الروماني المتحمس نحو المدرج هاتفاً: (تالوس، تالوس، فليّحيَ تالوس). وحمله بعضهم على الأكتاف بأيديهم في الهواء. لم تكن هذه النهاية الدرامية كثيرة الحدوث حتى في رومية، ولذلك كانت العيون منصبة على الفائز الذي كانت ملامحه تختلف عن ملامح سواه ممن رأوهم يكرمون بهذه الطريقة. وقد تبيَّن أن الإمبراطور نفسه كان راضياً، ذلك أنه استدار مع مرافقيه وغادر المكان دون أن يصدر عنه أي اعتراض.

لكن كانت ردة فعل أحدهم مختلفة تمام الاختلاف. فقد جاء سُلا من وراء الحاكم الذي كان لم يزل جالساً في مكانه يتفحص المشهد ووضع يده على كتفيه ثم همس في أذنه والارتباك باد على وجهه: (مُر بإخلاء المدرج وأطلق الوحوش على المسيحيين حسب مخططنا). أجابه الحاكم بجفاف: (لقد تغيرت الخطط سُلا. إن طرحنا أصدقاء الفائز للوحوش فستقوم قيامة الشعب علينا). فاغتم سُلا وهو لايكاد يصدق مايرى ويسمع. وتابع الحاكم يقول: (لدي خطة أخرى في حال أتيانك على ذكر مؤامراتنا). قم التفت ورفع صوته: (أيها الحراس خذوه على السفينة. وداعاً ياسُلا). ارتعدت فرائص سُلا وشحب وجهه شحوب الموتى وقال بلهجة الخائف: (لا، لا. لاتَنفِني), ولكن توسلاته ذهبت أدراج الرياح لأن الحاكم لم يكن يبالي بأحد سوى بنفسه. فأمسك الحراس سُلا بقبضاتهم الحديدية ومضوا به.

ثم التفت الحاكم إلى الحراس الآخرين وأمرهم قائلاً: (اذهبوا واطلقوا سراح جميع المسيحيين على الفور). وللحال نهض من مكانه وغادر المدرج.

عندما أطل الحراس عند باب الغرفة التي تشبه القفص حيث سُجنت جوليا وسائر أهل بيت مرقس، ظن المساجين أن النهاية أتت وأنهم سيصيرون منظراً للجمهور الهائج في المدرج لكن الله سيؤيدهم بالشجاعة والقوة.

ماذا قال الحارس ياتُرى حين فتح الباب على مصراعيه؟ قال (كلكم أحرار-أخرجوا إلى الحرية فالطريق مفتوح أمامكم).

فصعقوا في بادئ الأمر وجمدوا في أماكنهم غير مصدقين ماسمعوه. ولكن الحارس ألحّ عليهم بالخروج فقال (هلم أخرجوا-أنتم أحرار). عادت جوليا إلى نفسها وهي تقول (شكراً، شكراً لك أيها الرب يسوع. نحن نعلم أنك كلِّي القدرة على تفشيل الخطط الشريرة التي وضعها سُلا والحاكم).

وانتهى الصمت، فأخذ الأولاد يطفرون فرحاً بينما كان الجميع يخرجون بالقرب من الحراس ووجوههم تطفح بشراً وسلاماً. وهكذا مرت المحنة.

فقال واحد من الحراس لرفقائه: (لاأقدر أن أفهم هؤلاء المسيحيين. إنهم يختلفون عن سواهم. فحتى لو طرحناهم للأسود المفترسة لَمَا كانت الاشراقة لتفارق وجوههم). وراح يفكر في نفسه: (غريب! حقاً إنه لأمر غريب).

كان الجمهور لم يزل يهتف لتالوس ويحييه، ولما تعبوا أخيراً هذا الأخير عائداً إلى المزرعة، فوجد أن الآخرين سبقوه إلى هناك، وَلَكَم كان الجو مليئاً بالإثارة والبهجة ولاسيما عندما أخذ جميعهم يروون جوانب الحوادث المختلفة للقصة كلها. وترددت أصداء فرحهم في أرجاء البيت كله.

  • عدد الزيارات: 2312