الفصل 4
راح مرقس وتالوس يحدقان في الرجل الظالم الماثل أمامهما المسرور بمؤامراته الإجرامية. وإذا بمرقس يقبل التحدي بصوت ثابت وقلب واثق رغم أن الشحوب بدا على وجهه. وسرعات ما استدار كلاهما وغادرا المكان. ولدى وصولهما إلى الشارع في الخارج أخذ مرقس نفساً عميقاً وكان جسده كله يهتز عاطفة وشعوراً. قال كما لو أنه يخاطب نفسه: (آه يارب، لقد اضطررت أو أوافق على خطة ذلك الرجل المتوحش. سابق مقابل حياة البشر-يالها من فكرة مخيفة!) فوضع تالوس يده على كتف صديقه وقال (إنه عمل شرير يامرقس، ولكن تَعَزّ بوعد يسوع القائل إنه يعين المتوكلين عليه).
في اللحظة التي أغلق فيها باب مكتب المحاكم خلف مرقس وتالوس أزيح الستار السميك الواقع وراء المنصة وظهر سُلا أمام الحاكم.
قال سعادته: (أسمعت يا سُلا؟ لقد وافق على التسابق معك. إياك أن تدعه يفوز عليك). فضحك سُلا بخبث وخاطب الحاكم) هذا أمر مفروغ منه ياصاحب السعادة. سأترك لسائقي الفظ أن يحل محلي، فهو قادر على تحطيم عربة مرقس عند الدورة الثانية. إنه خبير بكل الخدائع-ولدي خطة أخرى لضمان ذلك).
تابع كلاهما الحديث بصوت منخفض فيما كانا يغادران الغرفة باتجاه حديقة الحاكم الخاصة. وعند افتراقهما قال الحاكم: (حسناً! إن فكرتك رائعة ياسُلا، وسيكون المنظر ممتعاً للغاية في نـزر الإمبراطور. سباق مثير للعربات يليه هجوم الوحوش على المسيحيين-أمر يسر الإمبراطور جداً).
كاد سُلا يطير من شدة الفرح وهو يسرع راجعاً إلى مزرعته. وأخذ يفرك يديه بينما كان يفكر بخطته وحديثه مع الحاكم-(الكل على مايرام. ماكنت أتصور أني سأصيب نجاحاً بهذا القمدار، وفوق هذا أنا مدعوم بسلطان الحاكم-ولن يطول الوقت قبل أن يصفَّق لي الإمبراطور نفسه. ياللروعة! إن المسيحيين أغبياء بالفعل). وبينما كان الناس يمرون بالقرب منه كان الكثيرون منهم يلتفتون إليه قائلين بعضهم لبعض: (يبدو أن سُلا راض عن نفسه على غير عادته. فلعله قام بصفقة من صفقاته الماكرة).
لم يكن سُلا وحده هو المسرور. فإن المدرج الضخم-أي في مسرح رومية المعروف باسم مكسيموس وهو الأكبر في الإمبراطورية كلها-كانت الأسود الهائجة المحفوظة لتسلية الإمبراطور وسكان رومية تذرع الأرض جيئة وذهوبا خلف قضبان القفص الحديدية القوية. وظهر أحد الحراس فاندفعت الأسود بشدة نحوه مكشِّرة عن أنيابها الحادة وهي تزأر زئيراً يجمد الدم في العروق. فنظر إليها يقول:
(هه، اسكتي ياأسودي الجميلة وانتظري قليلاً حتى ولو ازداد جوعكِ. فسرعان ماستتمعتعين بالأطايب!).
غير أن منظر الحارس الواقف مطمئناً خارج القفص أثار الوحوش أكثر فأكثر حتى أنها ازدادت زئيراً وهي تضرب القضبان الحديدية بقوائمها غاضبة ناقمة فتراجع الحارس خائفاً من ذلك العرض المزعج ثم خاطبها:
(مهلاً مهلاً فالانتظار لن يطول كثيراً بعد). مع ذلك لم تهدأ. كان صوت زئيرها يُسمع في كل أرجاء المكان السفلي. وتُرَدِد صداه الجدران الحجرية الضخمة الصلبة. وقد سمعه المسيحيون المحتجزون في سجنهم البارد نصف المظلم. رجال-نساء-أولاد-بعضهم يذرع الأرض وبعضهم الآخر في حلقات وآخرون يجلسون منفردين ومن بين هؤلاء جوليا وسائر أهل بيت مرقس-العائلة مع العبيد. تشبثت بنت صغيرة بجوليا وهي تقول: (آه من تلك الوحوش المخيفة، فهي لاتتوقف عن الزئير وأنا خائفة جداً ياجوليا).
(أعلم ذلك ياحبيبتي، إنما يجب أن نحافظ على رباطة جأشنا ونثق في الله).نطقت جوليا هذه الكلمات فيما كانت تحاول تشجيع الفتاة الصغيرة المذعورة. لقد كان من الصعب عليها أن ترى الفتاة الصغيرة يتألمون هكذا، ولذلك كانت تضم الفتاة وهي تصلي كي يوهَب الجميع الشجاعة في وسط الآلام والعذابات المرهبة. ثم اتجهت بأفكارها إلى مرقس وإلى تالوس أيضاً، ولكم سُرّت لأنهما كانا معاً، ولكن ماذا يفعلان ياترى؟ هل سيقدّرهما الله على إيجاد مخرج لإنقاذ شعبه من هذه المجزرة الظالمة؟.
بينما كانت هذه الأفكار تراود جوليا، كان مرقس وتالوس يقودان مركبة مع طاقم من أربعة جياد إلى مسرح مكسيموس استعداداً لسباق العربات في اليوم التالي. وعند وصولهما توقفا خارج المكان المعد لاحتواء العربات، فحلا الخيول واقتاداها إلى الاستطبلات المخصصة للمشتركين في السباق أمام الإمبراطور. وكان كلاهما قد حملا معهما كل مايحتاجون إليه لقضاء الليلة في الاستطبلات-مصباحاً وبطانيتين وطعاماً لهما وللخيل. وقد عزما على حراسة الأفراس بنفسيهما لئلا تصاب بأذى على أيدي الحراس المستأجَرين.
بعد قليل حل الظلام فأضاء تالوس المصباح واطمأن هو ومرقس إلى أن الخيول مربوطة بأمان وأنها نالت كل ماتحتاج إليه. ثم جلسا جانباً وبقيا مستيقظين يصغيان على كل حركة أو صوت غريب. بل أنهما لم يتسامرا لأن كلاً منهما كان منصرفاً للتفكير بينه وبين نفسه وهو قلق لايقوى على النوم.
ومرت الساعات كأنها سنوات.
وفجأة هب مرقس واقفاً وأمسك المصباح وأضاءه أمامه ثم نادى: (مَنِ القادم؟). وكان تالوس يسير بجانب صديقه يحملق في الظلام. وإذا رجل واقف ضمن دائرة نور المصباح يقول: (صه! لقد أتيت لانبِّهكما إلى أن خللاً في عربتكما قد أحدث أثناء السابق). وغاب الرجل الغريب وسط الظلام قبل أن يتمكنا من استفساره أكثر. فالتفت مرقس إلى تالوس وقال: (احرس الخيول ياتالوس ريثما أذهب واتفحَّص المركبة).
ولما دخل المكان صاح: (ماذا تفعلان ههنا؟) إن رجلين كانا منكبين على إحدى العجلات وعند سماعهما الصوت نظرا إلى الوراء فاندفع مرقس نحوهما، وماإن فعل حتى هجم ثالث من وسط الظلمة فأمسك به ووجَّه إليه ضربة قوية على مؤخرة رأسه. فسقط على الأرض وسقط معه مصباحه وتحطم وأمسى المكان ظلاماً بظلام. فصاح مرقس (النجدة أيها الحرس! آخ.. آخ..). هذا كل مااستطاع أن يتذكره.
سمع الحراس الرومان صوت استغاثة مرقس فاندفع ثلاثة منهم إلى داخل الغرفة. ولما اشعلوا مصباحهم شاهدوا الجسد الملقى على الأرض ثم تكلم أحدهم بعد الآخر:
-إنه المتسابق المشهور.
-لن يتمكن من الاشتراك في السباق لفترة من الوقت.
-إذا أُجِّل السابق فسنقع في ورطة.
بقي واحد من الحراس قرب العربة في حين حمل الاثنان الآخران إلى الإسطبلات حيث كان تالوس. ولما تقدم هذا الأخير لملاقاتهما قال له الأول: (وقع لصديقك حادث بسيط).
-(مَن؟ مرقس؟ غير معقول!).
وضع الحارسان الرجل الفاقد الوعي برفق على الأرض، وشرع تالوس يفحصه ليعرف مكان الإصابة، فوجد أن هناك جرحاً بليغاً في قفا رأسه يحتاج إلى عناية، فقام على الفور باقتطاع أجزاء من البطانيات وضمَّد بها رأس مرقس.
(شكراً لله أنه لم يُقتل) قال تالوس وهو يركع بجانب مرقس ليغسل وجهه بالماء البارد. وماهي إلا لحظات قصار حتى فتح مرقس عينيه ونهض جالساً، غير أن رأسه كان في حالة من الدوار. قال (لااستطيع الاشتراك في السباق ياتالوس. إن جوليا والآخرين..) وعاد صوته إلى الجرجة ثانية. فمد تالوس يده وسند صديقه الواهن قائلاً: (لاتضطرب! بمعونة الله سأقود الطاقم بنفسي).
- عدد الزيارات: 2489