Skip to main content

الفصل الثامن عشر: رحمة الله

 

          يا أبانا القدوس إن حكمتك تثير إعجابنا، وقوتك تملؤنا خوفاً ورهبة، وكلية وجودك تجعل كل بقعة من الأرض أرضاً مقدسة. ولكن كيف نشكرك الشكر الكافي على رحمتك التي تتنازل إلى أعماق حاجتنا لتمنحنا جمالاً عوضاً عن الرماد ودهن فرح عوضاً عن النوح ورداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة. إننا نباركك ونعظّم رحمتك باسم يسوع المسيح ربنا. آمين.

          عندما نصل نحن أبناء الظلال منزلنا أخيراً في النور بوساطة دم العهد الأبدي، سنغني على قيثارات ذوات آلاف الأوتار. ولكن أجمل وتر هو ذلك الذي يطلق بإتقان تام لحن رحمة الله.

          لأنه أي حق لنا لنوجد هناك؟ ألم نشترك بخطايانا في تلك الثورة النجسة التي حاولت برعونة أن تنزل الملك المجيد عن عرش الخليقة؟ وألم نتصرف نحن سابقاً حسب رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية؟ وألم نكن كلنا عائشين حسب شهوات أجسادنا؟ وألم نكن بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين؟ ولكننا نحن الذين كنا قبلاً أعداء وأجنبيين في أفكارنا بأعمالنا الشريرة، نحن سوف نرى الله وجهاً لوجه وسيكون اسمه على جباهنا. نحن الذين نستحق الإقصاء عن الله سنتمتع بالشركة معه، نحن الذين نستحق أوجاع جهنم سوف نختبر نعيم السماء. وكل ذلك بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المشرق من العلاء.

          يا إلهي: عندما كل مراحمك

          تراها نفسي عند قيامتها

          سيملأني المنظر فرحاً، وسيأخذني

          العجب والمحبة والشكر.

                                    جوزيف أديسون Joseph Addison

          الرحمة صفة من صفات الله وهي طاقة في طبيعة الله لا نهائية ولا تنفد أبداً وتجعله رحيماً شفوقاً. وكلا العهدين القديم والجديد يعلنان رحمة الله، إلا أن العهد القديم يذكرها أربعة أضعاف ما يذكرها العهد الجديد. ويجب أن نطرد من أفكارنا طرداً نهائياً تلك الفكرة الشائعة القائلة أن العدل والبر يميزان إله الشعب القديم بينما الرحمة والنعمة هما لرب الكنيسة. ومن ناحية المبدأ لا يوجد فرق في الحقيقة بين العهدين القديم والجديد. ففي العهد الجديد نجد حق الفداء بأكثر توسيع، ولكن الله الذي يتكلم في كلا العهدين هو واحد، وما نطق به يتفق مع كيانه. وهو يتصرف كما يليق بذاته في كل مرة يظهر فيها وفي أي مكان يظهر فيه. وسواء أكان في جنة عدن أم في بستان جثسيماني فإن الله رحيم كما هو عادل. ومعاملاته مع البشر دائماً رحيمة وهو دائماً ينفذ عدله حينما تُحتقر رحمته. هكذا عمل في الأيام التي سبقت الطوفان، وهكذا عمل عندما جال المسيح بين الناس، وهكذا هو يعمل اليوم وسوف يعمل كذلك دائماً لا لسبب إلا لأنه هو الله.

          ولو أننا استطعنا أن نتذكر دائماً أن رحمة الله ليست حالة مؤقتة بل هي صفة في كيان الله السرمدي فلن يخامرنا إذن أي خوف من أنها ستنفد يوماً من الأيام. فليس للرحمة بداية بل لقد كانت منذ الأزل وهكذا فلن تزول أبداً. وهي غير قابلة للزيادة لأنها لانهائية في ذاتها ولن تنقص أبداً لأن اللانهائي غير قابل للنقصان. ولن يغير من رحمة الله حدث في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل في السماء ولا على الأرض ولا في الجحيم. فرحمة الله قائمة إلى الأبد، رحمة إلهية هائلة عظيمة لا حدود لها.

          وكما أن الدينونة هي عدل الله حيال الظلم الأدبي فكذلك الرحمة هي صلاح الله حيال آلام البشرية وجرمها. فلو لم يكن في العالم جرم وذنب، ولا ألم ولا دموع، لكان الله أيضاً لم يزل رحيماً رحمة لانهائية، إلا أن رحمته قد تكون إذن مستترة في قلبه لا يعرفها الكون الذي خلقه، ولا يرتفع صوت بحمد الرحمة التي لم يشعر أحد بحاجته إليها. فبؤس البشر وخطيتهم هي التي تصرخ طالبة الرحمة الإلهية.

          وصرخة الكنيسة عبر العصور هي "يا رب ارحم، أيها المسيح ارحمنا". على أنني إذا لم أكن مخطئاً فإني أسمع من خلال تضرعاتها نغمة حزن ويأس. فصرختها الأسيفة التي غالباً ما ترددها بنغمة تسليم كئيب تضطر الإنسان إلى القول بأنها تصلي من أجل غرض لا تتوقع أن تحصل عليه. وقد تواظب على التغني بعظمة الله وترديد قانون الإيمان مرات لا حصر لها ولكن طلبها الرحمة لا يبدو وكأنه أمل ضائع وحسب كأنما الرحمة عطية سماوية يرجوها المرء ولكن لا سبيل للحصول عليها.

          فهل فشلنا في الحصول على فرح الرحمة النقي نتيجة لعدم إيماننا أو لجهلنا أو لعله راجع لكليهما معاً؟ وهكذا كان الحال مع الشعب القديم كما قال بولس: "لأني أشهد لهم أن لهم غيرة ولكن ليس حسب المعرفة". لقد فشلوا لأنهم لم يعرفوا شيئاً واحداً على الأقل. وهو الشيء الذي يتوقف عليه الفارق كله. ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن الشعب في البرية أنه "لم تنفع كلمة الخبر أولئك إذ لم تكن ممتزجة بالإيمان في الذين سمعوا". فيجب علينا أن نعرف أولاً أن الله رحيم لكي نحصل على الرحمة. ولا يكفينا أن نعرف أنه قد أظهر رحمة لنوح أو لإبراهيم أو لداود وأنه مرة أخرى سوف يظهر الرحمة في يوم ما سعيد في المستقبل، بل يجب علينا أن نؤمن بأن رحمة الله لا تعرف حداً، وهي مجاناً، وفي يسوع المسيح ربنا، وهي مقدمة لنا الآن في موقفنا الراهن.

          وقد نقضي العمر كله طالبين الرحمة ولكن بغير إيمان فإذا بنا في نهاية حياتنا ليس لنا إلا أمل أسيف بأننا سنحصل عليها يوماً ما وفي مكان ما. ومثلنا في ذلك كمثل من يموت جوعاً بجوار غرفة وليمة فاخرة قد دُعي إليها دعوة حارة، مع إننا نستطيع إذا أردنا أن نتمسك برحمة الله بالإيمان فندخل القاعة ونجلس بنفس جريئة مشتاقة لا تسمح بخوف أو عدم إيمان أن يمنعها من أن تتمتع بالأشياء الدسمة التي تم أعدادها:

          قومي يا نفسي قومي

          وانفضي عنك مخاوفك الأثيمة

          فالذبيحة العظمى

          التي قُدمت عني ها هي ظاهرة

          فضامني يقف أمام العرش

          واسمي مكتوب على يديه.

          لقد تم الصلح مع إلهي

          وها أنا أسمع صوته الغافر

          وهو يعترف بي ابناً له

          ولن أخاف بعد الآن

          بل أتقدم بثقة الآن

          وأقول "يا أبا الآب".

تشارلز وسلي

  • عدد الزيارات: 1344