Skip to main content

الفصل التاسع عشر: نعمة الله

 

          يا إله كل نعمة، يا من أفكارك من نحونا كلها أفكار سلام لا شر، أعطنا قلوباً تؤمن بأننا مقبولون في المحبوب. وأعطنا عقولاً تستحسن كمال الحكمة الأدبية التي وجدت طريقاً تحفظ طهارة السماء ومع ذلك تقبلنا فيها. إننا ليأخذ العجب منا كل مأخذ إنك وأنت القدوس هكذا والمخوف جداً تدعونا إلى وليمتك وتجعل عَلَمَك فوقنا محبة. إننا لا نستطيع أن نعبر عن شكرنا، ولكن نسألك يا رب أن تنظر إلى قلوبنا وأن تقرأ شكرنا لك فيها. آمين.

          إن الرحمة والنعمة واحدة في الله، ولكنهما إذ تصلاننا تبدوان كأنهما اثنتان، متصلتان ولكنهما غير متحدتين.

          وكما أن الرحمة هي صلاح الله حيال الشقاء والإثم البشريين هكذا هي النعمة هي صلاح الله نحو الدَين البشري وعدم استحقاق الإنسان. وبالنعمة وحدها يحسب الله لنا استحقاقاً حيث لا استحقاق هناك ويعلن أنه لا دَين علينا حيث كان الدين موجوداً قبلاً.

          والنعمة هي مسرة الله التي تجعله يغدق حسناته على من لا يستحقونها. وهي مبدأ كائن بذاته في الطبيعة الإلهية يبدو لنا كما هو استعداد قائم بذاته للإشفاق على الشقي، والعفو عن المسيء، والترحيب بالمنبوذ، والرضى عن أولئك الذين كانوا مغضوباً عليهم بعدل. وفائدة النعمة بالنسبة لنا هي أنها تخلصنا وتجلسنا معه في السمويات لتظهر في الدهور الآتية غنى لطف الله الفائق من نحونا في المسيح يسوع.

          ونستفيد إلى الأبد من كون الله ما هو. فلأنه هو ما هو فأنه يرفع رؤوسنا من السجن ويغير ثياب سجننا ويلبسنا ثياباً ملكية ويجعلنا نأكل خبزاً أمامه كل أيام حياتنا.

          والنعمة تنبع من قلب الله في عمق كيانه المقدس الرهيب العالي عن كل فهم. إلا أن السبيل الذي تفيض به النعمة إلى البشر هو يسوع المسيح المصلوب والمقام. والرسول بولس الذي سبق من عداه في شرح عمل النعمة في الفداء لا يفصل أبداً بين نعمة الله وبين ابن الله المصلوب، ففي كل تعليمة نجد الاثنين معاً، في وحدة عضوية لا انفصال فيها.

          ونجد في رسالته إلى أهل أفسس موجزاً كاملاً وافياً لتعليمه عن هذا الموضوع: "إذ سبق فعيّننا للتبني بيسوع المسيح نفسه حسب مسرة مشيئته لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته".

          ويتكلم يوحنا في الإنجيل الذي يحمل اسمه عن المسيح باعتباره الوسيط عن طريقه تصل النعمة إلى الجنس البشري "لأن الناموس لموسى أعطي. أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا".

          ولكن من السهل هنا أن نضل الطريق ونزيغ عن الحق، كما حصل للبعض. فلقد أجبروا هذه الآية على الوقوف بمفردها، بدون صلة مع الآيات الكتابية الأخرى التي تتحدث عن عقيدة النعمة، وذهبوا إلى أن هذه الآية تعلمنا أن موسى ما عرف إلا الناموس فقط وأن المسيح يعرف النعمة وحدها. وهكذا يجعلون العهد القديم كتاباً للناموس والعهد الجديد كتاباً للنعمة، ولكن الحقيقة غير ذلك.

          لقد أُعطي الناموس للناس بموسى ولكنه لم يصدر عن موسى. لقد كان في قلب الله قبل تأسيس العالم. ولقد صار دستور الشعب على جبل سيناء، ولكن المبادئ الأدبية التي احتواها إنما هي أبدية. ولم يكن هناك وقت من الأوقات لم يمثّل فيها الناموس إرادة الله للجنس البشري ولا كان هناك وقت لم يجلب فيه كسر الناموس العقاب والقصاص، مع أن الله عاملهم بطول أناة وكثيراً ما تغاضى عنه الشر بسبب جهالات الشعب. وتظهر حجج بولس المقنعة في الإصحاحين الثالث والخامس من رسالته إلى أهل رومية هذا واضحاً جلياً. فالآداب المسيحية تنبع من محبة المسيح، وليس من ناموس موسى، ولكن المبادئ الأدبية التي احتواها الناموس لم تُلغَ.وليس هناك طبقة محظوظة مستثناة من ذلك البر الذي بالناموس.

          والعهد القديم هو بحق كتاب ناموس وشريعة، ولكنه ليس كذلك وحسب، فقبل الطوفان قيل عن نوح أنه "وجد نعمة في عيني الرب" وبعد أن أعطي الناموس قال الله لموسى "لأنك وجدت نعمة في عيني". وكيف يمكن أن يكون شيء غير ذلك، فالله دائماً هو هو نفسه والنعمة صفة من صفات كيانه المقدس، فكما أن الشمس لا تقدر أن تخفي ضياءها فكذلك هو لا يقدر أن يخفي نعمته. قد يهرب الناس من ضوء الشمس إلى كهوف الأرض وأقبيتها المظلمة ولكنهم لا يستطيعون أن يطفئوا الشمس. وهكذا قد يحتقر الناس في أي عصر من العصور نعمة الله ولكن لا يمكن أن يخمدوها.

          ولو أن أزمنة العهد القديم كانت أزمنة ناموس قاس لا يلين لكان وجه العالم الأول كله أقل إشراقاً بكثير مما نراه مدوناً في الكتابات القديمة، ولما كان هناك إبراهيم خليل الله، ولا داود الذي كان رجلاً بحسب قلب الله، ولا صموئيل، ولا أشعياء، ولا دانيال، ولكان الإصحاح الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين، وهو عبارة عن قائمة الشرف لأبطال العهد القديم مظلماً موحشاً. لقد جعلت النعمة القداسة ممكنة في العهد القديم تماماً كما هي تفعل ذلك اليوم.

          إنه لم يخلص قط إنسان إلا بالنعمة من أيام هابيل حتى وقتنا هذا. ومنذ أن طرد الجنس البشري من جنة عدن لم يجد أحد ما نعمة عند الله إلا عن طريق صلاح الله وحسب. وحيثما وجدت النعمة أي إنسان فلقد كان ذلك دائماً بيسوع المسيح. فالنعمة حقاً صارت بيسوع المسيح، ولكنها لم تنتظر حتى مولده في مذود البقر أو موته على الصليب لكي تعمل، فالمسيح هو الحمل المذبوح منذ تأسيس العالم. وأول إنسان في التاريخ البشري أعيد إلى الشركة مع الله قد أعيد إلى تلك الشركة بالإيمان بالمسيح. وفي العهد القديم تطلع الناس إلى الأمام إلى عمل المسيح الفدائي، وفي العهد الجديد هم ينظرون إلى الوراء إليه، ولكنهم وصلوا وما زالوا يصلون بالنعمة بالإيمان.

          ويجب ألا يغرب عن البال أن نعمة الله سرمدية ولا حدود لها وكما أنه لا بداءة لها فكذلك ليس لها نهاية. وبما أنها صفة من صفات الله فلذلك هي بلا حدود كاللانهائية.

          وبدلاً من أن يرهق الإنسان نفسه لمعرفة هذا الحق اللاهوتي فمن الأحسن والأسهل أن نقرن نعمة الله مع حاجتنا نحن، فليس من المستطاع أن ندرك فداحة خطيتنا، بل ليس من الضروري أن نعرف ذلك. وما نستطيع أن نعرفه هو هذا "حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً".

          "والإكثار" من الخطية هو أسوأ ما نستطيع فعله. فالإكثار هذا يعني الحد الذي يمكن أن يصل إليه مقدورنا المحدود. ومع أننا نشعر بأن خطايانا علت فوقنا كالجبل، فإن ذلك الجبل على أي حال له حدود واضحة المعالم، فهو كبير جداً، وعالٍ جداً، ويزن قدراً معيناً لا يزداد. ولكن من هو الذي يستطيع أن يصف نعمة الله التي لا حد لها. فالعبارة "ازدادت...جداً" تغطس بأفكارنا إلى اللانهائية وتحيرها هناك. وشكراً لله فكل ذلك بفضل النعمة المتزايدة.

          ونحن الذين نشعر في أنفسنا أننا غرباء عن الشركة مع الله نستطيع أن نرفع رؤوسنا الفاشلة وأن ننظر إلى فوق، وبفضل موت المسيح الكفاري قد أزيل سبب إبعادنا، ويمكننا الآن الرجوع كما رجع الابن الضال فنجد الترحاب ينتظرنا. وإذ ندنو من الجنة التي كانت منزلنا قبل السقوط نجد أن سيف النار قد رفع، وحارسا شجرة الحياة يقفان جانباً عندما يريان ابناً للنعمة راجعاً.

          ارجع أيها التائه، ارجع الآن

          واطلب وجه الآب

          إن هذه الرغبات التي تتقد فيك

          قد أشعلتها نعمة الله.

          ارجع أيها التائه، ارجع الآن

          وكفكف الدمع المتساقط

          فالآب يدعوك، لا تبك بعد الآن

          فالمحبة هي التي تدعوك أن تقترب وتدنو.

          وليام بنكو كولير William Benco Collyer

  • عدد الزيارات: 1340