Skip to main content

الفصل السابع عشر: عدل الله

 

          يا أبانا إننا نحبك من أجل عدلك، ونعترف بأن أحكامك حق وعدل. وعدلك يدعم نظام الكون ويضمن سلامة كل من يتّكلون عليك، وحياتنا رهن بعدلك ورحمتك. قدوس، قدوس، قدوس، الرب الإله القادر على كل شيء البار في كل طرقك والقدوس في كل أعمالك، آمين.

يندر أن يتميز عدل الله عن بره في الكتاب المقدس. فالكلمة الأصلية عينها تترجم أحياناً عدلاً وأحياناً براً.

ويؤكد العهد القديم عدل الله بلغة صريحة واحدة جميلة جمال أي أسلوب أدبي. وعندما أعلن هلاك سدوم تشفع إبراهيم عن الأبرار الذين كانوا في المدينة مذكراً الله أنه لا بد أن يتصرف طبقاً لذاته في تلك المحنة البشرية. "حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار كالأثيم حاشا لك. أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً".

          والصورة الكائنة في ذهن صاحب المزامير والأنبياء عن الله هي صورة حاكم كلي القدرة عالٍ ومرتفع يحكم بالعدل والمساواة. "السحاب والضباب حوله. العدل والحق قاعدة كرسيه". وتنبأ الأنبياء أنه عندما يأتي المسيّا المنتظر طويلاً سيحكم بين الشعوب بالبر ويقضي بالعدل للمساكين. ولقد صلى رجال الله القديسون الرحماء وقد أغضبهم ظلم حكام العالم قائلين "ارتفع يا ديان الأرض. جازِ صنيع المستكبرين. حتى متى الخطاة يا رب. حتى متى الخطاة يشمتون" وليست هذه صلاة للانتقام الشخصي بل هي رغبة لرؤية العدل والإنصاف يسودان المجتمع الإنساني.

          ولقد اعترف رجال كداود ودانيال بإثمهم حيال بر الله ونتيجة لذلك حصلت صلواتهم التي رفعوها بتوبة وندامة على قوة وفاعلية "لك يا سيد البر. أما لنا فخزيُ الوجوه". وعندما تبدأ دينونة الله التي طال تأخيرها بالنزول على العالم يرى يوحنا القديسين الظافرين واقفين على بحر من الزجاج الممزوج بالنار وفي أيديهم قيثارات الله. وهم يترنمون ترنيمة موسى والحمل وموضوع ترنيمتهم عدل الله: "عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر على كل شيء. عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين. من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك لأنك وحدك قدوس لأن جميع الأمم سيأتون ويسجدون أمامك لأن أحكامك قد أُظهرت".

          والعدل يشتمل على فكرة المساواة الأدبية، أما الإثم فهو على العكس من ذلك، إنه انعدام المساواة من الأفكار والأعمال البشرية. والعدل تطبيق المساواة على المواقف الأدبية، وهو معنا أو علينا تبعاً للشخص الذي هو تحت الفحص، هل كان منصفاً أو غير منصف في قلبه وسلوكه.

          وأحياناً يقال "إن العدل يتطلب أن يفعل الله هكذا"، وهنا تكون الإشارة إلى عمل ما نعرف أنه سيفعله. وهذا خطأ في التفكير وفي القول لأنه يفترض مبدأ للعدالة خارجاً عن كيان الله يضطره إلى التصرف بطريقة ما. وبالطبع ليس هناك مبدأ كهذا، فلو كان مثل هذا المبدأ لكان أرفع من الله، لأن القوة الرفيعة هي التي تفرض الطاعة. والحق كله هو أنه لا يمكن أن يكون هناك شيء خارج طبيعة الله يدفعه للحركة، أية حركة. وكل أسباب الله تصدر عن كيانه الداخلي غير المخلوق، ولم يزد شيء على كيان الله منذ الأزل، كما لم يُستبعد شيء ولم يتغير شيء.

          وعندما نتكلم عن عدل الله فنحن نطلق الكلمة على كيان الله، لا أكثر. وعندما يعمل الله بعدل فهو لا يعمل ذلك ليوافق خاصة مستقلة من خواصه بل إنما هو يتصرف طبقاً لذاته في موقف معين. وكما أن الذهب عنصر في ذاته ولا يمكن أن يتغير أو يساوم، بل هو ذهب أينما وجد فهكذا الله هو الله، دائماً، فحسب، الله كله، ولا يمكن أن يكون إلا ما هو. وكل شيء في الوجود يكون صالحاً على قدر ما يتفق مع طبيعة الله، ويكون صالحاً على قدر ما لا يتفق مع طبيعة الله، فالله هو مبدؤه للمساواة الأدبية الكائن بذاته، وعندما يعاقب الأشرار أو يكافئ الأبرار فهو إنما يعمل وفقاً لذاته من باطنه غير متأثر بأي شيء خارجٍ عنه.

          وكل هذا يبدو (من الظاهر فقط) كأنما هو يدحض كل رجاء لتبرير الخاطئ الراجع التائب. ولقد حاول الفيلسوف القديس انسلم رئيس أساقفة كنتربري أن يجد حلاً للتناقض الظاهري بين عدل الله ورحمته. فتساءل أمام الله: "كيف تعفو عن الشرير وأنت الكلي العدل والكامل العدالة". ثم وجه نظره رأساً نحو الله ينتظر الإجابة عن سؤاله لأنه عرف أن الجواب موجود في ما هو الله. ويمكن تلخيص ما وجده انسلم فيما يلي: فكيان الله واحد ، فهو لا يتكون من أجزاء تعمل في موافقة واتزان، بل هو واحد وحسب، وليس في عدله ما يمنع رحمته. وتفكيرنا عن الله كما نفكر أحياناً عن محكمة يجلس فيها قاض عطوف، مُلزَم بقانون، وهذا القاضي يحكم معتذراً على رجل بالموت والدموع في عينيه، هذا التفكير لا يليق أن نفكره عن الله الحق، فالله لا يتناقض أبداً مع نفسه، ولا تتعارض صفة من صفاته مع الصفات الأخرى.

          إن رحمة الله تنبع من صلاحه، والصلاح بدون عدل ليس صلاحاً فالله يعفو عنا لأنه صالح، ولكنه لا يقدر أن يكون صالحاً إن لم يكن عادلاً. ويختم انسلم حديثه بقوله أن الله عندما يعاقب الأشرار فهو يعاقبهم لأن ذلك يتناسب مع ما يستحقونه، وعندما يرحم الأشرار فهو يرحمهم لأن دلك يتناسب مع صلاحه، ولهذا فالله يعمل ما يناسبه لأنه الإله الصالح الصلاح الأعظم. هذا هو العقل الذي يسعى لكي يفهم، لا لكي يؤمن فهو قد آمن فعلاً.

          وفي التعليم المسيحي عن الفداء نجد حلاً أبسط وأكثر شيوعاً للمشكلة التي تقول كيف يمكن أن يكون الله باراً وفي الوقت نفسه يبرر الأثيم. وهكذا فإن العدل لا ينقض بعمل المسيح في الفداء بل يأخذ مجراه عندما يعفو الله عن الخاطئ. فالتعليم اللاهوتي عن الفداء يقول بأن الرحمة لا تتم على إنسان حتى يعمل العدل عمله. فقصاص الخطية الحق قد استوفي عندما مات المسيح بديلُنا عنا على الصليب. ومهما كان سمع هذا ثقيلاً على أذن الإنسان الطبيعي فقد كان دائماً لذيذاً لأذن الإيمان. ولقد غيرت هذه الرسالة الملايين أدبياً وروحياً فعاشوا حياة القوة الأدبية العظمى ثم ماتوا في النهاية بسلام واثقين بها ومتكلين عليها.

          وهذه الرسالة عن العدل الذي استوفى حقه والرحمة التي تعمل عملها هي أكثر من مجرد نظرية سارة طيبة، فإنها تعلن حقيقة أوجبتها حاجة البشر الملحّة. فنحن جميعنا تحت حكم الموت بسبب خطايانا، وهو حكم نجم عندما التقى العدل مع موقفنا الأدبي. فعندما التقى العدل غير المحدود مع إثمنا المزمن العنيد دارت حرب ضروس بين الاثنين، وهي حرب انتصر فيها الله كما هو دائماً منتصر. ولكن عندما يلقي الخاطئ التائب بنفسه على المسيح طالباً الخلاص ينعكس الموقف الأدبي. فيتقابل العدل مع الموقف المتغير ويحكم ببراءة المؤمن. وهكذا يقف العدل فعلاً في جانب أولاد الله المتكلين عليه. وهذا هو معنى الكلمات الجريئة التي نطق بها الرسول يوحنا "إن اعترافنا بخطايانا هو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم".

          ولكن عدل الله يقف أمام الخاطئ إلى الأبد بكل قسوته. أما التعلل بذلك الأمل المبهم الهزيل بأن رحمة الله لا تسمح بعقاب الخاطئ فهو مخدر قتال خدّر ضمائر الملايين من البشر. فهو يهدئ روعهم ويجعلهم يمارسون كل أنواع الإثم الممتعة بينما الموت يزحف نحوهم رويداً رويداً وهم لا يأبهون بالدعوة إلى التوبة. إننا نتجاسر أن نغامر هكذا بمستقبلنا الأبدي فنحن خلائق ذوو مسؤولية أدبية:

          يا يسوع إن دمك وبرّك

          هما زينتي وهما ثوبي المجيد

          وإذ ارتديهما في العوالم الساطعة

          أرفع رأسي بفرح.

          سأقف بجرأة في يومك العظيم

          فمن هو ذلك الذي يشتكي عليّ

          إنني أقف مبرراً بهما براً تاماً

          من الخطية والخوف والذنب والعار.

 الكونت ن. ل. فون زنزندورف

 Count N. L. von Zinzendorf

  • عدد الزيارات: 2538