الفصل السادس عشر: صلاح الله
أحسن إلينا برضاك يا رب. لا تعاملنا حسب ما نستحق بل حسب ما يوافقك يا الله، وهكذا لا يكون هناك ما يخيفنا في هذه الحياة أو الحياة الأخرى، آمين.
تعني كلمة صالح أشياء كثيرة عند أناس كثيرين ولذلك يجمل بنا أن نبدأ هذه الدراسة المختصرة لموضوع صلاح الله بتعريف لهذه الكلمة. ولن نستطيع الوصول إلى معنى هذه الكلمة إلا باستعمال مرادفات كثيرة لها. فنبتدئ من طرق مختلفة إلى حيث بدأنا.
وعندما يقول علم اللاهوت المسيحي أن الله صالح فليس المراد هو عينه عندما نقول إنه بار أو قدوس. فقداسة الله تعلنها أبواق السماء ويتجاوب أصداءها القديسون والحكماء في الأرض حيث أعلن الله نفسه للناس. على أننا هنا لسنا في مقام التأمل في قداسته بل في صلاحه، وهو شيء آخر تماماً.
فصلاح الله هو ما يجعله شفوقاً رؤوفاً، عطوفاً، ومحسناً، ومملوءاً مسرة نحو الناس. وهو عطوف وكثير الرأفة، وإحساناته نحو الخلائق الأدبية مفتوحة للكل وصريحة وصديقة، وهو بطبيعته يحب أن يفرق النِعَم والبركات وهو يُسرَّ بسعادة عبيده.
وصلاح الله واضح تصريحاً وتلميحاً على كل صفحة من صفحات الكتاب المقدس ويجب قبوله كمادة من مواد قانون الإيمان، حصينة حصانة عرش الله. وهو حجر الأساس لكل تفكير سليم عن الله وهو ضروري لكل رزانة أخلاقية. والتسليم بأن الله يمكن أن يكون غير صالح إنكار لصحة كل فكر وهذا يؤدي إلى نقص كل حكم أدبي. فإن لم يكن الله صالحاً فلا فرق إذن بين اللطف والقسوة، والسماء قد تكون جحيماً والجحيم سماءً.
وصلاح الله هو سبب كل البركات التي يفرقها علينا كل يوم. فقد خلقنا الله لأنه سر قلبياً بخلقنا، ثم فدانا للسبب عينه.
ولقد رأت جوليان أوف نوريتش Julian of Norwich التي عاشت منذ ستمائة سنة خلت، إن أساس كل بركة هو صلاح الله. وفي مطلع الفصل السادس من كتابها الجميل جمالاً لا يصدق: إعلان محبة الله Revelation of Divine Love تقول: "هذا العرض قصد به أن يعلم نفوسنا أن تلتصق بكل تعقل بصلاح الله"، ثم تستطرد إلى ذكر بعض الأعمال العظيمة التي عملها الله لأجلنا وبعد كل منها تقول "من صلاحه". ثم رأت إن كل أوجه نشاطنا الديني وكل وسائل النعمة، مهما كانت صحيحة ونافعة لا تعني شيئاً حتى نفهم أن صلاح الله النابع من ذاته الذي لا نستحقه، هو أساس كل أعماله.
وصلاح الله، باعتباره صفة من صفاته، هو من ذاته، غير محدود، كامل، وسرمدي، وبما أن الله لا يتغير فهو لا يتغير في وفرة لطفه، فلم يكن قبلاً ألطف مما هو الآن ولن يكون أقل لطفاً مما هو الآن. وهو لا يحابي بالوجوه بل يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. وسبب صلاحه كائن في ذاته. وكل الذين ينعمون بصلاحه ينعمون به ليس على سبيل الاستحقاق أو المجازاة.
ويتفق هذا مع العقل، كما تسارع الحكمة الأدبية الواعية إلى الاعتراف بأنه لا استحقاق في سلوك بشري، لا ولا في أنقى سلوك وأحسنه. وصلاح الله هو دائماً أساس انتظارنا ورجائنا. ومع أن التوبة ضرورية إلا أنها لا تنال أجرة بل هي شرط لازم لحصولنا على عطية الغفران التي يمنحها الله لصلاحه. وكذلك الصلاة لا تستحق أجرة في ذاتها، وهي لا تُلزم الله ولا تجعله تحت دين لإنسان ما، بل هو يستجيب الصلاة لأنه صالح وليس لسبب آخر. وكذلك الحال مع الإيمان فهو لا يستحق ثناء بل هو الثقة في صلاح الله، وعدم الإيمان هو نقد لسجايا الله القدوس.
ويمكن تغيير نظرة البشر جميعاً لو أننا جميعنا آمنا بأننا نعيش تحت سماء صديقة. وإن إله السماء تواق إلى مصادقتنا مع أنه عالٍ في قوته وجلاله.
ولكن الخطية جعلتنا متخوفين ووجلين وهذه نتيجة حتمية. ولقد أنتجت فينا السنون الطويلة من العصيان على الله خوفاً لا يمكن قهره في يوم واحد، والأسير لا يدخل بفرح وسرور إلى حضرة الملك الذي حاربه طويلاً ليقهره، ولكن بدون جدوى. ولكن إذا ما كان ذلك الأسير نادماً ندماً حقيقياً فعندئذ يستطيع التقدم إلى الله واثقاً في لطف الله، وعندئذ لا يحسب عليه ماضيه. ويشجعنا مايستر اكهارات Meister Eckhart على أن نتذكر أننا عندما نرجع إلى الله فإن خطايانا ولو كانت ككل خطايا البشر مجتمعة فالله لا يحسبها علينا، بل إنه يثق بنا كما لو كنا لم نخطئ أبداً.
ولعل إنساناً يرغب مخلصاً في أن يتصالح مع الله بالرغم من خطاياه السابقة ويسأل بحذر "إذا ما أتيت إلى الله فكيف يعاملني؟ ما هو استعداده؟ كيف سأجده؟"
والجواب هو أنك ستجده كيسوع تماماً. قال يسوع "من رآني رأى الآب". فلقد مشى المسيح مع الناس على الأرض حتى يريهم كيف يكون الله، ولكي يظهر طبيعة الله الحقة لأناس تكونت لديهم أفكار خاطئة عنه. هذا واحد فقط من الأشياء التي عملها عندما كان في الجسد، ولقد عمله في كمال جميل.
ونتعلم منه كيف يتصرف الله حيال الناس. فالمنافق وغير المخلص غير مكترث ومبتعداً كما وجدوا يسوع مرة، ولكن التائب سيجده رحيماً، والنادم سيجده كريماً وشفوقاً، وهو صديق للخائف، وغافر للمساكين بالروح، ومترفق بالجهال، ولطيف بالضعفاء ومضيف للغرباء.
ويمكن أن نحدد طريقة قبوله لنا بموقفنا نحن منه. ومع أن لطف الله نبع من الود أبدي لا ينضب معين مائه، إلا أنه لا يجبرنا على قبول حبه، فإذا ما أردنا أن نجد الترحاب الذي قوبل به الابن الضال وجب علينا أن نأتي كما جاء الابن الضال، وعندما نأتي كذلك فسوف نجد مائدة من الترحاب في الداخل وموسيقى ورقصاً إذ يضم الآب السماوي ابنه الراجع إلى قلبه حتى ولو وقف الفريسيون والناموسيون خارجاً كارهين محتجين.
إن عظمة الله تثير الخوف والهلع فينا، ولكن صلاحه يشجعنا على ألا نخاف منه. ومن متناقضات الإيمان أن نخاف ولا نفزع:
يا الله، يا رجائي ويا راحتي السماوية
وكل سعادتي هنا على الأرض
امنحني سؤلي الملحّ
وأعلن صلاحك لي، لي أنا
وأظهر وجهك السعيد
الذي هو بهاء الصبح الأبدي.
وأمام عيني إيماني المستنير يئن
أَجِز كل صلاحك الإلهي
فإن صلاحك هو المشهد الذي أُجلّه
فليتني أشاهد وجهك المبتسم
وأعلن طبيعتك في نفسي
وأعلن محبتك وأسمك المجيد.
تشارلز وسلي
- عدد الزيارات: 2785