الفصل الخامس عشر: أمانة الله
حسن هو الحمد للرب والترنم لاسمك أيها العلي أن يخبر برحمتك في الغداة وأمانتك في كل ليلة. وكما كان ابنك في ولائه لك عندما كان على الأرض يا أباه السماوي، هكذا الآن في السماء هو أمين لنا نحن أخوته على الأرض وبهذه المعرفة نحن نتقدم بكل رجاءٍ واثقٍ كل السنين والدهور الآتية آمين.
إن صفات الله كما قلنا سابقاً ليست هي سجايا منفصلة مستقلة لمسلكه بل هي مظاهر وأوجه لكيانه الواحد. وليست هي أموراً في حد ذاتها بل هي أفكار نفكر نحن بها عن الله، مظاهر لكلٍ كاملٍ، أسماء لكل ما نعرف أنه يصدق على اللاهوت الأقدس.
ولكي يكون فهمنا لصفات الله فهماً صحيحاً يجب أن نراها ككل. إننا نستطيع أن نفكر فيها كلٍ على حدته ولكنها لا يمكن أن تُفصل الواحدة عن الأخرى. يقول نيكولاس اوف كوسا Nicholas of Cusa : "لا يمكن أن تختلف الصفات التي ننسبها لله في حقيقتها وذلك لبساطة الله الكاملة مع إننا بطرق مختلفة نستعمل كلمات مختلفة عن الله. ولذلك فمع إننا ننسب لله البصر والسمع والذوق والشم واللمس والحس والعقل والذكاء وغير ذلك تبعاً لما تعنيه كل كلمة إلا أن البصر فيه يختلف عن السمع أو الذوق أو الشم أو اللمس أو الحس أو الفهم، وهكذا فكل علم اللاهوت كما يقال يرسم في دائرة لأن كل صفة من صفاته تعالى تؤكدها أخرى".
وعندما ندرس إحدى الصفات تتضح حالاً الوحدة الأساسية لكل الصفات فنرى مثلاً إنه لما كان الله موجوداً بذاته فيجب بالتالي أن يكون مكتفياً في ذاته، وإذا ما كانت له القوة وجب أن تكون له كل القوة لأنه غير محدود. وإذا ما كان له علم فإن عدم محدوديته تؤكد لنا أن له كل العلم. وكذلك فإن عدم تغيره تفترض أمانته. وإذا ما كان غير متغير فهو بالتالي لا يقدر أن يكون غير أمين وإلا لوجب عليه أن يتغير فكل تقصير في المسلك الإلهي يدل على عدم الكمال، ولكن بما أن الله كامل فلا يمكن إذن لكل ذلك أن يحدث. وهكذا فإن الصفات تفسر إحداها الأخرى وتنهض دليلاً على إنها ومضات يستمتع بها العقل عن الله الكامل كمالاً مطلقاً.
وأعمال الله كلها متوافقة مع صفاته، فلا تتعارض أية صفة مع صفة أخرى، بل تتجانس وتتوافق كلها وتندمج في بعضها البعض في عمق الله الذي لا يحد. وكل ما يعمله الله يتناسب مع كيان الله. فالكيان والعمل هما واحد فيه. والصورة التي تُرسم عادة لله بأنه محصور بين العدل والرحمة إنما هي صورة لا تتفق أبداً مع الحقائق. فالتكفير في أن الله يميل أولاً إلى الناحية الواحدة ثم بعد ذلك إلى الناحية الأخرى معناه أن يتخيل الإنسان إلهاً غير واثق من ذاته، فاشلاً وغير مستقر من الناحية الوحدانية، أي أن ذلك الذي نفكر فيه هكذا ليس إلهاً بالمرة بل هو انعكاس ذهني ضعيف غير مركّز له.
ولأن الله هو من هو، فلذلك لا يمكنه أن يتوقف عن أن يكون ما هو عليه، ولأنه هو ما هو لا يمكنه أن يعمل ما يتنافى مع ذاته. فهو لفوره أمين ولا يتغير وهكذا الحال مع أقواله وأعماله ولا بد أن تظل أمينة. والناس يصبحون غير أمناء عن طريق الرغبة أو الرهبة أو الضعف أو عدم الاهتمام أو لتأثير خارجي قوي. وبديهي أن الله لا يتأثر بأي حال من الأحوال. فهو مصيب في كل ما هو وفي كل ما يعمله، ولا يمكن أن يتعرض لضغط أو إكراه خارجي بل هو يتكلم ويعمل من الداخل حسب مشيئته المطلقة ومسرته.
ومن الممكن القول أن كل بدعة أصيبت بها الكنيسة على مر السنين مرجعها تصور أشياء غير صحيحة عن الله، أو تشديد أكثر من اللازم على بعض النقاط الصحيحة وإغفال البعض الآخر مما يستوي في صحته مع تلك النقاط. فتعظيم صفة على صفة أخرى معناه السير قدماً نحو مستنقعات لاهوتية مظلمة، ومع ذلك فالتجربة لعملٍ كهذا قوية أمامنا دائماً.
فالكتاب المقدس مثلاً يعلمنا أن الله محبة، ولقد فسر البعض هذا بطريقة كأنها إنكار صحيح لعدله، ذلك العدل الذي يعلمنا إياه الكتاب المقدس أيضاً. وآخرون ينّبرون على تعليم الكتاب المقدس عن صلاح الله لدرجة أنهم يجعلون هذا الصلاح يتعارض مع قداسته، أو أنهم يجعلون حنانه يلغي حقه، وغيرهم يفهمون سيادة الله بطريقة تجعلها تلغي صلاحه ومحبته أو على الأقل تقللهما.
إن نظرتنا إلى الحق تكون صحيحة إذا ما آمنّا بكل شيء قاله عن نفسه. إنها لمسؤولية عظمى تلك التي يأخذها الإنسان على عاتقه عندما يستنبط من إعلانات الله عن نفسه صوراً لا يقبلها ذلك الإنسان في جهله. وكل من يتجاسر منا فيحاول أن يفعل مثل هذا الأمر لا شك أنه سيصاب بعمىً جزئي: وهذا أمر لا داعي له على الإطلاق. فلا يجب علينا أن نخشى أن يبقى الحق كما هو مكتوب، فصفات الله لا تتعارض مع بعضها البعض، وكيان الله وحيد فريد، فهو لا يمكن أن يتجزأ في ذاته ويعمل في وقت ما بحسب صفة من صفاته بينما تبقى الصفات الأخرى بلا عمل. فكل ما هو الله يجب أن يتفق مع كل ما يعمله الله. فالعدل يجب أن يوجد في الرحمة، والمحبة في الدينونة، وهكذا الحال مع بقية الصفات.
وأمانة الله من جملة معلومات علم اللاهوت الصحيح، ولكنها للمؤمن أمر يفوق ذلك بكثير، فهي تمر في عملية التفكير فتصبح غذاءً نافعاً للنفس. فالكتاب المقدس لا يعلم الحق فحسب بل هو يبين فوائده ومزاياه للبشر. فالكتّاب الذين أوحى إليهم كانوا أناساً نظيرنا وعاشوا في وسط الحياة، ولقد أصبح لهم ما تعلموه عن الله بمثابة السيف والدرع والمطرقة، وغدا الدافع والحافز على الحياة، ورجاءهم الصالح، وانتظارهم الوطيد، ولقد حصلت قلوبهم على آلاف مؤلفة من الاستنتاجات المفرحة والاختبارات الشخصية من الحقائق اللاهوتية المنظورة وكتاب المزامير تتجاوب أصداؤه بالشكر والفرح لأمانة الله، ويتابع العهد الجديد هذا الموضوع ويعظم أمانة الله الآب وابنه يسوع المسيح الذي اعترف الاعتراف الحسن أمام بيلاطس البنطي، ونرى يسوع المسيح في سفر الرؤيا راكباً على فرس أبيض وخارجاً للغلبة والنصرة والأسماء التي يحملها هي أمين وصادق.
وكذلك فالترانيم المسيحية تعظّم صفات الله ومن ضمنها أمانة الله وفي ترانيمها الحلوة تصبح صفات الله ينابيع تفيض منها أنهار النغم المفرحة، ولا زالت هناك بعض كتب الترانيم القديمة التي لا تحمل فيها الترانيم أسماء، وفي أعلى كل منها سطر بالخط الرفيع يتحدث عن موضوعها، ولا يسع القلب العابد إلا أن يفرح بما يجد، إذ فيها تتعظم كمالات الله المجيدة مثال ذلك: "الحكمة والجلال والصلاح"، "العلم بكل شيء"، "القدرة على كل شيء وعدم التغير"، "المجد والرحمة والنعمة". هذه أمثلة بسيطة أخذناها من كتاب ترنيم صدر في سنة 1849، ولكن كل من له دراية بالترانيم المسيحية يعلم أن فيض الترانيم المقدسة منبعه في القديم في أيام الكنيسة الأولى. لقد كان الإيمان بكمال الله منذ البداءة مصدر تأكيد حلو للمؤمنين وقد علّم الأجيال أن ترنم.
ويرتكز كل رجائنا بمستقبل سعيد على أمانة الله، وعهوده قائمة وأمينة لأنه هو أمين. ولن نعيش في سلام وننتظر الحياة الآتية بثقة وتأكيد إلا إذا كان لنا اليقين الأكيد بأمانته تعالى.
ويستطيع كل قلب أن يأخذ هذا الحق لنفسه وأن يستخلص منه النتائج التي يوحيها الحق ويوضحها. وكل مجرّب وقلق وخائف ويائس يستطيع أن يجد أملاً جديداً وفرحاً أكيداً بمعرفته أن أبانا السماوي أمين وأنه دائماً صادق في كلامه. ويستطيع كل أبناء العهد المجرّبين أن يتأكدوا أنه لن يرفع رحمته عنهم أو يغير أمانته نحوهم:
سعيد هو الرجل الذي يستند رجاؤه
والأرض والبحر وكل ما فيها
وحقه ثابت إلى الأبد
وهو يخلص المتضايق ويطعم الجائع
ولن يخيب أحد من وعده.
إيزاك واتس
- عدد الزيارات: 1700