العالم من منظار السينما المعاصرة
عرفت البشرية منذ القديم وفي عدة نواحي من العالم أهمية الروايات واشتهرت المسارح في أماكن كثيرة من الأرض. وفي آداب الشعوب تدرس إلى يومنا هذا المؤلفات الروائية الكلاسيكية وتمثل أحيانا هذه المسرحيات بنجاح باهر.
وقرننا هذا امتاز عن القرون السالفة في موضوع المسرح بأنه جعله مسرحا مصورا ومتحركا ومتنقلا، وأعني بذلك أن فن الصور المتحركة أو السينما قد جعل من فن التمثيل أكثر تأثيرا على الناس نظرا لسهولة تنقله وذهابه إلى سائر أنحاء العالم اما في قالبه المحلي أو بواسطة ترجمات مكتوبة على الفيلم أو أحيانا ترجمة الكلام.
وسوف نحصر ملاحظتنا اليوم في بعض المظاهر المؤسفة التي برزت إلى الوجود بعد الحرب العالمية الثانية وفي حقل السينما. وقبل كل شيء لا نود أن نقول بأن كل ما ظهر على الشاشة العالمية منذ نحو خمسة وعشرين سنة هو غير جيد وغير بناء. هناك بعض الأفلام الرائعة التي أتت إلى الوجود والتي عالجت مواضيع روائية أو تاريخية على أحسن مستوى وبصورة بناءة. ما نود أن نلفت الأنظار اليه في بحثنا اليوم هو أن السينما المعاصرة التي تود معالجة أمور الحياة المعاصرة قد فرطت جدا في وصف وتصوير المشاكل الحياتية التي تقض مضجع الإنسان وقد كتب احدهم عن بعض الأفلام التي كانت معروضة حديثا بأنها " كلها خيال للمجتمع.. في قيمه الزائفة وتدهوره نحو الهلاك. كلها تقدم شخصيات معذبة تفتش عن معنى لو جودها، تتساءل عن مدى مسؤوليتها في ضياع حياتها "
لاشك أن القرن العشرين الذي وقع فريسة لصنميات من أشكال وأنواع مختلفة قد جاء بفراغ هائل مما أدى بدوره إلى ضياع الحياة وبروز قيم حياتية زائفة! ليس من إنسان واقعي يمكنه إنكار هذه المظاهر المؤسفة. ولكن وجودنا في أزمة روحية عالمية الأبعاد لا يعني أننا نستطيع أن نعمل كل شيء يخطر ببالنا وخاصة في حقل السينما والفن. مثلاً نلاحظ في المقالات التي تصف لنا بعض الأفلام المعاصرة رغبة المخرجين في انتهاك حرمة قدسية الحياة البشرية. لم يعد شيء في حياة الإنسان الا وصار عرضة بأن يصور للناس. لا الحياة الزوجية ولا مشاكلها المتعددة ولا المواضيع المتعلقة بحياة الإنسان الجنسية هي اليوم في أمان من تصويرها بكل واقعية وعرضها على الشاشة البيضاء! طبعا الفنان يود أن يكون واقعيا لا كذابا أو مرائيا أو منافقا في وصفه للواقع البشرى المؤلم ولكنه كيف يستطيع أن يضرب بأمور الحشمة عرض الحائط فيصور أمورا لا يجوز أن تظهر على الشاشة السينمائية؟ كيف يعطي لنفسه الصلاحية بأن ينسى كل التراث القديم الذي مع انه لم يكن كاملا الا انه لم يكن خاليا من الحكمة والدراية؟
الجواب الذي نحصل عليه اليوم من الطليعيين في فن السينما هو أن عرض كل شيء (حتى الأمور الحساسة للغاية). انما له قيمة فدائية. يقولون لنا أن اظهار كل شيء على شاشة السينما لا يعني طغيان الاباحية على الفن بشرط أن يكون في الفيلم المعين قيمة فدائية. يا ترى من اخترع هذا المحك للتفريق بين مشهد اباحي ومشهد مقبول؟ ومتى صار عرض كل شيء يجرى في حياة الإنسان – حتى الأمور غير الطبيعية – في فيلم سينمائي يمتاز بقيمة فدائية؟ ما هي هذه الفلسفة الغريبة التي تجتاح عالمنا اليوم وهل علينا الرضوخ لها وكأنها وحي من السماء؟
وعلاوة على انتهاك حرمة قدسية الحياة البشرية ولاسيما الحياة الزوجية والمشاكل المتعلقة بحياة الإنسان الجنسية فاننا نرى فكرة أو نظرة حياتية خاطئة للغاية قد تبنيت في الكثير من المنتوجات السينمائية المعروضة في مدن العالم اليوم. نعني أن الفلسفة التي تكمن وراء هذه الأفلام انما تعطينا تفسيرا خاطئا لمعنى الحياة ولنوعية ضياع حياة الكثيرين من مواطني القسم الأخير من القرن العشرين. من ينكر أن المجتمع المعاصر الذي نسى الله وأمور شريعته وبرنامجه الفدائي، صار يعاني من أمراض روحية عديدة وان قيمه في أكثرها تافهة وزائفة وانها تؤدى إلى الهلاك؟ ولكن هذا لا يعني أن الفرد أو الإنسان هو غير مسؤول. كل إنسان هو مسؤول عن موقفه من الحياة وعن تصرفاته وعن أعماله وعن كل ما يصدر منه ككائن عاقل. لا يمكننا أن نلوم الآخرين، كل إنسان مسؤول عن ذاته. لا تلم النجوم ولا تلم القدر ولا تلم غيرك بل اعلم انك انت مسؤول عن كل شيء.
طبعا الحياة لا معنى لها في ذاتها، الوجود هو وجود قاس وفارغ من المعنى أن تصورناه وجودا باردا مستقلا عن الله. الحياة بأسرها هي عبارة عن علاقة، علاقة الإنسان مع ربه وباريه وعلاقة الإنسان مع أقرانه بني البشر. فان جد الإنسان باحثا ومفتشا عن معنى الوجود وان تساءل عن مدى مسؤوليته في ضياع حياته – فإنه لن يجد لا حلا ولا جو ابا أن كان قد قرر مسبقا بأن الله غير موجود أو انه تعالى غير آبه بأمور دنيانا.
من المهم جدا لنا في هذه الأيام العصيبة أن نسعى وراء معنى الحياة ولكنه لا يجوز لنا مطلقا بأن نقوم بذلك وكأن الله لم يتكلم أو كأنه لم يقم بأي شيء من أجل إنقاذ البشرية. لا حل لمشاكلنا المتكاثرة بدون الله القادر على كل شيء. وهو تعالى قد قام بتنفيذ خطته الخلاصية والإنقاذية عندما أرسل المسيح إلى عالمنا منذ نحو ألفي سنة. ولقد أظهر المسيح له المجد بواسطة تعاليمه وأعماله بأن الإنسان هو عدو الإنسان أي انه من واجب الإنسان أن يقر بأنه لا يحيا بمقتضى قانون الحياة والوجود. حياة الإنسان تسير بشكل جذرى على طريق الأنانية ومحبة الذات والنفعية والإنسان ذاته يعمل دوما على تأليه أو جه معينة من الحقيقة ناسبا اليها صفة المطلق. وبكلمة أخرى : لا يحب الإنسان الله خالقه بصورة تامة ولا يحب قريبه الإنسان كذاته. الإنسان خاطي بمعنى انه يحيد عن جادة الحق والصواب.
طبعا لابد لنا من الاقرار بأن العديدين من الذين خسروا إيمانهم الحي وعاشوا حياة قشرية وسطحية وتافهة مسؤولون عن اعطاء فكرة خاطئة عن أهمية الإيمان بالله. ولكن سوء تصرف البعض من المدعين لا يعني أن الإنسان المعاصر له الصلاحية بأن يبحث عن خلاص وعن تحرير من الأمور التي تعبث بحياته في مجاهل الفلسفات البشرية الواهية. ضياع الإنسان يجب أن يدفعنا إلى ذرف الدموع والنوح والبكاء لا إلى تصويره في كل أبعاده على شاشة بيضاء. حتى ولوعرفنا كل اسباب شقائنا وتعاستنا فان تلك المعرفة بحد ذاتها لن تنجينا! ليس هناك سوى قوة الله الخلاصية في المسيح المخلص قادرة على أن تهبنا الخلاص والمعنى والهدف السليم لحياتنا في الثلث الأخير من القرن العشرين!
- عدد الزيارات: 2674