الانهيار الخلقي
أخذ أحد المفكرين المعاصرين بوصف عالم اليوم قائلاً : " نشهد اليوم في العالم كله انهيارا خلقيا مريعا. ولا يستطيع احد منا أن يرمي غيره بحجر في هذا الأمر، لأن جميعا مخطئون، لأننا جميعا ساهمنا في احداث هذا الانهيار، أن لم يكن بالاشتراك به بالفعل، فبالتفرج عليه والارتخاء أمامه وعدم رفع الصوت المدوى "
واستطرد المفكر قائلاً في وصف الانهيار الخلقي الملم بعالمنا قائلاً :
" فقد التمييز القاطع بين الخير والشر، الخير والشر سيان في ذهن الآباء وفي ذهن البنين، ولعل في ذهن الآباء قبل ذهن البنين – فقد الاعتبار والاحترام للممتحن والمجرب المتوارث المعطى القديم. القيم، المعايير، المثل، كل هذه أصحبت نسبية – نسبية إلى الظروف والأحوال، إلى الآزمنة والأمكنة، إلى تعدد الثقفات والشعوب، إلى المزجة والفيزيولوجيات، إلى مقدار ما تستطيع أن تفعل شيئاً وتنجوبه من دون حساب. الزمان تغير، بهذه العبارة السحرية يحلل البعض كل شيء – البعض ممن يفترض فيهم العمق والحصانة، البعض من قادة الرأي وارادة القدوة. الزمن تغير، وبهذا يقصدون أن لاقيم بعد ولا معايير ولا مثل "
(الدكتور شارك مالك – الدستور – النهار – 28 حزيران 1970)..
وإذ كنا قد تأملنا في بحثنا السابق عن امكانية ايجاد أخلاق بدون معتقدات دينية فأننا نجد أنفسنا مسرعين إلى القول من جديد بأن الانهيار الخلقي نتج عن نسيان الله وشريعته. فالأخلاق لا توجد في فراغ روحي أو عقائدى بل انما تتطلب وجود شريعة معروفة وذات سلطة نهائية. والشريعة لها مشرع والمشرع هو الله. ولا نعني بذلك اننا نود الوصول إلى نظرية اثبات وجود الله لكي نستطيع أن نجد مبرراً لشريعة تنبعث منها الأخلاق. فنقطة انطلاقنا المبدئية والأولية هي الله الموجود الكائن السرمدي الذي هو هوأمس واليوم وإلى الأبد. نشهد بذلك لأن الله تكلم ودخل معترك التاريخ البشرى في شخص وحياة السيد المسيح المخلص. فالانهيار الخلقي الذي يعم عالمنا اليوم له علاقة وثيقة بانهيار الإيمان الحي بالله وبكلمته المحررة والمنعشة. الله لم يفشل بل نحن بني البشر نحن الذين انقلبنا عليه ولم نعد نأبه لو حية وبشريعته المقدسة ولذلك نجني اليوم ثمار عصياننا ورفضنا!
الله الذي كشف ذاته – ولذلك ليس هو الها محجوبا أو مجهولا – أعطى الإنسان المقاييس الخلقية التي هي لا تتغير مهما تغيرت الأيام ومهما طرأ على حياة الإنسان من عوامل جديدة. القتل هو جريمة لأن الله قال : لا تقتل! الزنى جريمة لأن الله قال : لا تزني! السرقة جريمة لأن الله قال : لا تسرق!
نعم يشاهد عالمنا اليوم انهيارا خلقيا مريعا. ولكن هذا الانهيار لم يحدث بمعزل عن هذه الأمور الجو هرية الآتية :
1. فقدان الإيمان الحي بالله الواحد الحقيقي الخالق والمشرع والمسيطر على كل شيء. عصرنا هذا شهد ليس فقط تطورا هائلا وكبيرا في مضمار العلوم الطبيعية وفي تطبيقها في الحياة اليومية بل أن ذلك صاحبه فقدان للإيمان بالله الواحد الحقيقي. وكأن الإنسان الذي صار يعرف الكثير عن أسرار الطبيعة وعن كيفية تسخير القوى الكامنة في الطبيعة قد انسحر بمآثره العديدة فصار يظن بأنه يستطيع أن ينظم حياته بدون اللجوء إلى الاعتراف بالله وبشريعته. وبكلمة أخرى هذا العصر ليس بعصر التقدم العلمي فقط بل انه عصر تكبر الإنسان وتشامخه على الله تعالى اسمه.
2. فقدان الإيمان بكلمة الله المعبرة عن مشيئة الله للإنسان. لم يعد إنسان اليوم يؤمن بأن الله قد تكلم وان كلمته محفوظة لنا في اسفار أو الكتب المقدسة. لقد تجاهل الإنسان أعظم حقيقة بعد حقيقة الله ذاته : تجاهل الإنسان حقيقة كلام الله مع الإنسان ولصالح الإنسان وإذ ذاك مهد السبيل لبروز الصنمية المعاصرة ذات الألوان المتعددة.
3. السقوط في حبائل صنمية أو صنميات القرن العشرين : نذكر على سبيل المثال النسبية والمادية. فالنسبية تقول لنا أن كل شيء نسبي فيما يتعلق بحياة الإنسان، ولذلك فان ما كان حراما في الماضي لا يعني انه حرام اليوم. على كل إنسان أن يقرر نوعية حياته الأخلاقية لأنه كائن حر له مطلق الصلاحية في تقرير مصيره. ليس هناك من شريعة ثابتة لا متغيرة. أما المادية فإنها تحصر أفق نظر الإنسان في البعد المادى من حياته وترفض قبول البعد الآخر أي البعد الروحاني وتجعل من الإنسان كائنا يزيد على الحيوان قليلاً في صفاته ومقدراته.
4. وبما أن الإنسان لا ينسى تراثه بصورة تامة فاننا نشاهد في أيامنا هذه تظاهرا خارجيا أو سطحيا بقبول الإيمان بالله وبالأخلاق المبنية على ذلك الإيمان وإنكارا حياتيا لذلك المعتقد. ندعوهكذا حالة بالازدواجية الحياتية أو المحاولة للعيش على أساسين عقائديين مختلفين ومتضادين! ولكن الازدواجية لا تنفع الإنسان لأنها ليست الا نظرة حياتية مرحلية لابد لمعتقدها من الذهاب إلى أحد الطرفين. من المستحيل لإنسان اليوم أن يحيا على صعيد الإيمان بالله وفي نفس الوقت بأن يكيف حياته بمقتضى أسس النسبية والمادية. والانهيار الخلقي اليوم واقع مؤلم : فالثورة الجنسية التي تعم عالمنا اليوم ستؤدى بالبشرية إلى النـزول إلى مرتبة شبه حيوانية والثورة إلهيبية كما تدعى في اللغات الأجنبية ليست الا الهرب من المجتمع البشرى ومن المسؤوليات الملقاة على عاتق كل إنسان. الخلاص غير ممكن أن انتظرناه من الإنسان!
ليس هناك خلاص في الإنسان أو من الإنسان! الخلاص هو من الله وبالمسيح لأنه وفد دنيانا هذه لإنقاذنا ولتحريرنا من سائر الصنميات التي تخلب عقولنا وقلوبنا. لم يأت المسيح ليعظنا فقط أو ليقول لنا : كونوا طيبين واصلحوا أنفسكم بأنفسكم! جاء المسيح ليخلص وينقذ ما قد هلك.
وهذا الخلاص الذي أتمه المسيح انما هو للجميع : انه للآباء والأمهات، للابناء وللبنات هذا الخلاص انما يمنح الإنسان الحرية الحقيقية لأنه خلاص من كل نوع ولون من العبودية : المسيح يمنحنا الانعتاق التام من الصنميات بشتى أنواعها ومنها صنميات النسبية والمادية والازدواجية. لكن هذا الخلاص ليس بموضوع كلام وكلام وكلام. الخلاص الذي يمنحه السيد المسيح لكل من يؤمن به انما هو عبارة عن إيمان حي وديناميكي، إيمان له – كما قلنا في أكثر من مناسبة واحدة بعدان هامان لا بديل لهما أو عنهما : البعد العمودى الذي ينظم حياة الإنسان تجاه ربه وباريه والبعد الأفقي الذي ينظم حياة الإنسان في المجتمع البشرى. والدافع الواحد في كلا البعدين انما هو المحبة، المحبة الحقيقية الخالية من كل رياء ومن كل منفعة ذاتية ومن كل حب بالظهور ومن كل كبرياء تشامخ : المحبة التي تنشد مجد الله فوق كل شيء وخير سائر وجميع أفراد البشرية!
نعم التحليل الواقعي لحالة عالم اليوم هو مؤسف نشهد اليوم في العالم كله انهيارا خلقيا مريعا.... ولكن واقع اليوم لا يعني انه لا دواء ولا شفاء! واقع اليوم يجب أن يدفعنا نحو الله وشريعته ومسيحه. فنحن لن نتغلب على المخاطر الكامنة في الانهيار الخلقي الا إذا رجعنا تماماً وكليا وحياتيا إلى درب الله حيث الخلاص والحرية الحقيقية.
- عدد الزيارات: 2730