Skip to main content

من مظاهر الحياة المعاصرة -2

ذكرنا في بحثنا السابق أن الإنسان المعاصر يشكو من الغربة الروحية أو الاغتراب حتى ولو أنه لم يترك عقر دياره. وذكرنا أيضاً أن الذي ساهم في إنماء الشعور بالغربة الروحية هو انتشار لفلسفة الوجودية الإلحادية بين الكثيرين من الناس ولاسيما في السنين التي تلت الحرب العالمية الثانية أي منذ أواسط القرن العشرين. وكذلك اقتبسنا من كتاب قيّم بعنان إله الإلحاد المعاصر حيث ذكر المؤلف أن منكري الله ألّهوا الحرية المجرّدة من كل مفهوم ديني. أعود للاقتباس من بعض فقرات التحليل الوارد في الكتاب المذكور:

ولكن ما هي تلك الحرية التي [تجعل فيها الوجودية] كل كرامة الإنسان؟ إنها مجرد فراغ ظهر في ملء الكون. إنها "عدم" إنها غير موجودة ولكنها مجرّد قوة نفي ورفض، بها ينفصل الإنسان عن أوضاعه ليتجاوزها. ولكن يتجاوزها إلى أين وبالرجوع إلى أية مقاييس؟ ليس للحرية مقاييس وليس لها ما يستقطبها. إنها لذاتها المقياس والمرجع والهدف الوحيد. تظهر يوماً إلى حيز الوجود ثم تتلاشى كليّاً بالموت دون أن يكون لوجودها أو تلاشيها من معنى.

وكما كتب أحد الوجوديين الملحدين:

كل حي يولد مبرّر ويستمر عن ضعف ويموت صدفة.

نلاحظ في هذه الكلمات والتعابير الفلسفية ليس فقط انكاراً لله أي لوجوده بل محاولة هرقلية للتخلص من أي تفكير أو تصوّر ديني للكون والعالم وللوجود ولاسيما الوجود البشري. هذه الرغبة اللادينية الجامحة هي التي دفعت بالعديدين من معاصرينا لاعتناق الوجودية لأنها تعطيهم _ ولو آنياً _ الإطار الفلسفي للتعبير عن مقاومتهم للفكر الديني. وكما ألمحنا في أكثر من مناسبة في سلسلة التأملات، لا يستطيع الإنسان، مهما حاول أو جدّ، أن يحيا بدون إيمان بمطلق أو بمرجع أعلى.

وما أن ينكر الإنسان الله الخالق حتى يقيم لنفسه صنماً يجسّم بواسطته أحد أبعاد الوجود. فهو قد يضفي صفة الألوهية على المادة أو على مفهومه لمعنى الحرية، ولكنه في الحقيقة يكون قد قام بذلك وهدفه الشعوري أو اللاشعوري هو محاربة الله والتخلص من فكرة مسؤولية الإنسان تجاه ربّه وباريه. نلاحظ وجود هذه الظاهرة الإلحادية المعاصرة ليس في المدارس الفلسفية فحسب بل ضمن العديد من المنتوجات الأدبية والسينمائية. يحاول الإنسان المعاصر والمتحرر من كل فكر ديني موروث، بناء عالم جديد وفردوس أرضي باهر، ولكنه ويا للأسف الشديد لم ينجح في قرننا هذا إلا في إقامة أبشع وأفظع مظاهر اللانسانية من تشريد المساكين من أوطانهم والتنكيل بهم وحجزهم في معسكرات الاعتقال والإبادة الجماعية.

أعود من جديد للاقتباس من كتاب: إله الإلحاد المعاصر عن الحرية المزعومة التي جاءت بها الوجودية الإلحادية:

إن المفهوم [الوجودي الإلحادي] للحرية يجعل منها المرجع الوحيد للإنسان، فلا أصل تستند إليه ولا غاية تتجه نحوها، إنما تخرج من لا شيء وتذهب إلى لا شيء. وبذلك تفقد تلك الحرية كل معنى، ويفقد الإنسان معها معناه، فيصبح، وهو الذي [أرادته الوجودية] موجوداً برفض الله، غير موجود بالحقيقة لأن وجوده لا طائل له ولا هدف. وبذلك تكون تلك الحرية قيداً على الإنسان لأنها أغلقت عليه في عزلة مميتة وحصرته في عدمه ولا معناه.

واستطرد الكاتب المحلل والمنتقد للفلسفة الوجودية المعاصرة قائلاً:

لا حرية حقّة إذا كان الإنسان أسير اللامعنى. كيف نسمّي حرّاً ذلك الإنسان الضائع، المبعثر، الذي يحيا دون أن يدرك للحياة معنى؟ إن إنساناً كهذا تائه في صحراء، وهل يعقل أن نسمّي التيه في الصحراء حريّة؟

وقد أدى انتشار هذه الأفكار في عصرنا هذا بالعديدين من المتأثرين بها إلى اختبار ما يسمونه بالغربة الروحية. فإن كانت الحياة بدون معنى وإن كانت الحرية التي نادى بها الوجوديون الملحدون حرية جوفاء لأنها ليست أكثر من التيه في صحاري اللامعنى، لم يبق لنا سوى البكاء والعويل.

لكننا كمؤمنين بالله الذي لم يكتف بخلقه للكون بل كشف عن ذاته منذ البدء في كلامه مع بني البشر بواسطة أنبيائه ورسله، نرفض تعاليم الإلحاد المعاصر مهما ظهرت برّاقة وخلابة. ونعلن بكل صراحة أنه لا يجوز للإنسان بأن ينطوي على نفسه ويندب سوء حظه ويطلي صورة قاتمة للوجود البشري. الله هو منذ الأزل وإلى الأبد سيد التاريخ ومسيّره. وفي ملء الزمن أي في الوقت المحدد من قبل حكمته الفائقة، قام الله بعمل خلاصي وانقاذي حاسم لمصلحة البشرية جمعاء في شخص السيد المسيح. وفد المسيح عالمنا وعاش حياة طاهرة ومات للتكفير عن خطايانا وقام من بين الأموات في اليوم الثالث ليعطينا الغلبة على الشر وليهبنا الحياة الأبدية.

أمامنا نحن أهل السنين الأخيرة من القرن العشرين طريق الله حيث نجد المعنى والهدف والخلاص، وطريق الإلحاد المعاصر الذي نهايته الموت الروحي. ساعدنا القدير لننجو من فخاخ الصنميات التي تحدق بنا من كل حدب وصوب ضمن الحضارة العلمية المعاصرة ولنسير على طريقه المستقيم، فننجو من العذاب المصاحب للغربة الروحية القاتلة.

  • عدد الزيارات: 11033