أخلاقيات الاقتصاد
مما لا ريب فيه أن عالمنا اليوم أصبح مترابطاً ومتشابكاً أكثر من أي وقت مضى. فما ينتج في مكان ما بكثرة يحتاج إليه الآخرون في أماكن أخرى من عالمنا المتصاغر. ومن أهم مظاهر الحياة المعاصرة هو الدور الفعال الذي يلعبه الاقتصاد. ليس هناك من بشري إلا ويجد حياته مرتبطة بالاقتصاد. فموضوعنا هذا ليس مقتصراً على الأخصائيين أو أساتذة الجامعات بل يهم كل إنسان يحتاج إلى قوت وكساء ومكان يعيش فيه ويدعوه بيته أو شقته.
ولن أتطرق للبحث في موضوع الاقتصاد وكأنني خبير في مختلف النظريات والفلسفات الاقتصادية. ولن أكتب عن موضوعنا هذا مقتصراً على الاقتصاد بمفرده لأن هذا ليس من اختصاصي. بل ما سأبحث فيه هو موضوع أخلاقيات الاقتصاد.
وقد ينبري أحدهم قائلاً لي: لما الربط بين الاقتصاد والأخلاقيات؟ ما هي العلاقة بين عناصر الاقتصاد كالصناعة والتجارة والزراعة والبيع والشراء، ما علاقة هذه الأمور بالأخلاق والأخلاقيات؟ جوابي هو: أنا لا أستطيع أن أعزل هذه الأمور الحياتية الهامة عن الإنسان. كيف يجوز لي أن أبحث غي هكذا مواضيع من وجهة نظر مجرّدة أو بعيدة عن الواقع المعاش؟
صناعة لمن وتجارة مع من؟
هل هناك زراعة بدون مزارع؟
وصناعة بدون مهندس ومبرمج وعامل؟
وهل هناك بيع وشراء بدون تاجر ومستهلك؟
ما هي المبادئ الأساسية التي نؤسس عليها أخلاقيات الاقتصاد؟ يتعلق الجواب بوجهة نظرنا الحياتية للكون وللحياة أي بنظرتنا الشاملة لمعنى الوجود البشري. وبكلمة أخرى، إن كنت أعتقد بأن الإنسان هو كائن وجد من تلقاء ذاته أو نظراً لتطور آلي وأنه ليس هناك من كائن أعلى أو أسمى أو أحكم منه، يصبح منظوري لموضوع الاقتصاد منسجماً مع هذا المعتقد الأساسي. لكنني إن كنت أعتقد من صميم قلبي بأن الله هو الخالق والمبدع لكل ما في الوجود وأنه هو المالك المطلق لجميع خيرات الأرض ومواردها الطبيعية أنظر آنذاك إلى موضوع الاقتصاد من منظور ينسجم مع إيماني الديني.
لست أسير في ركاب الفلسفات الإلحادية المعاصرة التي ألهت الكثير من النظريات الاقتصادية، بل أعلن بكل صراحة أن نقطة انطلاقي هي كون الله مالك كل ما في الوجود وكون الإنسان _ وهو تاج المخلوقات_ وكيلاً لله على الأرض وأنه ليس عند الله محاباة أو تفرقة بين الإنسان وقرينه الإنسان.
وما أن أضع هذه المبادئ في مقدمة تفكيري حتى أكون قد ربطت بين الاقتصاد والأخلاق وصرت مؤهلاً، وبصورة بسيطة، للكلام عن أخلاقيات الاقتصاد. فمن آمن بملكية الله المطلقة للكون ولأرضنا هذه، يكون قد جعل من ملكية الإنسان لها موضوعاً نسبياً. وأفضل استعمال تعبير وكالة الإنسان على الأرض على استعمال تعبير ملكية الإنسان النسبية على الأرض. ومن البديهي أنه ينتظر من الوكيل أن يكون أميناً عى ما اؤتمن عليه والوكالة التي وهبنا إياها الله هي لمصلحة جميع أفراد البشرية وليس لنخبة مختارة. وبعبارة أخرى، عى بني البشر الذين وهبوا الصلاحية بأن يديروا دفّة الاقتصاد أن يهتموا بخير جميع الذين يعيشون في دائرة حياتهم. لا مجال هناك للنفعية أو الأنانية أو أي موقف يحرم أقراني بني البشر مما وهبنا الله لحياتنا الأرضية.
وعلاوة على ضرورة معاملة الناس بالمساواة وعدم حرمانهم المواهب التي جعلها الله لجميع مخلوقاته ولاسيما لبني البشر، يجدر بنا ونحن نبحث في أخلاقيات الاقتصاد أن نفكر بنوعية الأساليب المستعملة في مختلف النواحي الاقتصادية وتأثيرها الحاضر والمستقبلي على الحياة البشرية.
مثلاً هناك العديد من الاكتشافات العلمية التي تطبق في الزراعة والتي ظهرت، بعد استعمالها لمدة كافية، أنها مضرّة بصحة الإنسان بالرغم من أنها تعمل على تكثير المحصول الزراعي. وما أن نتحقق من مضار هكذا مواد حتى يتوجب علينا الامتناع عن استعمالها. نعم هناك أخلاقيات للاقتصاد!
وكذلك أصبح العديدون من علماء الطبيعة وحفظ البيئة يخافون من مغبة تدمير الغابات الكبيرة في المناطق الاستوائية لأنها كانت، منذ فجر التاريخ، تلعب دوراً هاماً في تلطيف مناخ الكرة الرضية بأسرها. فمع أنه هناك بعض الفوائد من تكثير المساحات المكرسة للزراعة في هكذا مناطق من العالم إلا أنه لا بد من التأمل في مصير العالم بأسره فيما إذا كان تدمير الغابات الاستوائية سيزيد من انتشار الجفاف في بقية أنحاء الأرض وانقلاب الأحوال المناخية والطقسية رأساً على عقب.
أتيت على ذكر هذه الأمور لأظهر حتمية الربط بين الاقتصاد المعاصر وأخلاقيات يكون طابعها مسؤولاً عن صحة ورفاهية البشرية بأسرها. ولكننا إن قبلنا فلسفة الطلاق بين الاقتصاد والخلاق فإننا نجلب على عالمنا وعلى أولادنا وأحفادنا كوارث لم يعرف لها مثيل منذ فجر التاريخ.
وخلاصة القول: إن موضوع الاقتصاد هام للغاية وربطه بالأخلاقيات واجب فيما إذا كنا مخلصين في إيماننا بالله. يتوق عالمنا المعذّب إلى بزوغ فجر يوم جديد تعم فيه المساواة بين الجميع وتختفي فيه تناقضات الحياة المعاصرة. ولن يأتي ذلك اليوم إلا إذا اعترفنا بابتعادنا عن الله بارينا ورجعنا إليه تائبين وسائرين على طريقه المستقيم.
- عدد الزيارات: 6955