من مظاهر الحياة المعاصرة -1
كلما حاول المرء أن يخرج نفسه من دائرة القلق المحيطة به، كثرت موجبات قلقه، وسقط في دوّامة التوجّس والخوف، وأصبح فيه من العقد ما تنوء الروح بحمله، فهو محكوم لحاجته، قلق على مصيره، في أرض لا تعرف الثوابت والسير عليها غير مأمون، فهي أسيرة حالتين: إمّا أن تكون رخوة فتحتّم الانزلاق! وإمّا أن تكون وعرة فتتعذّر على الإنسان! تلك هي صيغة الحياة للإنسان وهذه صورتها.
قرأت هذه الكلمات منذ بضعة سنين وكان قد كتبها أحدهم واصفاً حالة الإنسان المعاصر وكثرة مشاكله وتعقّدها. وقد رجعت إلى هذه الكلمات الواقعيّة بعد أن سمعت منذ بضعة أيّام وصفاً لما يسمّى بالغربة أو الاغتراب. ومع أنني كنت قد تطرّقت سابقاً لذكر هذا الموضوع ضمن سلسلة التأملات في الحياة المعاصرة إلا أنني أعود للبحث فيه نظراً لحدّة الأزمة التي يعاني منها إنسان القرن العشرين. ومما ورد في كلام أحدهم عن هذا الموضوع: يحسّ بالغربة حتى في عقر داره –بينه وبين زوجته في بعض الأحيان- إحساس دائم وإحساس إنساني.
نأتي على ذكر هذه الأمور التمهيديّة لفهم موضوعنا كما يجب:
أولاً: الكلام على الاغتراب في أيامنا لا يعني أنّ الماضي كان كاملاً أو أنّ الأقدمين كانوا يعيشون في فردوس أرضي خالٍ من المعضلات الحياتية.
ثانياً: ليست الغربة الروحية التي نتكلّم عنها مشروطة بكون الإنسان بعيداً عن أهله أو وطنه أو مسقط رأسه. وبكلمة أخرى، نحن لا نتكلّم عن مشكلة جغرافية أو اقتصاديّة.
ثالثاً: يلجأ الناس في كلّ عصر وزمان إلى استعمال تعابير ومفردات جديدة تساعدهم على وصف حياتهم بواقعية وجرأة. ومعنى هذا أننا لا نرفض استعمال كل ما جدّ من كلمات بحجة أنّ آباءنا أو أجدادنا لم يكونوا يتكلّ/ون كما نتكلّم نحن. فمع أننا لاننكر تراثنا أو مديونيتنا لكل ما حصلنا عليه من الأقدمين إلا أن هذا لا يعني بأننا مقيدون للتعبير عن أفكارنا بترديد العبارات القديمة. فكأهل القسم الأخير من القرن العشرين صرنا نعيش ضمن حضارة عالمية وأضحى بنو البشر أقرب إلى بعضهم البعض من أي عصرٍ مضى. ونظراً لكثرة وسائط المواصلات والتواصل فإننا نتأثر فكرياً وحضارياً بما يحدث في مختلف أنحاء العالم.
رابعاً: وصلنا تعبير الغربة والاغتراب من البلاد الغربية وخاصة من الفلسفة الوجودية. فنحن، كما ألمحت في عديد من المناسبات، لا نحيا منطوين على أنفسنا وبعيدين عن التيارات الفكرية العالمية. وعلاوة على ذلك، يعود احتكاكنا بالغرب في التاريخ الحديث إلى أوائل القرن التاسع عشر والكثيرون منا حصلنا على ثقافة مزدوجة عربية وأجنبية. والمختصر المفيد هو أن الكلام عن الغربة ليس بموضوع نظري أو فلسفي محض بل يصف واقعاً اختبره العديدون.
وبعد هذه المقدمة التمهيدية الطويلة نأتي إلى تحليل مفهوم الغربة والاغتراب. إذا كان الإنسان المعاصر يحس بالغربة حتى في عقر داره وأحياناً بينه وبين زوجته، كيف نعلل هذه الظاهرة؟
لإجابتي على هذا السؤال أتسلّح بنظرة خاطفة لما يمكن تسميته بالتاريخ الحضاري والثقافي الغربي الذي كان شديد الفعالية والتأثير في القرون الثلاثة أو الربعة الماضية. ما أن نقف على التيارات الفكرية التي عصفت بهذا العالم حتى نلاحظ تواً أن نظرة حياتية جديدة قد برزت إلى الوجود ألا وهي النظرة الإلحادية.
أخذ العديدون من فلاسفة الغرب ينادون بعالم خال من أي إيمان بالله أو بالغيبيات، بعالم يدور محوره على الإنسان. وتطورت هذه الفلسفات على مر الزمن وظهرت منها الفلسفة الوجودية الملحدة. دعني أقتبس من كتاب ظهر في أواخر الستينات تحت عنوان: إله الإلحاد المعاصر حيث خصّص الكاتب نصف كتابه القيّم للبحث في الفلسفة الوجودية ذات الصبغة الإلحادية:
ولكن الإلحاد [المعاصر] يتصف بميزة _ وقد تكون الصفة الغالبة على الإلحاد الحديث _ ألا وهي أنه ليس مجرد إنكار لله antheisme بل هو أبعد وأعمق من هذا، [أنه] رفض لله antitheisme ، رفض يعتبره أصحابه شرطاً أساسياً ليوجد الإنسان. ويبدو لنا من تاريخ الفلسفة الحديثة أن الإلحاد بمعنى نفي لله قد استبدل أكثر فأكثر برفض لله دافعه الصميمي هو الإرادة بأن لا يوجد الله.
وقد يتساءل المرء: كيف يمكن للإنسان أن يقرر هكذا وجود الله أو عدم وجوده بفعل إرادة منه؟ لكي نفهم ذلك، يجب أن نعود إلى المنظار الوجودي. ففي هذا المنظار ليس المهم "الجوهر" أي الكائنات بحد ذاتها، بل "الوجود" أي علاقة هذه الكائنات بالإنسان. ليس المهم إذا وجود الله بحد ذاته بل وجوده بالنسبة لي.
ونتج عن هذا الغزو الهائل للعالم الفكري المعاصر من قبل الوجودية الإلحادية أن الإنسان المعاصر المتأثر بها فقد معالم الحياة التي كان يحياها آباؤه وأجداده وصار يشعر بالغربة القاتلة إلا إذا عوّض عن خسرانه بتأليهه لأحد أبعاد الوجود. وفي نهاية المطاف لا تنفع هذه المحاولة الهرقلية الإنسان القلق بل يزداد شعور الغربة في حياته التي خلا جوّها من الإيمان الحي بالله الخالق لكل ما في الوجود والمعتني بجميع مخلوقاته ومخلّص جميع الذين يقبلون خلاصه.
وإذا ما تساءلنا: ما هو إله الوجودية الإلحادية؟ جوابنا هو: الحريّة. أعود للاقتباس من كتاب: إله الإلحاد المعاصر.
هكذا فحرية الإنسان [تضحي] المرجع الوحيد لكل شيء. لم يعد للإنسان نموذج إلهي يعود إليه في تقييم أموره وفي تحقيق ذاته، إنما صار عليه أن "يخترع" ذاته والقيم، وهكذا بقبوله تلك العزلة يبلغ إلى ملء قامته كإنسان ويحافظ على أثمن ما لديه، على تلك الحرية التي هي مرادفة لوجوده.
أمن العجب إذن أن يشعر إنسان اليوم بالغربة؟
- عدد الزيارات: 37132