الفصل الثاني عشر: الاختيار هو بمقتضى العلم السابق
أنه من غير الممكن للعقل البشري أن يَسبُر غور قصد الله، لكننا نعتقد أننا إذا درسنا قضية علم الله السابق فسنجد في ذلك ما يرشدنا لفهم سبب اختيار الله لجزء من مجموع البشر دون سواهم للخلاص. إن الاعتقاد بأن الله يعرف كل الأشياء معرفة تامة قبل حدوثها لهو جزء هام لا يتجزأ من إيمان الكتاب المقدس. هناك آيتان فقط تربطان علم الله السابق ربطاً مباشراً باختياره الناس للخلاص. إن أولى هاتين الآيتين لبولس: :"لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعيّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكراً بين أخوة كثيرين. والذين سبق فعيّنهم فهؤلاء دعاهم أيضاً. والذين دعاهم فهؤلاء برّرهم أيضاً. والذين برّرهم فهؤلاء مجّدهم أيضاً"(رومية29:8،30) صحيح أن هناك مفسرين، مثل جون نوكس، اعتبروا هذه الآية تنطبق على الكنيسة كجماعة. إلا أن الصواب هو أن بولس كان يتكلم عن خلاص الأفراد. نجد في هاتين الآيتين من رسالة رومية صورة كاملة للخلاص من الأزل إلى الأبد. في قصد الله الذي هو قبل التاريخ يتّحد علمه السابق بتعيينه السابق. وفي اختبار الخلاص الذي هو ضمن التاريخ تتّحد دعوة الله وتبريره. إن كل شيء يشير إلى الخاتمة المجيدة وهي النهاية التي إليها يتجه قصد الله وتتجه أعماله الخلاصية في التاريخ. والنقطة التي هي جديرة بالملاحظة هي أن الدعوة والتبرير يكوّنان ناحيتين من قصد الله للخلاص. ويرى بولس أن بين الفكرتين علاقة أكيدة.
أما الآية الأخرى التي تربط بين فكرتي الاختيار والعلم السابق فموجودة في بداية رسالة بطرس الأولى. يخاطب بطرس قراء هذه الرسالة بوصفهم "المختارين بمقتضى علم الله السابق" (1بطرس 2:1). ظن البعض أن ترتيب كلمات الآية في الأصل اليوناني لا يمنع عبارة "بمقتضى علم الله السابق" من أن تعود إلى عبارة "بطرس، رسول يسوع المسيح." أي أن كون بطرس رسولاً للمسيح هو بمقتضى علم الله السابق. هذا ممكن ولكن أكثر المفسرين يرون أن العبارة المذكورة تعود إلى كلمة "المختارين". يبدو أن هذا هو التفسير المعقول، فهو يتفق تمام الاتفاق مع استعمال الكلمات اليونانية في الأصل، كما يتفق مع المقطع المماثل في الرسالة إلى رومية. هاتان الآيتان لبطرس وبولس تبينان، إذن، أن الاختيار للخلاص يتعلق، على نحو ما، بعلم الله السابق.
هناك علاقة بين الاختيار والعلم السابق، فما هي؟ يقولون بان الاختيار مؤسس على علم الله بأن هناك عاملاً ما في حياة الإنسان، عاملاً عرفه الله قبل ظهوره، وعزم على أن يكافئ ذلك الإنسان ببركة الخلاص (4). لكننا سبق أن وجدنا استحالة موقف كهذا في الفصل السابق، عندما بيّنا أن الاختيار يجب أن يكون "غير مشروط" إذا كنا نعتقد بأن الخلاص هو بالنعمة. ويقولون، كجواب ثانٍ عن السؤال، بأن العلم السابق مؤسس على التعيين السابق. هذا هو الموقف الذي كان ينسب إلى كل من أوغسطينوس وكلفين. يرى أصحاب هذا الموقف أن الله يقرر جميع الأشياء، أما علمه السابق فيعني أنه يعرف ما قد سبق وقرر أن يفعله. إن العيب في هذا التفسير هو أنه يجعل فكرة العلم السابق بلا قيمة وبلا معنى. فإن هذا التفسير يقول أن الله يعلم ما يحدث لأنه سبق وقصد لذلك الشيء أن يحدث. إذا كان هذا هو كل ما في الأمر فما الحاجة لاستخدام كلمة أخرى لوصف ما سبق الله فضمّنه في قصده؟ ما قيمة علم الله السابق بشيء إذا كان هو الذي عيّن ذلك الشيء ليكون كما هو؟
يبدو أن كلمة الله تشير إلى وجود علاقة حيوية وضرورية بين الفكرتين: العلم السابق والتعيين السابق، وإن هناك فروقاً في معنى هاتين العبارتين. يعود الخلاف الناشئ حول هذا البحث في الغالب إلى السؤال القائل: أي الأمرين كان سابقاً للآخر؟ إذا كان القصد من هذا السؤال محاولة معرفة الترتيب الذي انتظمت بموجبه أفكار الله فالسؤال يصبح مستحيلاً. مثال ذلك، إذا داهم خطر الموت إنساناً فإن ذلك الإنسان يدرك أولاً وجود ذلك الخطر، ثم يصمم على الابتعاد عنه، وبعد ذلك يشرع في الركض منفّذاً ما صمم على عمله. لكن ليس من الممكن الفصل بين الخطوات المختلفة التي اتخذت إذ أن الأمر جرى بسرعة فائقة في ذهن ذلك الإنسان غير أنه تظل هناك علاقة منطقية تربط بين الخطوات. إن إنساناً كهذا لا يركض أولاً وبعد ذلك يدرك وجود الخطر. أنه يدرك وجود الخطر وبعد ذلك يركض. هكذا هي العلاقة بين العلم السابق والقصد. إذا كان القصد هو بموجب العلم السابق، كما يقول بطرس، فالعلم السابق، منطقياً وإن لم يكن من حيث الترتيب، يسبق قصد الله في الاختيار وبشكل ما يهيمن على ذلك القصد. يمكننا، بالنسبة لهذه النقطة، أن نحكم أن الموقف الأرميني معقول ويمكن إثباته أكثر من الموقف الكلفيني. إلا أننا مضطرون لرفض القول بأن هذا يجعل الاختيار "مشروطاً" أي بمعنى أنه مؤسس على استحقاق شخصي في الناس المختارين، استحقاق رآه الله بعلمه السابق. إن الإيمان هو عطية من الله وليس عملاً من صنع الإنسان. على هذا الأساس. علم الله السابق بأن الإنسان سيؤمن لا يمكن، منطقياً. أن يسبق قصد الله وعزمه على إيجاد الإيمان في ذلك الإنسان. لذلك، ليس من الحق القول أن الله اختار إنساناً لأنه سبق فرأى الإيمان الذي سيكون فيهم.
ما الذي علم الله به مسبقاً فجعله يحصر نعمته ويخص بها أولئك المختارين؟ لا سبيل للإجابة عن هذا السؤال الصعب عن طريق تحليل كلمات الكتاب المقدس. فالآيات التي تربط بين الاختيار والعلم السابق لا تبدي أية إشارة لمساعدتنا على إيجاد الجواب. يقول الكتاب: "...المختارين بموجب علم الله السابق". ولكن يظل السؤال المحير: :ما هو هذا الذي كان الله يعلم به مسبقاً؟". لا يجيبنا الكتاب المقدس عن هذا بالضبط. قال البعض أن هذا لغز ويصرون على أنه سيظل لغزاً لا نجد له حل إلى الأبد. قد يكون هذا هو واقع الحال. وربما يتوجب علينا، بالنسبة إلى هذه المسالة، أن نتعلم الاكتفاء بما قاله بولس في رسالته إلى أهل رومية: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه، ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء." (رومية23:11). تعبر هذه الكلمات عن دهشة بولس العظيمة وهو يواجه حقيقة قصد الله في الخلاص وكيف وضح ذلك القصد في معاملات الله مع بني إسرائيل. وهي لا تعني أن بولس لا يحاول فهم قصد الله المعلن بل تبين أنه إذا فهم المرء قصد الله هذا فإنه سيشعر بالرهبة والدهشة في حضور محبة الله.
إن هذا ليشجعنا على التخمين ما دام الأمر يصعب فهمه. إن كنا نود معرفة محبة الله في كل ملئها فلا بد لنا من التخمين إذ أن الأمر أعلى من فهمنا. إن ما سنتوصل إليه في هذا المجال سيكون نظرية نطرحها. لا نقدم هذه النظرية بروح التعصب والتزمت بل على أساس أنها حل للمشكلة بينما تتفق في الوقت ذاته مع معرفتنا لله ولطرقه. وهذا لا يعني أننا نخبط خبط عشواء وليس ما يقودنا أو يكبح جماحنا. في الواقع إن هذه النظرية مؤسسة على ثلاثة أدلة مأخوذة من تعاليم العهد الجديد.
أولاً، إن هذه النظرية مؤسسة على حقائق معاملات الله مع الناس. يبدو أن علينا أن نحذو حذو كتّاب أسفار العهد الجديد فنعتبر ما يحدث فعلاً في عمل الله لخلاص البشر عائداً لقصده الأزلي. يمكن فحص أية نظرية وكشف مقدار صحتها وصوابها باستخدام هذه القاعدة ذاتها. يجب علينا، في كل الأحوال، ألا نعتبر شيئاً أنه حق إذا كان ذلك الشيء يظهر الله مناقضاً لذاته. ذلك أننا نقر بأن أعمال الله تتفق مع طبيعته وأنها حصيلة قصده.
ثانياً.، إن النظرية المذكورة مؤسسة على الحقيقة القائلة بأن الخلاص هو كلياً بنعمة الله. إن الخطأ في الوقف الأرميني بالنسبة لهذه القضية هو أن ذلك الموقف يقضي على هذه المعطيات الأساسية التي لفكر الكتاب المقدس. لا يمكن أن يكون الخلاص مقسوماً مناصفة بين الاعتدال والإيمان. إذا كان الخلاص هو بالأعمال، ولو جزئياً، "فليست النعمة بعد نعمة" (رومية (6:11). إذا كنا نعتقد أن الله رأى مسبقاً في الإنسان أي مقدار من الاستحقاق أو أي شيء رآه الله بعلمه السابق في الإنسان وكان سبب اختيار ذلك الإنسان فلا يجوز تفسيره على أنه استحقاق بشريّ.
ثالثاً، إن النظرية المبحوث عنها مؤسسة على الاعتقاد بأن ما يعرفه الله عن الناس بسابق علمه لا بد من أن يشكل فرقاً هاماً وحيوياً بين إنسان وآخر. إن الكتاب المقدس لم يدل قط على أن الله يستخدم الاعتباط والتحكم أو التعسف في أعماله. يعمل الله أعماله بناء على أسباب يراها هو وقد لا يراها الناس دائماً. إذن، إذا كان اختيار الله للخلاص يجيء، بطريقة ما، بناء على علمه السابق، فهذا الشيء الذي يعلم الله به مسبقاً لا بد من أن يشكل سبباً كافياً لاختيار الإنسان أو لعدم اختياره.
إن نظريتنا هي: إن الله علم مسبقاً استحالة خلاص بعض الناس بأية وسيلة ممكنة. إن علم الله السابق الذي حدد تصميم الله على الخلاص ليس مستنداً إلى ما سبق فرآه في المختارين بقدر استناده إلى ما سبق فرآه في عير المختارين. لقد عرف مسبقاً أن هناك إمكانية الإتيان ببعض بني البشر إلى الإيمان بوساطة نعمته، فاختار، لذلك، أن يخلّص أولئك الناس، وراح يعمل منذ الأزل لإجراء ما عزم عليه ولتنفيذ اختياره. ولكن الله رأى أيضاً من الناحية الأخرى عناد قلوب الآخرين، الأمر الذي يجعل من المتعذر، بأية وسيلة، إنهاضهم إلى الإيمان، ونتيجة لذلك اختار الله ألا يخلصهم. أنهم ليسوا "غير مختارين" إذا كان معنى هذه العبارة أنهم مختارون للهلاك. أنهم غير مختارين بالنسبة للخلاص، ولذلك يهلكون، لا لأنهم مختارون للهلاك. من الضروري جداً توضيح الفرق بين الأمرين. صحيح أن النتيجة واحدة، سواء قلنا أن الله اختار هلاك إنسان ما أو أن ذلك الإنسان غير مختار للخلاص. لكن الفرق بين الأمرين يؤثر كثيراً على نظرتنا إلى الله والفكرة التي نحملها عنه.
والآن لنفحص نظريتنا، وذلك بأن نسأل إن كانت تتفق مع معاملات الله الواقعية مع الناس في خلاصهم وهلاكهم. سبق أن ذكرنا أن الله هو العامل الخلاق في خلاص الذين يخلصون. وإن الإنسان في الواقع لا يسهم بشيء في أمر خلاصه. ووجدنا أيضاً أن اللوم على هلاك الهالكين يقع كله عليهم. إن السبب الوحيد الذي من أجله يهلك غير المؤمن هو أنه يرفض أن يقبل الله. إن الله في تعامله مع الناس في أمر خلاصهم يجد ذاته محدوداً ومقيّداً بمقدار الاستجابة التي يستطيع الحصول عليها من جانب قلب الإنسان نتيجة للنعمة التي يستخدمها لإيقاظ ذلك الإنسان وإشعاره بحاجته. إن الذي نقول به في نظريتنا هو أن الاختيار محدود بعلم الله السابق ومعرفته لعناد بعض الناس في عصيانهم وتمرّهم على الله.
إننا نفضل القول أن اختيار الله كان محدوداً بعلمه السابق على أن نقول أنه كان مشروطاً به. وذلك لسببين. السبب الأول هو أن كلمة "مشروط " كانت مركزاً للجدل بين مدرستين فكريتين متباينتين هما الأرمينية والكلفينية. بالنسبة للتفكير اللاهوتي، إن القول أن الاختيار "مشروط". مهما كان القصد، يجعل السامع عرضة للاعتقاد بأنه مشروط بالمعنى الأرميني، أي أنه مؤسس على العلم السابق بإيمان الناس الذين يخلصون. لقد بيّنا بوضوح عدم موافقتنا على هذا الموقف، ونحن لذلك نفضل ألا نغامر ويساء فهمنا. ثانياً، على الرغم من التشابه الظاهر في معنى الكلمتين "محدود" و "مشروط"، فالكلمتان توحيان معنى ضمنياً مختلفاً. إن كلمة "شرط"، تستعمل غالباً لتصف ترتيباً اعتباطياً إرغامياً يتعهد بموجبه أحد الفريقين بأن يبادل الفريق الآخر الامتيازات أو المنافع. فالكلمة تتضمن عدم إتمام عمل معين إلا بعد الوفاء بشرط معين. أما الكلمة "حدّ" أو "محدود" فتوحي من الناحية الأخرى بوجود مانع يحول دون تحقيق شيء أو عمل ما. إن ما هو اقرب إلى هذه الفكرة القول بأن المرء يفعل شيئاً معيناً إذا كان لا يمنعه من عمل ذلك الشيء ظرف هو خارج عن سيطرته. لذلك نفضل القول أن اختياره محدد بعلمه السابق للظرف- الذي هو عناد الإنسان غير المختار في الخطية- هذا الظرف الذي لم يوجده الله كما ليس لله سيطرة عليه. ويعرف الله مسبقاً أنه بسبب هذا الظرف لا يستطيع أن يوجد الإيمان في قلوب البشر غير المختارين ولذلك لم يخترهم للخلاص.
هل تنسجم هذه النظرية مع شرطنا الثاني؟ هل إذا قبلنا بها نكون بقبولنا منكرين أن الخلاص هو كلياً بالنعمة؟ لسنا نظن ذلك. إن هذه النظرية تفسر السبب في أن الله لم يختر للخلاص بعض الناس، لكنها لا تبين لنا. بأي حال، لماذا اختار الله أناساً آخرين للخلاص. مثلاً، إذا قلنا أن إنساناً معيناً ساعد المحتاجين على قدر طاقته، لا نكون بذلك قد فسرنا لماذا هو. فعلاً، ساعد أولئك الذين ساعدهم، بل لماذا هو لم يساعد أولئك الذين لم يساعدهم. في قول كهذا تكون قدرة الإنسان، وهي الظرف الذي ليس لله سيطرة عليه، هي العامل المانع أو المحدد. على هذا نقول إن حب الله للناس كان العامل الخلاق الذي جعله يساعدهم ولكن ضمن حد قدرته على ذلك. كذلك، عندما نقول أن الله اختار أناساً للخلاص "بموجب علمه المسبق" فنحن إنما نفسر بذلك لماذا هو لم يختر الآخرين، الجواب على هذا هو أن اختياره كان محدوداً بعلمه السابق. لقد بينا قبلاً أن السبب الوحيد الذي جعل الله يختار إنساناً للخلاص يعود إلى طبيعته الإلهية ومحبته. الاختيار غير مشروط. لكن الحقيقة الواقعة هي أنه ليس اختياراً غير محدود، أنه ليس اختياراً كونياً. ونحن نعرف هذا لأن الخلاص ذاته غير كوني.
يجب أن يكون واضحاً للجميع أن الاختيار محدد بعلم الله السابق باستحالة خلاص بعض الناس، لكن هذا لا يعني أن الاختيار، لذلك، مؤسس على علم الله السابق ببعض الخير الكامن في بعض الناس. لا يمكن بناء الاستنتاج الأخير على الأول. جميع الناس خطاة ويرسفون تحت دينونة الله العادلة. "لا إنسان صدّيق في الأرض يعمل صلاحاً ولا يخطئ" (جامعة20:7). عندما يخلّص الله إنساناً ما يجد أنه لا بد له من استخدام كل نعمته، ورحمته، وقوته. إن ما يكلفه خلاص إنسان واحد هو بالذات ما يكلفه خلاص جميع الناس- أي موت الابن (يوحنا16:3). لماذا تحمل الله عناء دفع ثمن الخلاص؟ لم يكن السب في ذلك أنه عرف مسبقاً إمكان خلاص البشر، بل لأن محبته وطبيعته جعلتاه لا يستطيع رؤية الناس يهلكون بينما هناك طريقة لتخليصهم. إن علمه السابق وحده لا يكفي لتفسير السبب الذي جعل الله يختار أن يخلّص، لكنه يفسر السبب الذي جعله يحجم عن اختيار جميع الناس. وهكذا نرى أن عقيدة الخلاص بالنعمة لا تتعرض للنقض إذا قلنا أن اختيار الله مهيمن عليه ومحدد من قبل علم الله السابق بإمكان تخليص بعض الناس وعدم إمكان تخليص الآخرين.
ليس من الضروري القيام بالمزيد من الفحص للنظرية السالفة الذكر. من المؤكد أن وجود ذلك العامل في الناس، (أي عامل الاستعداد لقبول نعمة الله أو رفض هذه النعمة). يجعل فرقاً كبيراَ في أولئك الناس من حيث خلقهم الروحي. إن هذا، في رأينا، واضح في العالم حولنا ولا يحتاج إلى برهان. إن الناس غير المخلصين متصلبون في رفضهم انجيل نعمة الله. وعندما يواجَهون بحقيقة الله يثورون ويتهربون من مواجهة حاملي رسالة الله. اتهم يعيشون حياتهم كلها ضمن حدود اهتمامهم بأنفسهم. قد يكون هؤلاء، من وجهة نظر المجتمع، أناساً طيبين وذوي أخلاق في أعمالهم وتصرفاتهم، لكن قلوبهم بعيدة عن الله ويعيشون في عبودية لقوة الخطية. لا نعرف جازمين إن كان أولئك سيهلكون حتماً وأنه لا رجاء لهم، إذ لا نقدر أن نعرف سلفاً. الله وحده يعرف ذلك وقد كان يعرفه منذ الأزل. أما عدم اختياره إياهم للخلاص فيرجع لعلمه السابق بعدم توافر الحالة القلبية المطلوبة لديهم.
كان بحثنا يدور حتى الآن حول الافتراض القائل بأن علم الله السابق هو شيء حقيقي وأنه في الواقع مجرد علم سابق وليس تعييناً. يبقى لنا أن نفحص هذه الافتراضات لكي نرى إن كانت صحيحة ومتفقة مع الكتاب المقدس أم لا. صحيح أن علم الله السابق هو في الغالب ليس موضوعاً للبحث في الكتاب المقدس، لكنه مع ذلك افتراض نجده في ثنايا قصة الكتاب المقدس، إن العلم السابق، على سبيل المثال، هو الافتراض الطبيعي للتنبؤ بالأحداث والذي نجد الكثير منه في الكتاب المقدس. كان الأنبياء، بلا شك يؤمنون بحقيقة علم الله السابق. بل أن تاريخ عمل الفداء كله كما هو في الكتاب المقدس مؤسس، في الواقع، على الاعتقاد بعلم الله السابق وقصد الله السابق.
قليلون هم الذين ينكرون حقيقة علم الله السابق، إلا أن هناك من يعترف بتلك الحقيقة ولكنه يحورها إلى حد جعلها بلا معنى. وقد رأينا حتى الآن مثالاً على ذلك التحوير أن البعض جعل علم الله السابق وتعيينه السابق كما لو كانا أمرين متعادلين متماثلين. إن هذا التفسير الخاطئ للعلم السابق يقول فقط أن الله يعرف ما قد صمم على عمله ولذلك يعرف نتيجة أعماله. قد يكون هذا القول صحيحاً، ولكنه يجعل مسألة العلم السابق بلا قيمة أو معنى. عندما يبحث الدكتور سانداي والدكتور هدلام في عبارة "الذين سبق فعرفهم" (رومية 9:8) فإنهما يصران على أن معنى الكلمة يجب أن يقرره استخدام الكتاب المقدس لكلمة "يعرف". يستعرض هذان الكتابان بضع آيات من الكتاب المقدس ليثبتوا ما توصلوا إليه وهو القول بأن كلمة "يعرف" أو "يعلم" في الكتاب المقدس تعني ما تعنيه في الحديث العادي. يقولان أنها تعني "أخذ العلم بالشيء"، أو توجيه الفكر إليه كاختيار بسيط لذلك الشيء لقصد خاص" (6). إن المعنى الوحيد الذي تضيفه كلمة "السابق" أو كلمة "سبق" هو أن تلك الكلمة تبين "أن علم الله ذلك يعود إلى مشورة الله الأزلية." وهكذا يتبين أن علينا أن نفهم الكلمة المذكورة بمعناها العام، فعندما يقول الرسول "سبق فعرفهم" فهو يعني أن الله"عرفهم قبل الوقت."
صحيح أن "العلم السابق" يتعلق بالتعيين السابق كما سبق وقلنا، لكن العلم السابق ذاته لا يحتم بالضرورة حدوث ذلك الذي سبق العلم به. ويبحث الدكتور مولنز في هذه النقطة، بانياً حججه على حقيقة كون الله يعرف مسبقاً الاختيارات الشريرة التي يختارها الناس بينما هو في الوقت ذاته ليس مسؤولاً عن تلك الشرور وهي ليست من تصميمه.
إن جميع هذه المحاولات اليائسة لتفسير علم الله السابق غير مجدية وينتج منها الخطأ الشائع وهو أنها محاولات تجعل علم الله السابق معطلاً عن العمل بالنسبة للتصميمات الحرة التي يتخذها البشر، وهي غير مقبولة لسببين. أولاً، إن عزل تصميمات البشر الحرة عن علم الله السابق مخالف لروح كتّاب الكتاب المقدس. صحيح أن أولئك الكتّاب لم يثيروا تلك المسالة الميتافيزيقية، ألا وهي إمكان معرفة الله وعلمه مسبقاً بتصميمات الإنسان الحرة، لكنهم مع ذلك يتكلمون عن هذا الأمر على أساس أنه حقيقة. نجد في الكتاب المقدس (اعمال27) قصة السفينة التي غرقت وهي مثال يصور لنا كيف يمكن أن يتفق التأكيد الإلهي مع تعدد الاحتمالات البشرية. كان بولس الرسول مسافراً على ظهر تلك السفينة، ونجده يقف أمام ملاحي السفينة ليؤكد لهم أنهم سينجون جميعاً على الرغم من ضياع الأمل بإنقاذ السفينة. قال لهم: "وقف بي هذه الليلة ملاك الإله الذي أنا له والذي أعبده قائلاً: لا تخف يا بولس، ينبغي لك أن تقف أمام قيصر، وهو ذا قد وهبك الله جميع المسافرين معك" (أعمال 23:27-24). ولكن عندما لاح الأمل بالنجاة وحاول البحارة أن يهجروا السفينة ويهربوا خفية "قال بولس لقائد المئة والعسكر: إن لم يبق هؤلاء في السفينة فأنتم لا تقدرون أن تنجوا" (اعمال31:27). كانت النتيجة، في فكر بولس، والتي هي النجاة، قد تقررت من وجهة النظر الإلهية، إذ كان الله يعلم مسبقاً ما الذي سيحدث وقد وعد بنجاة الجميع. لكن ظل من الممكن، من وجهة نظر الإنسان، إن يحدث شيء طارئ منافٍ لما وعد الله به، ولذلك كان لا بد من أن يتدخل العسكر ويمنعوا البحارة من الهرب لكي يصير بالإمكان تحقيق وعد الله بالنجاة. قد تعجز أفكارنا عن التوفيق بين وجهتي النظر هاتين، فإن عقولنا محدودة، وأحياناً نضلّ بالاعتماد على تفكيرنا. لذلك نحتاج إلى أن نرجع إلى كلمة الكتاب المقدس.
وثانياً، هناك اعتراض آخر على القول بأن أعمال الإنسان الحرة غير مشمولة في علم الله السابق، وهو أن استقلال إرادة الإنسان بهذا الشكل يرغمنا على الاعتقاد بإله عاجز لا حول له وليس ما يمكنه عمله في بعض الأحوال. إذا كان الله حقاً لا يقدر أن يعرف مسبقاً ما الذي سيفعله الإنسان بإرادته الحرة، فإنه، أي الله، سيضطر للقعود منتظراً ما الذي سيكون عليه التاريخ، فهو في تلك الحال لا يكون صانع التاريخ. وإذا كان علم الله السابق ليس علماً مطلقاً شاملاً لكل الأشياء، وكان مجرد علم بالاحتمالات (التي قد تحدث وقد لا تحدث) لا بما سيحدث فعلاً، فيكون من العسير أن نفهم كيف يمكن أن يكون الله تعالى مهيمناً على التاريخ بأي معنى من المعاني.
- عدد الزيارات: 7843