Skip to main content

الفصل الحادي عشر: الخلاص هو بالاختيار

يتركز تعليم الكتاب المقدس عن الفداء في الفكرة القائلة بأن الناس يخلصون لأن الله اختار أن يخلّصهم فقام بتحرّكات في حياتهم أدّت إلى خلاصهم. الهلاك هو من الناس، أما الخلاص فمن الرب. ولا يكتفي العهد الجديد بالقول إن اختبار الخلاص الذي يختبره الإنسان تاريخياً يجيء نتيجة لعمل قوة الله الفعّال في الحياة البشرية، بل يقول أيضاً إن الله يعمل في حياة الفرد بموجب قصد أزلي كان قد قصده في نفسه. إن هذه الفكرة تحتاج للدفاع عنها أمام التفكير العصري. إن التفكير العصري يسلّم بأن لله قصداً خلاصياً في التاريخ ولكنه لا يقبل بفكرة اختيار الله للإنسان الفرد للخلاص. لكننا سنرى أن الاختيار هو من التعاليم العامة في العهد الجديد، وإن هذا الاختيار هو للفرد، لا للجماعة، وإنه من الأزل وإلى الأبد، وإنه اختيار "غير مشروط."

بالنسبة للتلاميذ الأولين كانت مسألة الاختيار حقيقة إلى حدّ أن من أشهر الألقاب التي دعي المسيحيون بها كان لقب "المختارين." لقد درجت هذه التسمية، واستعملها يسوع وتلاميذه، حتى إننا نجد أنفسنا مضطرين للاعتراف بأنها كانت تسمية دارجة ومقبولة، ولم يكن المسيحيون الأولون في حاجة لمن يفسّرها لهم. إننا نقتبس آيات من العهد الجديد كأمثلة كافية لتبرهن على هذه الحقيقة: "أفلا ينصِف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً؟" (لوقا 18: 7)، "من يشتكي على مختاري الله؟" (رومية 8: 33)، "فالبسوا كمختاري الله..." (كولوسي 3: 12)، "لكن لأجل المختارين الذين اختارهم قصّر الأيام" (مرقس 13: 20، وقارن متى 24: 22) (1). لدى تحليل جميع المقاطع حيث ترد كلمة "مختارين" نجد أنها مستخدمة ستة عشر مرة على الأقل وتعني في كل مرة إتباع المسيح كأفراد. إلا أنه في ثلاث من تلك المرات ربما قصد بالكلمة الكنيسة (قارن 1بطرس 2: 9 و2يوحنا 1، 13)، مع إنه من المرجّح إن الكلمتين في رسالة يوحنا الثانية تشيران إلى امرأة مسيحية. ترد ثلاث كلمات منها في إنجيل متى، وهي إعادة لما جاء في إنجيل مرقس، ولكن حتى هذه الإعادة لدليل هامّ يؤكّد صحّة معنى الكلمة. وينفرد متى في تأييد استعمال كلمة "مختارين" وذلك بإيراده مثلاً قاله يسوع وهو "لأن كثيرين يدعون وقليلين يُنتخبون (يُختارون)" (متى 22: 14).

يجب ألا نقلل من أهمية استخدام هذه الاصطلاحات التي تصف أتباع المسيح الحقيقيين. إذا بحثنا عن عدد المرات التي استخدم فيها كل من الكلمات التي تدور حول هذا المعنى نجد أن كلمة مختارين تجيء في المرتبة الثالثة بعد الكلمتين "تلاميذ" و"قدّيسين". إن استعمال الكلمة بهذه الكثرة في العهد الجديد، مضافاً إليها العلاقات بالقرينة التي تؤيد المعنى بأكثر وضوح وقوة، يبيّن أن المسيحيين الأولين بشكل عام كانوا يعتبرون الاختيار موازياً للخلاص، أي أن المخلّصين هم أنفسهم المختارون. عندما نلاحظ، إن "الاختيار" هو التعليم الموجود في كل طاق في حبل فكر العهد الجديد، ندرك أن هذه كانت الفكرة العامة وليست أمراً انفرد به أحد كتّاب العهد الجديد. ظن كثيرون أن عقيدة الاختيار هو التعليم الخاص بالرسول بولس، لكن الأدلّة تؤكد خطأ هذا الظن. قد نقول أن بولس يذكر هذه القضية أكثر مما يذكرها سواه، (وهذا ينطبق على كثير غيرها أيضاً، لأن التي لدينا أكثر من كتابات غيره من الرسل)، لكن كتّاب أسفار العهد الجديد الآخرين يؤيدون ما يقوله بولس.

تدلّ الأناجيل الثلاثة الأولى على أن فكرة "الاختيار" كانت حقيقة أساسية في تعاليم يسوع. إن كثيراً من الآيات التي ترد فيها كلمة "مختارين" أو "ينتخبون" هي من أقوال يسوع (قارن متى 22: 14 و24: 22، 24، 31 ومرقس 13: 20، 22، 27 ولوقا 18: 7). وإن للآية في مرقس 13: 20 أهمية خاصة إذ استعمل الفعل بالإضافة إلى الاسم. تقول الآية إن الرب سيقصّر أيام الضيق من أجل "المختارين الذين اختارهم." إن صيغة هذا الفعل، كما هو في الأصل اليوناني، تتفق مع الاستعمال العام في العهد الجديد عند الكلام عن اختيار الله- إنها صيغة "الاوريست" وحالة "المُشتَرك". إن صيغة الاوريست اليونانية هنا تدلّ على أن الاختيار جرى في الماضي بل ربما قبل النبوة نفسها. أمّا حالة "المُشتَرك" للفعل فتشدد على الفاعل الذي اختار لا على الأشخاص الذين اختارهم، فيكون المعنى "إن الله سبق فاختارهم، واختارهم لنفسه." ثم، من بين أقوال يسوع في الأناجيل الثلاثة الأولى آياتان هامّتان أخريان تُظهران قوة فكرة الاختيار في فكر يسوع. أولاً، يقول يسوع في إجابته عن سؤال يعقوب ويوحنا: "أما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدّ لهم" (مرقس 10: 40). إن الفعل "أعدّ" اليوناني هو الماضي التام ويدلّ على أن الأعداد سبق العمل أي الجلوس عن يمين المسيح ويساره. ويقول يسوع في عبارة الدينونة "ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم" (متى 25: 34). إنه لواضح كل الوضوح إن الله يقوم بالإعداد بناء على قصده الأزلي الذي كان سيتحقّق في المستقبل.

أما في كتابات يوحنا فنجد كلمة "مختارة" أو "محتارين" في ثلاثة مواضع – رسالة يوحنا الثانية الآيتان 1 و13، ورؤيا 17: 14. صحيح أن مسألة الاختيار ليست بارزة في هذا النطاق من حبل فكر العهد الجديد قدر بروزها في فكر بولس والأناجيل الثلاثة الأولى، ومع ذلك فهي موجودة. جاء في إنجيل يوحنا قول يسوع "لا يقدر أحد أن يُقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني" (يوحنا 6: 44). وهو يدل بوضوح على أن لقصد الله الأولويّة في خلاص الإنسان. أما قول يسوع: "ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم" (يوحنا 15: 16) فيشير إلى ذلك الحادث التاريخي، حادث دعوة يسوع الإثني عشر ليكونوا رسلاً (قارن مرقس 3: 13- 19). وإذ كان لوقا قد ذكر في إنجيله أن يسوع قضى الليل كله في الصلاة قبل قيامه بهذا العمل الهامّ فإننا لا نستطيع استبعاد فكرة قصد الله السابق في الاختيار. وفي سفر الرؤيا مقطعان هامّان يتكلمان عن هذا الموضوع وهما رؤيا 13: 8 و17: 8 (2). يبحث هذان المقطعان في أمر غير المخلّصين الذين ليست أسماؤهم مكتوبة سفر الحياة منذ تأسيس العالم" (17: 8). إن هذا، بالنسبة لكاتب السفر، بمثابة القول بأن المخلّصين هم فقط أولئك الذين كُتبت أسماؤهم في سفر الحياة منذ تأسيس العالم.

أما سفر الأعمال الرسل ففيه عبارة واحدة (13: 48) تبحث مباشرة في فكرة الاختيار، وهي عبارة في غاية الأهمية. تقول الآية: "فلما سمع الأمم ذلك كانوا يفرحون ويمجّدون كلمة الرب، وآمن جميع الذين كانوا معيّنين للحياة الأبديّة." إن عبارة "كانوا معيّنين" في صيغتها اليونانية كان من الأصح ترجمتها "كانوا قد تعيّنوا." إن صيغتها هي أقوى صيغة ممكنة في اللغة لتدل على أن التعيين سبق الإيمان.

لا نجد ضرورة للمزيد من القول إن الاختيار هو من عقائد بولس الرئيسية، إذ إن هذا أمر مسلّم به ومقبول عالمياً. إن بولس لا يكتفي باستخدام كلمة "مختارين" هنا وهناك في رسائله ولكنه يبحث في هذه العقيدة في مقاطع هامّة كثيرة وعلى نحو مباشر. من أقوال بولس إن الله "باركنا بكل بركة روحية في السمويات في المسيح كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم" (أفسس 1: 3، 4). وإن الله خلّصنا ودعانا..."بمقتضى القصد والنعمة" (2تيموثاوس 1: 9). وإننا نلنا نصيباً في ميراث ملكوت المسيح "معيّنين سابقاً حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته" (أفسس 1: 11). و"الذين سبق فعرفهم سبق فعيّنهم" (رومية 8: 29). "عالمين أيها الأخوة المحبوبون من الله اختياركم" (1تسالونيكي 1: 4). "الله اختاركم من البدء للخلاص" (2تسالونيكي 2: 13).

هناك موضع واحد في العهد الجديد حيث يبدو وكأن تفكير بولس يختلف عن تفكير يسوع، لكننا إذا فحصنا الآيات نكتشف أن الاختلاف هو مجرّد اختلاف في الكلمات المستخدمة وليس في الفكر. يعتبر بولس المدعوّين والمختارين اسمين لمسمّى واحد، أما يسوع فقد قال: "لأن كثيرين يُدعَون وقليلين يُنتخَبون (باليونانية: يُختارون)" (متى 22: 4). يظهر أن يسوع هنا يستخدم كلمة "يُدعون" بمعناها العام فتعني أولئك الذين تبلغهم الدعوة للاشتراك في امتيازات الخلاص. إن جميع البشر، من هذه الناحية، مدعوون. لكن بولس يستخدم هذا الاصطلاح ويقصد به دعوة الله التي تنجح في جعل الناس يصمّمون على قبول المسيح، ومن هذه الناحية المخلّصون وحدهم مدعوون. ويمكن القول أن يسوع وبولس، كليهما، اعتقدا أن المخلّصين هم المختارون (أو المنتخبون). كان كلاهما يربط بين خلاص الناس واختيار الله لهؤلاء الناس.

والعجيب أن يعقوب على الرغم من الاختصار والقصد الخاص في رسالته، يقول إن الخلاص نتيجة للاختيار. نراه يذكّر قرّاء رسالته بأن "كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة" (يعقوب 1: 17) ويستنتج من ذلك إن الله "شاء فولدنا بكلمة الحق" (يعقوب 1: 18). وعندما يؤنّب الشعب على موقفهم تجاه الفقراء نراه يقول: "أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان؟" (يعقوب 2: 5). لا نستطيع التشديد على أن يعقوب عظّم هذه العقيدة كثيراً، فلو أنه فعل ذلك لكان مستغرباً، وهو إنما يستخدم عقيدة الاختيار في كلا الموضعين من رسالته كأساس يبني عليه وعظه العملي. إن هذا في ذاته ليكشف لنا مدى عمق الاقتناع المسيحي بأن الخلاص يجيء نتيجة لاختيار الله السابق.

وبطرس، مثل يعقوب، لا يشدّد كثيراً على هذه العقيدة، ومع ذلك فالاختيار يشكّل جزءاً مميّزاً من اقتناعاته كما يتبين ذلك من رسالتيه. إنه لم يبحث قط في هذه العقيدة، ولكنه يستخدم الكلمات "مختارين، ومختار، ومختارة"، وهو يصف بها، أولاً، الأفراد المسيحيين (1بطرس 1: 1)، وثانياً، الجماعة المسيحية (2بطرس 2: 9 و5: 13). ويستعمل كذلك كلمة "اختياركم" وهو يعظ المسيحيين بالقول "اجتهدوا أيها الأخوة أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين" (2بطرس 1: 10).

أما الرسالة إلى العبرانيين فتمثّل النطاق الكبير الوحيد في حبل فكر العهد الجديد الذي لا يشير مباشرة إلى فكرة الاختيار. إلا إننا نجد حقيقة الاختيار في هذه الرسالة في شكل غير ظاهر وتتضمنها عقيدة التقديس. ينظر كاتب الرسالة إلى مجيء المسيح إلى العالم فيرى فيه ذروة برنامج الفداء الإلهي في العالم، وهو البرنامج الذي يهدف إلى خلاص بني الإنسان أي تقديسهم. ويقول إن كلاًّ من المقدِّس الذي يقوم بعمل التقديس، أي المسيح، والمقدَّسين الذين هم المؤمنون، جميعهم يأتون من مصدر واحد، الذي هو الله (عبرانيين 2: 11). هذه فكرة أساسية في الرسالة، ويمكننا لذلك أن نخلص إلى القول إن الآراء التي تتضمنها عقيدة الاختيار كانت تشكّل جزءاً من العقائد الأساسية التي كان يعتقدها كاتب هذه الرسالة أيضاً.

لذلك نرى أن عقيدة الاختيار هي تعليم أساسّي في العهد الجديد. ومهما كانت نظرتنا إلى هذه العقيدة فلا بدّ لنا من أخذها بعين الاعتبار إن كنا نودّ فهم أفكار كتّاب العهد الجديد. كثيراً ما نجد هذه العقيدة معبّراً عنها بطرق مباشرة لا التباس فيها، ونجدها أحياناً مستترة ولكن تشكّل كل فكرة الأساس التي تقف وراء الفداء والخلاص. إنها جزء مما هو بديهي ومسلّم به في فكر العهد الجديد.

الاختيار فرديّ وليس مجرّد مسألة اجتماعية. يميل علماء العصر الحديث إلى محاولة بحث الاختيار بالنسبة لعلاقته بالقصد الإلهي التاريخي فقط، ذلك القصد الذي تجلّى في دراما الفداء الرائعة. يقول هـ. هـ. راولي في كتابه الهامّ الذي يبحث في موضوع الاختيار: "من الضروري بادئ ذي بدء القول بوضوح إنه ليس من قصدي معالجة المسألة اللاهوتية، مسألة الاختيار السابق للخلاص أو للهلاك، للسماء أو لجهنم، فتلك مسألة مختلفة كلياً عن البحث الذي نحن بصدده" (3). إن عبارة راولي هذه مبنية على خطأين خطيرين. الخطأ الأول هو أن هذا المؤلف يظن أن باستطاعته البحث في العقيدة الكتابية، عقيدة الاختيار، مع إغفال البحث في اختيار الفرد للخلاص. والخطأ الثاني هو إنه يظن أن بالإمكان التفريق بين تينك الناحيتين من الاختيار.

أما الكاتب أنطون فريد ريتشون في كتابه The Root of the Vine)) فيخالف راولي في هذه القضية بالذات إذ يقول بإصرار: "إن تحفظاً كهذا، على أي حال، غير ممكن إذا أريد للموضوع أن يُبحث بحثاً كاملاً" (4). ويكتب فريد ريتشون أيضاً بانياً بحثه بشكل رئيسي على قول يسوع "لأن كثيرين يُدعون وقليلين يُنتخبون" فيقول إن أي بحث كامل لعقيدة الاختيار الكتابية لا بدّ من أن يتضمن البحث في اختيار الفرد أو، ما هو أفضل، البحث في عقيدة التعيين السابق. ويرى هذا الكاتب إنه من غير الممكن إيجاد أي معنى لكلمات يسوع إلا إذا فهمناها على أنها تبحث في خلاص الفرد وصيرورته عضواً في ملكوت الله (5). ويقول أيضاً: "إن رفض الاعتقاد بالتعيين السابق رفضاً تاماً يجعل التعليم الجديد مبهماً محرّفاً" (6). ويبدو أن راولي تسبّب بمثل هذا الإبهام أو، على الأقل، بسوء تفسير الكتاب المقدس. إنه يفسّر تلك الآية المشهورة في رسالة بولس إلى أفسس فيقول بأن الكنيسة هي التي اختارها الله (7). لكن، يبدو من غير الممكن فهم كلمات بولس بهذه الطريقة. يقول بولس: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السموات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدّامه في المحبة، إذ سبق فعيّننا للتبنّي بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته" (أفسس 1: 3- 5).

ولما كتب ج. ب. ستيفنز، إن بولس هنا يعزو ما يعمله الله فعلاً، بمباركته البشر تاريخياً، إلى قصده الأزلي ليس إلا. وما يفعله الله في الخلاص قصد منذ الأزل أن يفعله. وقصده يتضمن ويراعي جميع المبادئ التي هي الأساس الذي عليه يعمل الله عندما يبارك البشر ويخلصهم (8). تحلّ بركات الخلاص على الناس واحداً واحدا بشكل فردي، على الرغم من أن الإنسان ينال تلك البركات وسط علاقات قائمة بينه وبين الآخرين، ولا بدّ لنا من القول أن اختيار الله اختيار فرديّ. إنها لحقيقة ثابتة إن الفرد يقف في الواجهة في بعض أبحاث بولس التي تدور حول الاختيار، وهذا مؤكد عليه في قول بولس، "لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعيّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكراً في أخوة كثيرين. والذين سبق فعيّنهم فهؤلاء دعاهم أيضاً. والذين دعاهم فهؤلاء برّرهم أيضاً، والذين برّرهم فهؤلاء مجّدهم أيضاً" (رومية 8: 29، 30).

كتب بول أ. ديفيز مقالاً بحث فيه "الفرديّة" في تعاليم يسوع وبيّن الاتفاق الجوهري القائم بين تعاليم يسوع وتعليم بولس في التشديد على مسألة الفرد. ويقول ديفيز إن اهتمام بولس الرئيسي منصرف إلى المؤمن كفرد وكيف يصبح هذا الفرد مؤمناً مسيحياً وكيف يحافظ على حياته المسيحية. ويقول بالحرف: "إن هذه الحياة المسيحية حياة شخصية من بدايتها: لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك إن الله أقامه من الأموات خلصت. وهكذا نجد أن الشرط المركزي للإيمان شخصيّ وفرديّ. فالناس في الواقع يؤمنون واحداً واحدا، ويحصلون على الغفران واحداً واحدا، وعلى هذا النحو الفردي أيضاً يختبرون نعمة الله في كل من التبرير، والمصالحة، والتبنّي. ليس من حركة جماعية في قول بولس (في رومية 8: 14) لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله. إن عقيدة بولس صعبة، أي عقيدة التعيين السابق، تتركز على الفرد كما هو في قصد الله" (9). يمكن إيراد الكثير من الآيات التي تبيّن أن عقيدة الاختيار في الكتاب المقدس يجب أن تتضمن بحثاً في اختيار الفرد للخلاص، ولكننا نكتفي بالآيات التي أوردناها.

إننا لا ننفي صحة نظرة راولي الخاصة إلى عقيدة الاختيار، وإنما ننفي إمكان استثناء عقيدة اختيار الفرد عند البحث في فكر الكتاب المقدس. صحيح إن قصد الله يتضمن كل ما يجري في تاريخ الفداء ولكن من غير الجائز التفريق بين هذا القصد التاريخي وبين خلاص الفرد واختياره. يمكن الاختيار العام أن يكون ذا أثر بالغ ومعنى وذلك فقط بترابطه مع اختيار الفرد للخلاص وللخدمة. إن راولي نفسه يوافق على هذا إلا أن ما يستهلّ به بحثه غير واضح ويمكن أن يساء فهمه. يقول إن معنى الاختيار يتوقّف على الإيمان، وإن "زمام المبادرة في الفداء هو دائماً في يد الله، وذلك ما يجعل كل إنسان مَفديٍّ يحسّ بأنه إذا هو اختار الله فذلك لأن الله سبق واختاره، وإذا هو أحبّ الله فذلك لأن الله أحبه أولاً، وإن كل حب بشريّ موجّه نحو الله فما هو إلا تجاوب مع ذلك الحب الإلهي".

لا بدّ من الإقرار بأن الاعتقاد باختيار فرديّ لهو أصعب اعتقاد متّصل بدراسة قصد الله، فإنه يضخّم المذمّة التي ينسبها البعض للتخصيص الإلهي. إنّ بول س. ماينير يبحث في "أهمية قصد الله، وسلطان ذلك القصد، واستمراره وأولويته، " ثم يضيف: "قد يكون أسهل على الفكر العصري أن يستوعب هذه النواحي الأربع في قصد الله من أن يستوعب الاستدلال الخامس الذي هو التخصيص في قصد الله. عندما يقوا الله "أنا اخترتك" فإنه يميّزك أنت ويختصّك دون أي شخص آخر سواك. إن القول بأن لله قصداً عاماً يتناول جميع بني الإنسان وكل ما ينتج عن التاريخ لهو قول مبتذل ويتحول بسرعة ليصبح مثل "كليشة" لا معنى لها. أما القول بأن لله قصداً خاصاً فيّ الآن فهو أمر أعظم ولا يكاد يصدّق". ومع هذا فإن فكرة التخصيص هذه فكرة أساسية في تعليم العهد الجديد. إنها تعليم يجب ألا نهمله إن كنا نريد حقاً أن نفهم قصد الله الكامل.

لا يستطيع المرء أن يرى بوضوح المكانة المركزية التي لعقيدة الاختيار ما لم يدرك إنها العامل الذي يحيط بكل عقيدة هامّة من عقائد الكتاب المقدس. فلا يكفي كونها واردة في تلك الآيات التي تتكلم عنها على نحو مباشر أو غير مباشر، بل نراها مضمّنة بالضرورة في العقائد الأخرى أيضاً. يتكلم أميل برونر عن عقيدة الاختيار فيسميها "قلب الإنجيل" (12). إن فكرة الاختيار هي النتيجة الطبيعية التي لا بدّ منها لفكرة الخلاص بالنعمة. وهذه كانت الحقيقة التي أثّرت في كلفين، المصلح المعروف، فجعلته يكتب صيغة العقيدة المسيحية. لقد فكّر كلفين، وكان على حق، إنّه لا بدّ أن يكون الله صاحب السيادة في منحه النعمة، فإنه ينتخب الناس للخلاص بإرادته وسيادته، وإلا فالنعمة لا تكون نعمة. لم يكن كلفين في هذا الاعتقاد وحيداً بل شاركه فيه المصلحون الآخرون، وأصبح الاعتقاد بالاختيار العقيدة البروتستانتية الأساسية التي ثارت ضد النظرية الكاثوليكية الرومانية القائلة بأن الخلاص هو بالعمل والاستحقاق البشري. كان المصلحون على صواب في هذه النقطة على الأقل وهي: إن الاختيار هو النتيجة الطبيعية التي لا بدّ منها لعقيدة الخلاص بالنعمة. إذا قلنا إن الله يخلّص البشر بنعمته المجانية غير المحصّلة بالاستحقاق من جانب أولئك البشر فمن الضروري القول أيضاً إن المبادرة الإلهية في الخلاص مؤسسة في شخص الله وقصده وغير مُعتمِدة بأي حال على استحقاق البشر.

نرى إذن أن عقيدة الاختيار هي من عقائد العهد الجديد الأساسية وإنها متعلقة بخلاص الفرد إذ إن الفرد محور اهتمامها. بقي الآن أن نسأل: متى حدث الاختيار أو متى يحدث؟ هناك من يقولون إن الله يقوم بالاختيار على ضوء الأحوال وكيفية تكاملها، وإن الاختيار يجيء وليداً للوقت أو الزمن وليس أمراً مقرراً من الأزل. يعلّم العهد الجديد، من الناحية الأخرى، إن الاختيار هو من الأزل وإلى الأبد. يصف كاتب الرؤيا عابدي الوحش فيقول عنهم "الذين ليست أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة منذ تأسيس العالم" (رؤيا 17: 8 وقارن رؤيا 13: 8). إنه، ولا شك، يقصد أن يقول بهذا الوصف أن المخلّصين هم أولئك الذين أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة منذ تأسيس العالم. وهذا التعبير الأخير يعود بنا إلى وقت تأسيس النظام الكوني المنظور كله، وكما يقول هـ. ب. سويت، "الخليقة موصوفة كبنيان ضخم تحت يدي المهندس الإلهي". إن التعبير المذكور هنا، وحسب ما قاله بولس، يبيّن أن قصد الله الذي يتحقّق في خلاص الفرد يعود إلى الماضي إلى ما قبل بدء التاريخ. إنه يبيّن أن قصد الله أزلي. يقول بولس إن الله باركنا "كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم" (أفسس 1: 4). ويقول أيضاً عن الله "الذي خلصنا...بمقتضى القصد والنعمة التي أعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية" (2تيموثاوس 1: 9). ويقول أيضاً "إن الله اختاركم من البدء للخلاص" (2تسالونيكي 2: 13). ونجد الفكرة ذاتها مُضَمّنة بوضوح وقوة في قول يسوع "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم" (متى 25: 34).

يبدو إنه ليس من طريقة أخرى لتفسير هذه الآيات على النحو الصحيح إلا إذا أدركنا إنها تعني أن قصد الله في الخلاص هو قصد أزلي، الأمر الذي يتّفق مع كيانه الأزلي. تقترح هذه الآيات إن الذين كتبوا أسفار الكتاب المقدس لم يفكّروا بأن الخلاص كان فكرة طارئة خطرت للخالق في زمن متأخر، ولا كان حادثاً وقع مصادفة في أثناء التطوّر البشري بل هو قصد مؤسس في الأزلية نفسها. إن مجمل آراء العلماء يؤيّد هذا التفسير. ويقول برونر: "الاختيار الإلهي ليس فقط حسب الكتاب المقدس بل هو بالحق مركز هذا الكتاب". ويقول ستيفنز إن بولس في كلامه عن نعمة الله كان بحسب الفكر اليهودي "يعزو عمل الخلاص إلى قصد الله الأزلي". ويعتقد كونر (في كتابه إنجيل الفداء) إن العهد الجديد يعلّم بأن الله لم يفكّر فجأة بأن يخلّص أفراد الناس بل بالأحرى كان منذ الأزل يعمل سائراً في اتجاه أولئك الذين اختارهم. يكاد يكون هناك إجماع في آراء المفسّرين حول هذه النقطة حتى لنقول بالحق إن هناك اتفاقاً إجمالياً في الرأي على أن العهد الجديد يعلّم إن اختيار الله بطبيعته اختيار أزلي. ليس جميع الذين يقرأون يعترفون بسلطان العهد الجديد في معتقداتهم، ولكنهم مع ذلك يقرّون إن الاختيار عقيدة مؤسسة على العهد الجديد.

لكن، على الرغم من الوضوح في آيات الكتاب المقدس وإجماع العلماء القويّ على تفسير الآيات تفسيراً صحيحاً يظل هناك من ينكر أن الاختيار أزليّ. مثلاً، إن ويليبالد بيشلاغ في كتابه "لاهوت العهد الجديد وهو يعلّق على الآية في 1بطرس 1: 1- 2، ينكر أن المفهوم من الاختيار هو إنه جرى قبل خلق العالم، ويعتقد أن الاختيار يحدث في التاريخ أو في الزمن. ويرى أنه كما جرى اختيار إسرائيل من بين جمهور من الأمم هكذا اختار الله المؤمنين بالمسيح كأفراد من بين جماهير الوثنيين الذين يعيشون بينهم". يبدو أنه ليس هناك أي سند من الكتاب المقدس يؤيّد موقف بيشلاغ هذا. وإن بطرس لم يذكر شيئاً قط عن زمن حدوث الاختيار بالنسبة لاختيار الخلاص، إذ إن ما يقوله هنا هو أن الاختيار جرى "بمقتضى علم الله الآب السابق" دون تحديد للوقت. هذه الآية، إذن، لا تؤيد أزلية الاختيار ولا تنفيها. وما دام بيشلاغ لا يربط بين كلمات بطرس في الآية والآيات الأخرى التي في الكتاب المقدس التي تصف بوضوح اختيار الله على أنه جرى قبل "تأسيس العالم"، لذلك فلا سبيل لتعيين الأساس الذي عليه بنى بيشلاغ عقيدته. إن الحل الوحيد هو أن نعتبر موقفه هذا مجرّد تسرُّع في الحكم. إنه لا يؤمن بالاختيار الأزلي، لذلك يفهم من الكتاب المقدس ما يجول في أفكاره هو.

هناك معترض آخر يبدو أن لاعتقاداته أساساً أقوى مما لاعتقادات بيشلاغ. فالكاتب ج. روسون لمبي، في تفسيره لأعمال الرسل وتعليقه على الإصحاح 13، يوازي بين الآية 48 "وآمن جميع الذين كانوا معيّنين للحياة الأبدية" والآية 46 التي يقول بولس فيها لليهود الذين رفضوا رسالته: "ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجّه إلى الأمم." ويقول لمبي إن ما تعنيه الآية 48 هو على نقيض ما جاء في الآية 46. أي أن اليهود بيّنوا بأعمالهم عدم استحقاقهم للخلاص، بينما أبدى الأمم رغبتهم في أن يخلصوا. هنا فريقان، وقد وضع كلّ منهما في وضع مُغاير للآخر. يظن لمبي إن العمل الأساسي في كل من الحالين هو عمل أولئك الناس الذين قرّروا مصائرهم بأنفسهم، وما الله إلا عامل مسبِّب عن بعد. إن تفسير لمبي هذا لا ينكر الاختيار الأزلي وحسب بل ينكر الاختيار من أي نوع أصلاً. إن خطأ هذا الموقف هو في القول إن الخلاص والهلاك نقيضان حقيقيان. يقول هذا المنطق إنه إذا عُزي الهلاك لاختيار الإنسان فلا بد من عزو الخلاص أيضاً لاختيار الإنسان. إن اعتبار الخلاص عائداً لاختيار الإنسان هو عمل مؤذٍ في بحث هذه العقيدة، وقد أدّى في بعض الحالات إلى فكرة الاختيار المُزدَوج وفي الحالات الأخرى إلى فكرة " اللا اختيار". إن عزو الخلاص إلى اختيار الإنسان غير مؤسّس على تفسير صحيح للكتاب المقدس بل على المنطق أو بالأحرى على منطق مغلوط. إن كلمات الآيتين في سفر الأعمال تتنافى مع أي تفسير لا يعتبر فكرة الاختيار الإلهي في الآية 48. تقول الآية في 13: 46 إن اليهود في إنطاكية بيسدية دفعوا عنهم كلمة الله وحكما أنهم غير مستحقين للخلاص، بينما تقول الآية في 13: 48 إن الذين آمنوا هم "الذين كانوا معيّنين للحياة الأبدية". لو أن كاتب سفر الأعمال قصد أن يورد ما يتباين مع الاختيار البشري لكان استخدم عبارات أخرى غير هذه. إن الكاتب هـ. ب. هاكت (في تفسيره لسفر الأعمال) يعارض تفسير هذه الآية المناقض لعقيدة الاختيار ويعتبره تفسيراً "قسرياً وغير مُرضٍ". أما الكاتب ج. هـ. ماك غريغور فمع إنه يقول في تفسيره هذه الآية إن الكلام عن الذين خلصوا قد يعني أنهم كانوا يشعرون بميل إلى الخلاص بل أكثر من ذلك قليلاً، لكنه يرجّح أن الكلام في الآية يشير إلى تعيين الله السابق.

لذلك يبدو أن البرهان القوي هو في صالح الاعتقاد بأن الاختيار للخلاص هو أزلي، وإن الاختيار الأزلي يتفق تماماً مع طبيعة الله. إن ما يفعله الله الآن لا بدّ من أن تكون له بداية وعلة منذ الأزل. إن مقاصد البشر هي دائماً زمنية لأنهم مخلوقات محدودة بالزمن. يجدر بنا أن نتوقّع أن نجد قصد الله قصداً أزلياً لأن الله أزلي. إن هذا هو ما نجده فعلاً في ما يعلّم به الكتاب المقدّس فيما يتعلق بقصد الله في الاختيار. يشير الدكتور كونر إلى فكرة الاختيار هذه تثبت اتفاق الله مع صفاته. يقول الدكتور كونر في كتابه "إنجيل الفداء" إن عقيدة الاختيار "تقول بأن طبيعة الله، ومقاصده، وأعماله تتفق جميعها الواحد مع الآخر".

لقد كان الجدل الرئيسي في تاريخ عقيدة الاختيار يدور حول قضية واحدة وهي: هل الاختيار مشروط أم غير مشروط؟ وتستعمل كلمة "مشروط" في هذا الجدل مشيرة إلى سبب خارج عن الله نفسه يجعله يختار أن يخلّص أولئك الذين يختار أن يخلّصهم. إذا كان هذا المقصود بكلمة مشروط فعلينا أن نعتقد أن الاختيار غير المشروط، إذ أنه مؤسّس في الله وحده. ربما كان أوغسطين أول من استخدم هذا الاصطلاح وأصبح ذلك جزءاً من علم اللاهوت، مع إننا نعتقد أن الاختيار عقيدة موجودة في الكتاب المقدس وليست من اكتشاف أي كاتب متأخر. لقد بدأ أوغسطين بفكرة شرّ الإنسان وعجزه في الأمور الروحية فتوصّل من ذلك إلى عقيدة التعيين السابق أو الاختيار غير المشروط. كان أوغسطين يعتقد أن أولئك الذين نالوا الخلاص لم يقرّر الله اختيارهم ليكافئهم على إيمانهم لكنه اختارهم لكي يقبلوا الإيمان المخلّص، هذا الإيمان الذي هو نفسه عطية الله. ولم يستطع أوغسطين قط أن يتوصّل إلى تفسير وافٍ لاختيار الله فئة من بني البشر ليقبلوا الخلاص، إذ كان يؤمن "بالنعمة التي لا تقاوم"، لكنه كان مُصرّاً، وله الحق في ذلك، على اختيار الله لخلاص بعض الأفراد لم يكن مؤسساً على أن الله سبق فرأى إيمان أولئك الأفراد الذي سيظهر في حينه.

وكثيراً ما نجد اسم جون كلفين، المصلح الديني المعروف، مقروناً بعقيدة الاختيار. بل لدى البعض، ولا شكّ، انطباع بأنه هو الذي أوجد هذه العقيدة. لكنّ هذا ليس صحيحاً. كان كلفين متّفقاً بشكل جوهري مع أوغسطين ومع زملائه رجال الإصلاح، فلم يوجد عقيدة الاختيار. إن ما أسهم به كلفين بشكل رئيسي في هذا الأمر لم يكن إيجاد العقيدة بل جعلها جزءاً من علم اللاهوت الذي كتبه في كتابة "إنشاءات الديانة المسيحية" (Institutes) الذي اتّخذته البروتستانية الغربية كلها مرجعاً لعقائدها. إن جميع هؤلاء الرجال شدّدوا باستمرار على الحقيقة القائلة بأنه ليس من شيء "خلف إرادة الله أو فوقها يضبطها أو يقرّرها". ليس هناك من شكّ أن كلفين كان يؤمن بأن الاختيار مؤسس كليّاً على طبيعة الله وقصده وليس على أي شيء أخر.

لقد ظهر موقف لاهوتيّ عام مناهض لهذا الموقف وقد عرف بالموقف الأرميني، نسبة إلى أرمينيوس، وهو لاهوتيّ مشهور جاهد ضد ما يسمى بالعقيدة الكلفينية القائلة بالاختيار غير المشروط. كان أرمينيوس يعتقد أن اختيار الله محصور في علمه السابق، وإنه تعالى صمّم أن يهب الخلاص لجميع الذين سبق أن عرف أنهم سيؤمنون بواسطة نعمته. وإننا، إذا فحصنا فكرة إرمينيوس عن كثب، نجد الاختيار في رأيه هو تصميم الله على ألاّ يوجد الإيمان في الإنسان بل أن يكافئ ذلك الإنسان على إيمانه. أي أن أرمينيوس كان يؤمن بالاختيار المشروط، وهو، كما يقول فيشر، "اختيار يعتمد على معرفة الله السابقة لإيمان ذلك الشخص المختار". لقد تقدّمت عقيدة أرمينيوس هذه في المسيحية الحديثة إلى حدّ أن الاعتقاد بالخلاص بواسطة النعمة أصبح في خطر.

قد يبدو هذا الانقسام الصريح في الفكر ضرورياً في درس عقيدة الاختيار، ولكنه انقسام مؤسّس على استخدام المنطق في بحث القضية استخداماً مغلوطاً. إن هاتين المدرستين الفكريّتين اعتقدتا أن كل ما يقال عن الشخص المختار يجب أن يقال بالمقابل عن غير المختار. لذلك نجد الكلفينيين يصرّون على أن البعض خلصوا لأنهم مختارون من الله للخلاص، والبعض الآخر، على غرار ذلك، قد هلكوا لأن الله اختارهم للهلاك. ويصرّ الأرمينيون، من الناحية الأخرى، على أن أناساً هلكوا لسبب واحد وحيد وهو أنهم رفضوا أن يؤمنوا عندما سمعوا بشارة الإنجيل. لذلك، فهم يرون على هذا الأساس، أن الذين نالوا الخلاص قد نالوه لأنهم، من تلقاء أنفسهم، آمنوا. وإذ إنهم يعتبرون قصد الله اعتباراً جدياً يكتفون بالقول إن اختيار الله هو نعمته المخلّصة، هو عندما يختار أن يكافئ الإيمان الذي سبق فعرفه بعلمه السابق.

وكما يحدث كثيراً في مجادلات كهذه أن كلاًّ من جانبي الجدل مصيب ومخطئ في آن معاً. إن القضية هي أن علينا أن نفصل الفكرتين، الواحدة عن الأخرى، لكي نتمكّن من فهم آيات الكتاب المقدس فهماً صحيحاً. تبحث عقيدة الاختيار في السبب والكيفية التي بها الناس يخلصون. أما السبب والكيفية التي بها يهلك الناس فموضوع مختلف تماماً، وهو الموضوع الذي سبق أن بحثناه في فصل سابق. إن الخط المنطقي الذي كان الناس يسيرون عليه في الماضي في هذه المنطقة من الجدل اللاهوتي، يؤدّي بنا، لو تتّبعناه في القضايا الحياتية الأخرى، إلى استنتاجات سخيفة، ونصل إلى النتيجة نفسها في قضية الاختيار أيضاً. مثلاً، يصح أن نقول أن طبيباً عالج مريضاً وشفاه لأنه، أيّ الطبيب ، كان يعرف الدواء وكان يسعى لشفاء المرضى. لكن من السُّخف والخطأ أن نقول أن الطبيب ذاته تسبّب بالموت لمريض لأنه لم يحاول ولم يرد أن يشفيه. يختار الله الناس للخلاص لأنه يريد خلاصهم وهذه هي الطريقة الوحيدة التي بها يكون الخلاص ممكناً. لكن، من الناحية الأخرى، يهلك الناس لأن الله لا يقدر أن يخلّصهم، ذلك لأنهم لا يريدون الخلاص ولا يتيحون له أن يخلصهم.

عندما ندرس الكتاب المقدس نجد الاختيار مؤسّساً على محبة الله وطبيعته. إنه من هذه الناحية خلاصٌ غير غير مشروط. يقول بولس بلهجة التأكيد أننا مخلّصون لأن الله "سبق فعيّننا للتبنّي بيسوع المسيح لنفسه حسب مسّرة مشيئته" (أفسس 1: 5). ويضيف بعد ذلك قوله أنه تعالى "عرّفنا بسرّ مشيئته حسب مسرّته التي قصدها في نفسه" (أفسس 1: 9). ويقول أيضاً أن الفداء هو "حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته" (أفسس1: 11). وقال بولس في رسالته الثانية إلى تيموثاوس إن الله خلّصنا، "لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد التي أعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية". ويقول يعقوب عن الله أنه "شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" (يعقوب 1: 18). ليس في آيات الكتاب هذه أية إشارة إلى أي شيء خارجي حرّك الله ودفعه فجعله يصمم أن يفعل الذي فعله في خلاص الناس. ويظهر أن التعريف الذي يعرّف به اللاهوتي سترونغ (A. H. Strong) الاختيار متفق تماما مع العهد الجديد. يقول هذا اللاهوتي في كتابه "اللاهوت النظامي" ما يلي: "إن الاختيار هو ذلك العمل الإلهي الأزلي الذي به يبادر الله، بدافع من مسرته السائدة المطلقة وليس لأي استحقاق لدى الناس، فيختار بعضاً من وسط مجموع الخطاة ليكونوا قابلين لنعمة روحه الخاصة ولكي يكونوا بذلك المشاركين التلقائيين في خلاص المسيح".

لا يعني قولنا هذا أنه ليس هناك أي سبب يجعل الله يفعل في أمر الخلاص ما يفعله، فهذا ليس المقصود بالقول أن الاختيار غير مشروط. لدى الله أسباب دائماً، أسباب لأعماله وقصده. قد لا تكون هذه الأسباب معروفة لدينا ولكن عدم معرفتنا إياها لا يعني أنها غير موجودة. لله أسباب هو يعرفها. أظن أننا نجد تلميحاً يتعلق ببحثنا في رسالة بطرس الأولى التي يقول فيها أننا مختارون "بمقتضى علم الله السابق" (بطرس 1: 2). سنحاول فحص معنى هذه العبارة في الفصل التالي من هذا الكتاب. ولنقل، ختاماً، إن تصميم الله على اختيار الذين اختارهم للخلاص يعود إلى سبب واحد وتام، وهذا السبب هو في الله ذاته.

  • عدد الزيارات: 10413