Skip to main content

الفصل الثالث عشر: قصد الله والحرية البشرية

إن قصد الله، في المجال الروحي في الحياة، لا يقيد الحرية البشرية ولا يقضي عليها بل بالأحرى يُنشئ هذه الحرية ويوجدها. إن من أعظم الاعتراضات التي يتذرع بها أولئك الذين يرفضون الاعتقاد بقصد الله وعلاقته بالخلاص البشري أو بتاريخ العالم هو اعتقادهم أن تعليماً كهذا يقضي على فكرة الحياة البشرية. إن هذا الاعتراض يستمد قوته عادة بسبب عقيدة الاختيار في شكلها المتطرف، وله وزن فعلاً ضد ذلك الشكل المتطرف من العقيدة، لكن لا وزن له بأي حال ضد عقيدة الاختيار كما قدمناها في هذا الكتاب وكما هي في أسفار العهد الجديد. إذا كان القارئ قد فهم ما الذي عنيناه بعقيدة قصد الله في بحثنا السابق فإنه لا بد من أن يفهم بأننا لا نعتقد بأن الله يقتحم حياة الإنسان وقلبه فيرغمه على أن يستجيب لنعمة الله ضد إرادته ورغبته، أو أن الله يستطيع أن يجعل الإنسان يستجيب رغماً عن رغبته. الإنسان حر في كل علاقاته بالله، وليس هناك أي إرغام يفرضه الله على إرادته. فإننا، إذا قلنا أن الإنسان مرغم، بالنعمة التي لا تقاوم على قبول نعمة الله، يصبح الإنسان مجرد لعبة في يدي الله الحي. إننا لا نعتقد أن هذا هو تعليم العهد الجديد الصحيح. الله ذو سيادة مطلقة، لكن الإنسان أيضاً حر. بل، الله ذو سيادة مطلقة، فالإنسان لذلك حر. ليست الفكرتان متعارضتان متناقضتان، بل هما متكاملتان.

إننا، لكي نبين ونبرهن صدق هذه الحقيقة، نحتاج إلى أن نلاحظ، أولاً، أن الله في تعامله مع الإنسان لا يعتدي على الحرية البشرية. يعلّم العهد الجديد بكل وضوح أنه عندما يخلص الإنسان يدخل حياة الانطلاق والعمل بحرية. قال يسوع لليهود: "إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم" (يوحنا31:8-32). إن الإنسان بدون أن يعرف الحق – حق الإنجيل- معرفة اختيارية، هو مستعبد. وعندما يعرف الحق فالحق لا يستعبده بل يحرره. يتفق بولس تمام الاتفاق مع يسوع في هذا الأمر. يقول بولس: "فإنكم إنما دعيتم إلى الحرية" (غلاطية13:5). إن علينا أن نحافظ على هذه الحرية التي إليها دعانا المسيح ولا نستهين بها بالرجوع إلى الديانة الناموسية، كما يجب ألا نستغل هذه الحرية ونتخذها ستاراً للانغماس في الإثم، إذ أنها حرية نقية حقّة. يتكلم بولس أيضاً عن "حرية مجد أولاد الله" التي ستدخلها الخليقة كلها متطهرة من فسادها (رومية21:8). وأكثر من ذلك يبين بولس الطريق إلى تلك الحرية بقوله "حيث روح الرب هناك حرية" (2كورنثوس17:3). إن آيات الكتاب المقدس هذه تبين بكل تأكيد أن الله في تعامله مع الناس لا يقضي على حريتهم. أنها تبين أن الشركة مع الله توجد للإنسان حرية وتمكن هذه الحرية وتقويها. إن ما يعنيه الكتاب المقدس بالحرية هو غير ما يفهمه بعض الناس في هذا العصر من الحرية. أنها في عرف الكتاب المقدس حرية حقيقة. وسوف نوضح لاحقاً في هذا الفصل المعنى الصحيح للحرية. على كل حال، إن حرية العمل في الحياة الروحية تعتمد على علاقة الإنسان الصحيحة بالله. 

هناك براهين أخرى على هذه الحقيقة لا بأس من ذكرها. نجد البرهان الأول في تلك الدعوة المتكررة في الكتاب المقدس. لا بد لمن يقرأ الكتاب المقدس من أن يلاحظ كثرة الدعوات التي يوجهها الله للإنسان. نجد هذه الدعوات متكررة في كل أجزاء الكتاب. "التفتوا إلي واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله وليس آخر" (اشعياء22:45). "من يرد فليأخذ ماء حياة مجاناً" (رؤيا 17:22). "تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (متى28:11). إن هذه الدعوات جميعها وكثيراً غيرها في الكتاب تشهد لهذه الحقيقة وهي أن الله لا يرغم الإنسان بل يدعوه لكي يستجيب تلقائياً بملء حريته. إن القوة الوحيدة التي يستخدمها الله في حواره مع الإنسان هي قوة الإقناع التي هي نفسها الدليل على حرية الإنسان وقدرته على الاستجابة بحرية لدعوة الله. إن القول بأن الله يصادر حرية الإنسان في تعامله معه كان نقول بأن دعوات الله التي يدعو بها الإنسان ما هي إلا مهزلة. إن علينا أن نصر على أن الله لا يصادر حرية الإنسان أو يحطمها في تعامله الفدائي مع الإنسان.

البرهان الثاني الذي يؤيد حقيقة حرية الإنسان هو أن الله يدين الإنسان الذي لا يستجيب لدعواته اللطيفة. "الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يوحنا18:3). تدل هذه الدينونة على أن الله يراعي حرية الإنسان ويطالبه محمّلاً إياه مسؤولية اختياراته. للإنسان الحرية والحق بأن يقضي على نفسه بعصيأنه ورفضه قبول نعمة الله، وأنه إذ يرفض تلك النعمة فهو إنما يمارس سلطته البشرية وحريته ولذلك يستحق دينونة الله. لو أن ما نقوله غير صحيح،وأن نعمة الله ترغم الإنسان على قبولها و لا سبيل له إلى مقاومتها،ولو أن ليس للإنسان حقاً أي خيار في الأمر، فإن الله يصبح عرضة لتهمة الظلم في إدانته ومعاقبته الإنسان الذي لا يؤمن. إننا ربما نشفق على شخص لا حيلة له بين يدي من هو أقوى منه ولا يستطيع التصرف كما يريد، لكننا أيضاً لا نكاد ندين إنساناً لمجرد أن لا حول له و لا حيلة. إننا نرسل بالإنسان المعتوه الذي يقترف جريمة القتل إلى مستشفى الأمراض العقلية، لا كعقاب على فعلته، بل للمعالجة من داء الجنون. أما القاتل الذي هو مسؤول عن أعماله فيحال إلى القضاء ليحاكم ويعاقب. إذا كان الله يدين من يرفض نعمته فهو لأن ذلك الإنسان الذي يرفض النعمة يفعل ذلك باختيار حر ولذلك فهو مذنب و يستحق العقاب.

إن الاختيار المسيحي يقدم الشهادة القوية والبرهان الساطع على أن الله يتعامل مع الناس دون أن يسيء إلى حريتهم؟ عندما ننال الخلاص نحس بأن الله اختارنا مثلما نحس بأننا نحن قد اخترناه. إن شعورنا بأننا قمنا باختيار حر شعور قوي في فكر المسيحي إلى حد جعل البعض ينساقون إلى تجاهل اختيار الله وإلى إنكار عقيدة الاختيار. إن هذا التجاهل لاختيار الله غير مؤسس على فهم صحيح للاختيار المسيحي ولكنه يدل على قوة الشعور بالحرية التي يتمتع بها الإنسان في تقرير موقفه. إننا نؤمن أن الاختبار المسيحي اختبار حقيقي وأن لشهادته قيمة كبيرة في تأييد تعاليم الكتاب المقدس في الموضوع المبحوث عنه.

والبرهان الأخير على أن الله لا يقضي على حرية الإنسان في تعامله معه هو في هذه الحقيقة، وهي أنه، على الرغم من كثرة الأدلة على تعامل الله مع الناس، سواء في الغضب أو في الخلاص، فليس في الكتاب المقدس أية عبارة تدل على أن الله يتجاهل في تعامله مع الإنسان إرادة ذلك الإنسان الحرة. صحيح أن بعض اللاهوتيين قدموا عقيدة الاختيار بطريقة تجاهلوا بها حرية الإنسان، ولكنهم بعملهم ذاك يناقضون تعاليم الكتاب المقدس. هنا تنطبق تعاليم بولس في رومية 9و 10 و11 انطباقاًً تاماً. لقد بحثنا في هذه المقاطع من رومية في فصل سابق وذكرنا أن بولس في رسالته تلك يجيب على اعتراض اليهود على عقيدة التبرير بالإيمان. أنه يصر على أن لله الحق في أن يفعل ما يشاء بحياة الإنسان وبالطريق التي يختارها، وليس للإنسان الحق في انتقاد ما يقرر الله أن يعمله. لكن بولس قال هذا كمقدمة للفكرة بأن الله لا يتعامل واقعياً وفعلاً على أساس تعسفي مع الإنسان، أنه لا يعامل الإنسان كما يفعل الفخار بالطين والآنية الفخارية التي يصنعها. في الواقع يعامل الله الإنسان على أساس أن الإنسان كائن أدبي حر الإرادة. إن سبب رفض الله لبني إسرائيل ليس أنه أراد رفضهم بل لأن بني إسرائيل رفضوا الاستجابة لدعوات الله واستمالاته الملحة المتكررة. يتضح لنا هذا الجانب من الصورة، الذي هو في الحقيقة لب تفكير بولس، عندما نقرا كلماته في الرسالة: "طول النهار بسطت يدي إلى شعب معاند ومقاوم" (رومية 21:10).

كما أنه من الحق القول أن الله لا يحطم حرية الإنسان في تعامله معه، هكذا أيضاً من الحق القول أن الله لا يستطيع أن يحطم حرية الإنسان وفي الوقت ذاته ينجز قصده فيه. إن قصد الله أن يخلص الإنسان. أنه بطبيعته قصد خلاصي افتدائي. وإن كنا نفهم ما معنى الخلاص في أسفار العهد الجديد فإننا ندرك أنه من غير الممكن أن يخلص الله الإنسان وفي الوقت ذاته يحطم حريته. الخلاص ليس صفقة آلية أو سطحية يتقرر بها مصير الإنسان بعد الموت، بل أنه صفقة ديناميكية يتغير بها خلق الإنسان وقلبه. ليس ما يهم الله أين سيقضي الإنسان الأبدية. ولكي تكون للإنسان شركة أبدية مع الله كان لزاماً أن يعمل الله ليأتي بالإنسان إلى هذه الشركة معه وليستميله إلى حياة العبادة والخدمة. وهذا يعني أن تكون للإنسان حريته في هذه العملية أو الصفقة وإلا لا يكون لها أي معنى أو نفع.إن من يرغمون على أن يخرّوا خاضعين أمام أية سلطة أو قوة لا يمكن أن يقال عنهم أنهم يحبون أو يكرهون تلك القوة. ولكي يكون لمشاعر النفس الشخصية العميقة معنى وقيمة لا بد لتلك النفس من أن تكون حرة. ما أكثر النساء في العالم اللواتي يرغبن في أن يجدن لهن أزواجاً. لكن المرأة الراغبة في الزواج تريد أن تجد من يمكنها من أن تحبه وتكرمه وتعزه، رجلاً يحبها ويكرمها ويعزها. لكن ليس من هؤلاء النساء من تريد أن تتزوج رجلاً لا يرغب في الزواج منها. أنهن يشعرن أن الزواج بالقوة ليس زواجاً أصيلاً. لا يريد الله أن يكون الإنسان مرغماً في الشركة معه. إذ، لكي تكون الشركة أو العلاقة بين الله والإنسان علاقة ذات معنى، لا بد من وجود حرية الاختيار في جميع العلاقات الشخصية، وعلى الأخص علاقة الخلاص التي هي شخصية. إن علاقة الزواج توضح هذه القضية، كذلك توضحها علاقة المعلم بتلميذه. لا يقدر المعلم، مهما كانت رغبته شديدة، أن يجعل تلميذه يتعلم، فالأمر يتوقف على التلميذ الذي يجب أن تكون لديه الرغبة في العلم لكي يتعلم. أما مهمة المعلم الأساسية فهي أن يقدم ما يخلق الدوافع في التلميذ بحيث يتنبه هذا التلميذ وتصبح لديه الرغبة في التعلم. يحتاج المعلم لأن ينجح في إقناع التلميذ إلى حد أن يستجيب هذا التلميذ تلقائياً ويقبل على التعلم، وإلا فلا يكون بالإمكان تعليمه شيئاً. لذلك نلاحظ أن الله، في تعامله مع الإنسان، لا يلغي حرية هذا الإنسان بل يحافظ عليها لكي يستطيع من خلال ذلك إنجاز قصده في ذلك الإنسان.

والآن نأتي إلى بحث الفكرة المركزية في هذا الفصل، ألا وهي: سيادة الله توجد الحرية البشرية. في الحيز الروحي في الحياة تعتمد الحرية البشرية على ممارسة الله قوته في حياة الإنسان. إن علينا، لكي نفهم هذه الحقيقة، أن نقف فنسأل: ما معنى الحرية البشرية؟ الحرية دائماً، وفي كل مجالات العمل، تتحدد بأمرين: الأمر الأول الحق في عمل شيء، والثاني القوة لتنفيذ ذلك العمل. ليست الحرية أن يختار الإنسان عمل شيء إذا كان لا يحق له أن يعمله أو إذا كان لا قدرة له على ذلك العمل. إن مجرد حرية الاختيار لا يكفي لتكون هناك حرية.

إن ممارسة الحرية البشرية يجب أن تشتمل على شيئين. أولاً، على الإنسان أن يرضخ للنظام الأدبي الذي يعيش فيه، وإلا إذا تصرف بحرية ضد ذلك النظام يجد مقاومة من قوى خارجية تنكر عليه حريته. إن من يخالف القوانين في المجتمع البشري يخسر حريته إذ يلقى به في السجن. بل حتى الإنسان الذي لا يخالف القوانين المرعية يجد أن حريته مقيدة فلا يجد أن بالإمكان التعدي على حقوق الآخرين. إن هذا هو الواقع في هذا العالم الذي هو عالم العلاقات الشخصية المتبادلة. إن حريتنا في العمل وفي الاختيار تصطدم دائماً بحقوق الآخرين. وكما أن للناس حقوقاً فإن لله أيضاً حقوقاً في حياتنا. إنه خالقنا والسلطان الأعظم على الكون ومصدر كل بركة، وعلى كل إنسان واجب مراعاة حقوق الله في حياته. عندما سلط الله الإنسان الأول على الأرض أعطاه حق السيطرة على كل الأشياء ما عدا نفسه. لقد أبقى الله لنفسه حق السيطرة على الإنسان، ولذلك، على كل إنسان واجب مراعاة حقوق الله فيه وأن يخضع نفسه ويسلم حياته لله.

طبعاً، يستطيع الإنسان أن يرفض مراعاة حقوق الله على حياته. للإنسان الحرية أو السلطة في أن يدمر نفسه إذا شاء ذلك. لكن الواقع هو أن الإنسان بممارسته مثل تلك السلطة بما يتعارض مع الحق أو الصواب يورط نفسه دائماً ويعرضها لنتائج رهيبة. إن رفض الإنسان الفرد لحقوق الله على حياته لا يؤدي إلى حرية بل إلى عبودية. الله لا يبادر حالاً لمعاقبة الخاطئ لدى اقترافه كل ذنب، وقد تكون معاقبة الخطيئة في الحاضر هي هذا الاستعباد للخطيئة أو هذه السيطرة على الإنسان من الجانب المنحط في ذاته. وكلما أمعن الإنسان في رفضه نعمة الله وحقوق الله في حياته كلما ازدادت عبوديته. وهكذا نجد أن الممارسة الخاطئة لحق الاختيار، سواء في المجال الروحي في الحياة أو في أي مجال آخر، تؤدي إلى تدمير الحرية.

أما الشيء الثاني الذي يجب أن تشتمل عيه ممارسة الإنسان للحرية فهو أن تكون لديه بالفعل القوة على عمل ما يختار أن يعمله علماً بأن اختياره اختيار حق من الناحية الخلقية. مثلاً، لا يختار أحد أن يقفز إلى القمر لأنه أصلاً لا يستطيع ذلك. وإننا هنا نصل إلى حيث نستطيع القول أن نعمة الله تخلق الحرية في الإنسان، إذ أن كل إنسان هو في عبودية للخطية. فقد جاء كل إنسان إلى هذا العالم وعمل وتصرف بشكل ورطه في عمل الخطية وفي الاستعباد لها. "إذ الجميع اخطئوا وأعوزهم مجد الله" (رومية23:3). إن هذا يعني إن الإنسان في حالته الخاطئة وبطبيعته الذاتية يقف في مواجهة حقيقية رهيبة. إن عليه أن يسلم حياته لله، ولكنه لا يستطيع ذلك. إن قواه الروحية فاسدة ومحطمة بسبب وجود الخطية إلى حد يجعله عاجزاً عن تحطيم قوة الخطية وتحرير نفسه منها. من الممكن أن يبدي رغبة وتشوقاً للتسليم لله، ولكنه يعجز عن الانتصار على نفسه. إن محنة الإنسان المخيفة هذه يبينها الإصحاح السابع من رسالة رومية حيث يشير الرسول بولس إلى عجز الإنسان الذي يجاهد بقوته الذاتية ضد الخطية. يكشف الرسول عن هذه الحالة باختصار بهذه الكلمات: " فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن ولكن أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي" (رومية22:7-23). وهكذا نجد أن الإنسان الذي يعيش في الخطية، والذي رفض سلطان الله على حياته، ليس في الحقيقة إنساناً حراً أبداً. أنه يعيش وليس له غير خيار واحد، فهو لا يجد بداً من أن يختار الخطية وينحط إلى الدرك الأسفل إلى أعماق حماة البشر. ثم هو إنسان غير سعيد لأنه يعرف أن طريق الحياة التي يسلكها طريق مغلوطة ولن يستريح له ضمير بالنسبة لحياته.

ثم تأتي نعمة الله. يجابه الله الإنسان بأن يعرض عليه إمكان نوال الخلاص بالإيمان بيسوع المسيح. لقد وعد الله أن يهب الإنسان القوة فيتحطم قيد الخطية الذي يقيد حياة الإنسان الخاطئ. ولأول مرة منذ أن أصبح الإنسان كائناً مسؤولاً أمام الله يجد أن أمامه اختيارين. فهو يستطيع آن يرفض نعمة الله ويواصل السير في الخطية إلى دماره وهلاكه، ولكنه يستطيع أيضاً، إذا شاء، أن يرفض خطيته ويسلم نفسه لله ويجد طريق الخلاص. لا نقدر حقاً أن نقول أن الإنسان حر دون نعمة الله، فهو في تلك الحال يفتقر إلى قوة التصميم. أنه بالطبيعة مستعبد وليس له خيار في ذلك، ولا يقدر أن يجد بديلاً لعبوديته. هذا لا يعني أنه غير مسؤول عما هو فيه، أنه مسؤول. لكننا نقول أن لا حول له على تغيير حاله. وأنه ليظل كذلك، غير أن الله يقوم بتحرك افتدائي في حياته ويفتح أمامه إمكاناً آخر ومنفذاً. لذلك يستطيع الإنسان، عن طريق نعمة الله، أن تكون له الحياة بدلاً من الموت، والحرية بدلاً من العبودية، والسماء بدلاً من جهنم. عليه الآن أن يختار، وأمامه لأول مرة إمكان اختيار خط سيره في الحياة. أنه فعلاً يختار طريقه، والله يتركه حراً ليختار ما يريد أن يختاره. صحيح أن الله يستخدم كل تأثير ممكن ليجتذب الإنسان إليه ليختار هذا الإنسان الاختيار الصحيح تلقائياً، إلا أن الله لا يرغم الإنسان في أي من الاختيارين. ومع أن الله على استعداد دائماً لنصرة الإنسان الذي يريد أن يختار الاختيار الصحيح فإنه تعالى لا يستخدم قوته لإرغام القلب الذي لا يريد مثل ذلك الاختيار.

بهذا المعنى فقط نستطيع القول أن جميع البشر كائنات حرة الإرادة خلقياً. وأن الله هو الذي أوجد في الإنسان هذه القدرة على الاختيار الحر، وهو تعالى لا يخرق هذه الحرية أبداً. لأنه، لو كان الله لم يقم بتحرك افتدائي في تاريخ البشر فكسر قوة الخطية بواسطة ذبيحة المسيح على الصليب، لما كان إنجيل النعمة ولما كانت حرية العمل. إن الإنسان الآن حر ليقرر مصيره وذلك بفضل نعمة الله السائدة المهيمنة هذه. إن الإنسان، من جهة، ليس حراً أن يرفض نعمة الله، فهو لا يحق له أن يرفضها. ولكن لهذا الإنسان القوة والإمكان أن يرفض هذه النعمة، وهو إذا رفضها لا يبقى له أي عذر في هلاكه ولا يقدر أن يلوم غير نفسه.

ومما تجدر ملاحظته أيضاً أن الإنسان الذي يمارس حقه في الاختيار فيقبل نعمة الله ويستسلم لحكمه هو، في الحقيقة، الشخص الذي وجد الحرية الكاملة. لكن الإنسان الذي يرفض حكم الله وسيطرته على حياته يظل تحت العبودية. قد يبدو هذا متناقضاً للبعض، إذ أن الإنسان الذي يرفض حكم الله في حياته لا يستشير غير نفسه في التصميمات الفردية التي يقوم بها بعد رفضه حكم الله. لكن الحقيقة هي أن مثل هذا الإنسان مستبعد للخطية إلى حد أنه ينساق بطبيعته دائماً في أي اختيار يقوم به. ليس السؤال الحقيقي هو: ما نوع هذا السيد؟ هناك فرق بين أن يعيش الإنسان في بلد حر ويدين بالولاء لذلك البلد لأنه يخضع للدوافع الوطنية في داخله، وبين أن يعيش في بلد مستعبد فيخضع لحكم ديكتاتوري ولسلطة طاغية. الإنسان الذي حصل على اختبار الخلاص يعيش حراً في أرض نعمة الله. صحيح أنه يخضع لحبه لله ويتخذ قراراته مدفوعاً بالرغبة في عمل ما يريده الله منه، لكنه مع ذلك حر وغير مستعبد.

إذا بدا هذا لك متناقضاً، تذكر أن هذا النوع من التناقض الظاهري يتخلل جميع نواحي الحياة. الحرية تقوم دائماً على الخضوع لنظام من النوع الصحيح. يصدق هذا على الرياضي الذي يسعى دائماً للتفوق في حقل رياضته. فهو، لكي يبلغ الكمال في حقله، يحتاج أن يخضع نفسه لأقسى أنواع التدرب والانضباط. قد تراوده الرغبة يوماً في الاستمتاع بطيّب الطعام، ولذيذ الاسترخاء والراحة، بدلاً من مواصلة التمرن القاسي، لكنه لا يجرؤ على أن يعطي نفسه ما تهوى. إن عليه أن يقاوم رغباته ويدرب نفسه باستمرار استعداداً للسباق. وإذ يفعل هذا كله يكون حراً بشكل لا يحلم به الإنسان غير المتدرب. أنه حر وبتلك الحرية ينجز في حقله الأشياء التي كان يسعى إليها ويحلم بها. ينطبق هذا المبدأ أيضاً على عازف البيانو. فلكي يستطيع هذا أن يكون حراً قادراً أن يجلس فيعزف على البيانو أي لحن يحبه عليه قبل ذلك أن يخضع نفسه لنظام الدرس القاسي والتدرب المتواصل إلى أن يتقن ذلك الفن. قد يجد أن عليه، في أثناء تدربه، أن يرفض الرغبات المختلفة التي تتجاذبه في سبيل التركيز على الرغبة الواحدة التي يقصدها، لكنه أخيراً يجد أنه أضحى حراً ليعمل ما يريد. نرى مثالاً على هذا أيضاً في حقول العلم الطبيعي، والسياسة، والأدب، وغيرها. إن الأحرار هم أولئك الذين على استعداد للخضوع للمبادئ والقيام بالأعمال التي لا غنى عنها لإتمام المنجزات. ويصدق هذا أيضاً في الحقل الروحي. ذلك الإنسان حر، الذي، لأنه سلم حياته لله، يجعل اختياراته تتفق مع إرادة الله. أنه حر لأجل شيء، وذلك الشيء هو إنجاز لرغبات قلبه وإتمام لها. ويجد أنه كلما ازداد تسليماً وقبولاً للحياة المنضبطة كلما أصبح أكثر حرية. ربما يصح أن نطلق على هذا اسم الحرية الإيجابية وهي الحرية التي من أجلها خلق الله الإنسان في البداية. أنها ليست الحرية السلبية، الحرية من شيء ما، بل الحرية الايجابية لأجل شيء ما.

إن كل الاعتراض على حكم الله وسلطانه، المبني على الفكرة القائلة بأن قصد الله يخرق حرية الإنسان، لهو اعتراض مبني على أساس زائف. إنه اعتراض يتجاهل حقائق معاملات الله مع الناس كما يتجاهل طبيعة اختبار الخلاص، ولكن الأخطر من كل ذلك كونه يتجاهل معنى الحرية.

  • عدد الزيارات: 11007