الفصل الثامن: قصد الله في الخطية
كيف يمكن للشر أن يكون حقيقة واقعة في عالم يهيمن عليه الله الخير والصلاح؟ يشكل هذا السؤال أحد الاعتراضات الرئيسية على الاعتقاد المبين في هذا الكتاب- الاعتقاد بأن الله يحكم هذا الكون لأهداف خلاصية. يقول المعترضون أن الشر مستحيل في عالم يحكمه الله مهيمن. ويقولون: إما أن الله يستطيع كبح الشر ولكنه لا يفعل ذلك، أو أنه لا يستطيع ذلك. إن وجود الشر في العالم يشكل مشكلة عويصة للإيمان المسيحي- وهذا لا سبيل لإنكاره. نحن نؤمن أن الله خلق العالم وأنه لم يكن أي شيء بدون قوته، لكننا نجد الخطية والألم يحلان في العالم. نؤمن أن الله خلق هذا العالم وينفذ قصده الخلاصي في التاريخ، ومع ذلك نجد أن بعض الشر، حسبما يظهر، يعيق عمل الخير في حياتنا وفي مجتمعنا. ما تفسير ذلك؟ نعتقد أنه، وإن لم يكن بالإمكان إيجاد تفسير أوجواب كامل لهذه المشكلة، فمن المكن أن نجد في الكتاب المقدس بعض العناصر التي تحدد الوضع. من الممكن اكتشاف حقائق تحد من شدة المشكلة على نحو يساعد رجل الإيمان ليظل على إيمانه بهيمنة الله وسيادته في مواجهة وجود الشر.
في هذا الفصل سنحاول إثبات طريحتين: الأولى، نقول بالنسبة لاصل الشر، إن الله مسؤول عن خلق هذا الصنف من العالم الذي يمكن أن يدخله الشر، ولكن الإنسان هو المسؤول عن دخول الشر فعلاً إلى العالم. ثانياً، نؤمن، بخصوص استمرار وجود الشر في العالم، إن الله يضبط الشر ويستخدمه لإتمام قصده الفدائي أو الخلاصي. لا سبيل إلى إنكار وجود الشر في العالم. سأل فرعون يعقوب: "كم هي أيام سني حياتي؟" (تكوين 47: 8). فأخبر يعقوب فرعون بعدد سني حياته وأضاف: "قليلة ورديئة كانت سني حياتي." ما أكثر الذين، عندما سُئلوا، اضطروا إلى الاعتراف بأن حياتهم على الأرض قصيرة وملأى بالشر. يرى بعض المتفائلين أن الحياة نهر من السرور والخير دائم الجريان. لكن لا تلبث الأحزان والمصائب أن تحطم تفائهم وتذكرهم بما في الحياة من شر. يقول المتشائم "ماأسوا ما في هذا العالم"، ويبدو قوله مصيباً أكثر من المتفائل الذي يقول "ما أحسن ما في هذا العالم". حقاً، في العالم شر كثير. هناك شرور سببها الكوارث الطبيعية من أعاصير وزلازل وطوفانات ومجاعات وأمراض. وهناك شرور ناتجة من التنازع للبقاء والمحافظة على الحياة العائلية. هناك شرور نرثها، شرور تأتينا بسبب أناس آخرين. وهناك شرور تصدر عن حياة الإنسان المنظمة في المجتمع- مثل النزاعات الصناعية والأزمات الاقتصادية والحروب. إن مجرد تعداد الشرور التي لا مفر للإنسان من مواجهتها يجعل المرء يسير في اتجاه التشاؤم. صحيح أن ليس من إنسان يواجه أو يعاني فعلاً كل الشرور الممكن حدوثها في حياته، لكن الإنسان المفكر لا يجد بداً من السير في طريق الحياة بقلب وجل مضطرب عالماً أن الشر يظل يحيط به دائماً وفي كل مكان. لا سبيل لإنكار وجود الشر.
وليس من الممكن إنكار أن وجود الشر في العالم يشكل مشكلة لرجل الإيمان. والحقيقة هي أن الإيمان بالله هو الذي يجعل الشر مشكلة فكرية. فالناس يميلون إلى القول بأنه إن كان الله صاحب السلطان وإله الخير فلن يكون مكان للشر في عالم خلقه الله ويحكمه ويديره. هناك، بالطبع، حلان سهلان لمشكلة الشر، فليس للملحد أو المعتقد بالتأليه الطبيعي (Deist)* أية مشكلة من هذه الناحية. ينكر الملحد وجود الله إنكاراً كلياً وينظر إلى الشر على أساس أنه نتيجة لقوى الطبيعة وصراعات البشر. قد يرى في الشر مشكلة عملية ولكنه لا يشكل مشكلة فردية إذ يعتبره النتيجة الطبيعية للأشياء في وضعها الذي هي فيه. أما الذي يعتقد بالتأليه الطبيعي فيؤكد بأن الله غير مهتم بهذا العالم الحاضر الشرير، أو أنه على الأقل لا يتدخل فيه. ويقول أن الله خلق العالم وتركه يدير نفسه بنفسه، وما الشر إلا النتيجة الطبيعية لهذا العالم. إننا لا نقبل بحلول مثل هذه، فنحن نؤمن بأن الله موجود وأنه يتدخل في النظام التاريخي. لقد قلنا بتأكيد أن الله عالم على تنفيذ قصد خلاصي في العالم. ربما نقول، كما يقول البعض، أن الله يعمل أفضل ما يمكن عمله في عالم شرير، وأنه في الوقت ذات غيرمسؤول، بأي حال، عن شرور الحياة، وأنه يعمل ضمن حدود الظروف الخارجية المحيطة بحياتنا. لكننا إذا قلنا هذا لا نكون على حق بالنسبة للفكرة الكتابية عن الله، إذ أن قولنا ذاك يحدد الله على نحو لا يجيزه الكتاب المقدس. يعلم الكتاب المقدس أن الله صالح وانه يحكم الكون ويديره. إذا كان هذا هو الحق فعلينا أن نجد كيف نوفق بينه وبين وجود الشر في العالم، وإلا تأثر إيماننا بصلاح الله وحكمته وعدله تاثراً خطيراً. لكننا نعتقد أن بالإمكان القيام بهذا التوفيق. إن وجود الشر في العالم يتفق مع العقيدة الكتابية القائلة بحكم الله وسيطرته. وقد لا نحل المشكلة، أو بالأحرى لا نقدر على حلها حلاً تاماً، غير أننا نستطيع أن نعرف الكفاية عن الشر بحيث نتمكن من المحافظة على إيماننا على الرغم من وجود هذا الشر.
أولاً، لنعترف بأن إمكانية الشر ضرورة لا بد منها في العالم الأدبي، أي العالم حيث الاختيار بين الخير والشرحقيقة راهنة. فإذا كان عالمنا لا يمكن للشر أن يدخله فإنه، في تلك الحال، لن يكون فيه مجال للاختبار، كما لن يكون لدى سكانه إمكان التقدم الأدبي الأخلاقي. لا ضرورة لأن يصبح الشر حقيقة، ولكن من الضروري أن يظل هناك مجال للاختبار الحي في العالم الأدبي. إن هذا ما يمكِّننا من الاعتقاد بأن الله خلق عالماً يمكن للشر أن يدخله، وفي الوقت ذاته لا نتخلى عن إيماننا بصلاح الله الكلي. كان الله، في خلقه الإنسان، محدوداً في أمرين. إذا أراد أن يخلق إنساناً بحيث يستطيع هذا الإنسان أن يحب الله ويكرمه. فلا بد أن يخلقه فيعطيه حرية الاختيار والإرادة، الإرادة التي بها يستطيع أن يقف ضد الله لو أنه اختار أن يفعل ذلك. وإذا أراد أن يخلق إنساناً له مثل هذه الحرية فعليه أن يخلقه على أساس أنه مرشح لعمل الخير.
لاحظنا سابقاً أن الله خلق الإنسان فأعطاه القدرة على الشركة مع الله. وكانت رغبة الله في خليقته هي الإتيان بالإنسان فيدخل طوعاً في شركة وعلاقة حبية بالله. وكان هذا يعني أن تكون للإنسان حريةالاختيار، أي أن تكون له القدرة على رفض الله. فالله لا يسعى ليحصل من الإنسان على تكريس إرغامي أوعبادة قسرية. لو كان الله راغباً في عبادة كهذه لحصل عليها، لكن ليس من الإنسان. فأية عبادة قسرية لا يمكن أن تعتبر علاقة حبية، إذ أنها في الواقع عبودية. بناء على ذلك، فإن خلق الله للإنسان على أساس أن تكون له هذه الشركة الحبية مع الله يحتم أن يخلق الإنسان وله قوة الاختيار. لا بد أن يعطي الفرصة ومعها المسؤولية ليقرر مصيره مختاراً غير مرغم. وإن إنساناً له مثل هذه السلطة أو المسؤولية تكون له القدرة على القضاء على ذاته. تكون له القدرة على اختيار السير في اتجاه معاكس لما يريده له الله في حياته. فالله إذن، لم يكن ليفعل غير الذي فعل وهو يريد خلق العالم الذي نعيش فيه. كان لا بد أن يسمح بإمكان وجود الشر عن طريق الاختيار الجامح الذي قد يختاره الإنسان.
من صادق القول أيضاً أنه إن كان الله ليخلق الإنسان فيعطيه القدرة على الاختيار كان لا بد أن يخلقه بخلق غير محقق. فلا يمكن أن يخلق شخص حر الإرادة ويكون في الوقت ذاته ذا خلق أدبي محقق وكامل. فالخلق لا بد أن يتكامل في بوتقة العمل الأخلاقي، ولا بد أن تكون للإنسان فرصة ليواجه التجارب، ويقوم بتصميمات، ويحقق مصيره بنفسه. لا نقول أن الله خلق نسخة عن ذاته عندما خلق الإنسان "على صورته" بل إنما منح الإنسان بعض تلك الصفات الإلهية التي من شأنها أن تمكن الإنسان من أن تكون له شركة حبية مع الله. كانت رغبة الله، ولا شك، أن يختار الإنسان الاختيارات الصحيحة، وأنه، إذ يواجه التجربة وإغراءات الخطية، ينتصر عليها، وأن يتقدم خلقياً ليصبح، بحق، مشابهاً لله. فلو أن الإنسان، منذ البدء، اتبع رغبة الله وعمل بها لما كان للشر الفعلي أن يدخل العالم أبداً. إننا لا نقول أن وجود الشر ضروري في عالم خلقي، وإنما نقول أن الضروري هو إمكان حدوث الشر في هذا العالم.
إن وجود الشر في العالم، إذن، لم يجئ لأن الله صمم أن يخلق هذاالنوع من العالم الذي نعيش فيه، بل لقد جاء الشر نتيجة لتصميم الإنسان على رفض حكم الله في حياته. فالسبب المباشر للخطية والألم هو تصميم الإنسان وليس عمل الله. إن جميع الشرور التي تحل بالإنسان، بل أيضاً تلك التي تنشأ من اضطرابات الطبيعة، تجيء كلها، حسب إيمان الكتاب المقدس، نتيجة لتصميمات الإنسان الخاطئة. هناك، بكل تأكيد، شرور كثيرة يمكن عزوها مباشرة إلى هذه الحقيقة. فالهبوط الاقتصادي، والجريمة، وابتزاز المال بالنصب والاحتيال، والطمع، والحرب تجيء كلها نتيجة لخطية الإنسان لا للتدبير الإلهي. فمثلاً، نحن في الواقع لا نخشى القنبلة الذرية، بل لا نخشى إنساناً صالحاً يحمل قنبلة ذرية. نحن إنما نخشى الإنسان الشرير الذي له قوة لإيقاع الأذى والتدمير. إن كل اكتشاف أو تقدم أحرزه البشر في مجال العلوم الطبيعية هو مستخدم إما للخير أوللشر إذ أن ذلك متوقف على طبيعة الإنسان أو الناس الذين يسيطرون على تلك الإكتشافات.
إن الخطية والألم في عالم أخلاقي هما ليسا سوى تحريف للخير. يقول كاتب سفر التكوين أن الله، بعد أن تطلع إلى كل ما أبدع من خلائق، قال أنه "حسن جداً" (تكوين 1: 31). وقول الله هذا لا يعني أن خليقته كانت تتصف بالصلاح الخلقي بل إنها كانت صالحة للغاية التي من أجلها خلقت. إنها حسنة وينتج منها ماهو حسن إذا هي استخدمت بالشكل الصحيح. وحتى في عالم الطبيعة، قد يظهر أخيراً أن الشر ناتج من سوء استخدام القوى الطبيعية. قد يكون من العسير علينا فهم هذا إذا فكرنا بالعواصف والفيضانات والزلازل. ولكن هناك دلائل حديثة على أن هذه الكوارث الطبيعية الجبارة ما هي إلا نتيجة لفشل الإنسان في فهم قواعد النظام الطبيعي ولإمعانه في مخالفتها. والعلماء على الأقل يرجحون أن الجفاف والفيضانات والقحط تعود إلى تلك الطرق المغلوطة التي يستخدمها الناس في حرثهم الأرض وحفظهم المياه في بقاع عديدة من العالم. نستطيع، على الأقل، أن نؤخر إصدار حكمنا إلى أن يهتدي الناس إلى المزيد من المعرفة، الأمر الذي سيكشف لهم ما إذا كانت الكوارث الطبيعية صادرة عن أخطاء الإنسان أم لا. ليس لدينا أي شك في هذا الأمر في مجال الشر الروحي والأدبي. ليس للشر وجود مجرد أو مستقل، إنه لا وجود له لولا اختيار الإنسان. الخطية هي دائماً سوء استعمال الإنسان لتدبيرات عناية الله التي يمد بها حياة الإنسان على الأرض. إنه ليس من الممكن قط أن نعتبر الله مسؤولاً عن وجود الشر أو عن دخوله الفعلي إلى الحياة البشرية.
وكان الله يعلم أن الشر سيجيء. لقد خطط منذ الأزل برنامجه الخلاصي وكيفية تنفيذ ذلك البرنامج. والسؤال هو. لماذا يخلق الله العالم وهو يعرف كل هذا؟ ويجب أن يكون الجواب المسيحي دائماً أن الله خلق العالم وهو مفكر بخلاص الإنسان. وإذا استخدمنا قياساً بشرياً نقول أن الله وازن بين الشر وبين الخير الذي سينجم عن الخليقة وصمم على أن يخلق العالم على رغم معرفته بمجيء الشر. إن ضرورة احتمال الشر في سبيل إنجاز الخير لهو أحد اختبارات الإنسان العادية. فمثلاً يعتبر الزواج أسعد أحوال الإنسان، لكنه إذ يتزوج يكون في الواقع مقدماً على مجازفة مجيء الشر إلى حياته. في الحقيقة، ليس مجيء الشر إلى حياة المتزوج مسألة حظ، فالزواج لا يخلو من الشر قط. بل عندما ننظر إلى زواج اثنين من الناس، فنقول أنه زواج موفق جداً، لا يكون مفر من أن تداهم الأحزان والصعوبات حياة المتزوج وتزداد بشكل خاص لأنه متزوج. والإنسان يعرف هذا. يعرف أنه، أن تزوج، فزوجته قد تمرض، ويعرف أنه بكونه زوجاً سيصبح مرض زوجته جزءاً من حزنه. ويعرف أن مهمة إعالة العائلة سيزيد في مسؤولياته ويحرمه من مسرات كان من الممكن أن يتمتع بها إذا كان لا يتزوج. ويعرف أنه إذا ولد له أولاد، وهوراغب في الأولاد، فسيزيد ذلك في ثقل واجب الإعالة، وسيواجه مشاكل عديدة في تربيتهم فيعود ذلك عليه بالألم والهم في سني نموهم. والإنسان، وهو يعلم بكل ذلك، يقدم على الزواج. إنه يتزوج، حسبما يظهر، لأنع يشعر بأن أفراح الزواج ومنافعه ستعوض عما فيه من صعبات وأحزان بل تزيد عنها. قد يفسر هذا لنا لماذا خلق الله العالم على رغم معرفته بأن لا بد من دخول الشر والألم لا في هذا العالم فقط بل في الأبدية أيضاً. فالخير الناجم عن الخليقة يفوق كثيراً الشر والألم اللذين يحدثان فيها.
نستخلص مما سبق قوله أننا نستطيع أن ننظر إلى وجود الشر والألم في العالم بطريقتين: لقد خلق الله نوعاً من العالم يمكن للشر أن يدخله، وعصى الإنسان الله فأصبح الشر حقيقة واقعة في الحياة البشرية. إن فهم هذه المسألة يخفف من الإحراج الذي يجد رجل الإيمان نفسه فيه. ذلك أنه سيدرك أن الله مبرر، وله كل الحق، في أن يختار خلق العالم، وسيدرك أيضاً أن الإنسان مسؤول عما جلب على نفسه من آلام. إن هذا لا يعني أن كل فرد يتألم في هذا العالم بمقدار ما يستحق. فكل من له ضمير حساس لا بد أن يقر بأنه يستحق من العقاب والألم أكثر مما عوقب به.
إن الذي قلناه يساعدنا لنفهم كيف يمكن أن يكون الله صالحاً وفي الوقت ذاته يخلق عالماً يدخله الشر ويصبح فيه حقيقة واقعة. ولكن ذلك لن يجيب عن السؤال القائل: كيف يمكن أن يحكم الله العالم بينما يحل فيه الشر كحقيقة واقعة؟ يلوح لهذا السؤال شيء من الحل عندما ندرك أن الله، في الواقع، يستخدم الشر الموجود في العالم إذ يحوله لخير الإنسان، وإن الشر يتمم عملاً خلاصياً ما كان ليتمم بوسيلة أخرى. إن هذا التصريح جريء. إن القول بأن الشر ضروري في عالمنا لإنجاز الخير لهو أشد من القول بأن إمكان حدوث الشر ضروري في عالم أدبي. على كل حال، ما دام الإنسان أخطأ ولا بد من فدائه فللتصريح المذكور ما يبرره.
ربما من الخير لنا أن نبدأ في النظر في عمل الشر على المستوى الطبيعي. فالطبيعة هي المعلم الأعظم للإنسان، إذ أنه، أي الإنسان، يتعلم حقائق العلوم الطبيعية لأن ذلك أمر ضروري له ليظل على قيد الحياة. والعلوم الطبيعية الحديثة ما هي إلا نتاج جهود الإنسان لاكتشاف قوانين الطبيعة والعمل بموجبها لأنه وجد أن مخالفة تلك القوانين تعود عليه بالألم والضرر. لقد بدأ تعلمه في وقت الطفولة عندما لمس شيئاً ساخناً واكتشف أن ذلك اللمس يؤلمه. كان يريد أن يتجنب الألم لكنه كان أيضاً يريد الانتفاع بالحرارة، فصار يعرف أن عليه أن يتجنب لمس كل ما هو ساخن. وظل يتعلم كل هذا الشكل حتى سني نضجه، وبالطريقة نفسها تقدم الجنس البشري كله في معرفته للطبيعة. إن كل ما يمكن للإنسان أن يتعلمه عن هذا العالم فهو يتعلمه من العالم نفسه. ليس من طريقة تحمل الإنسان على الاختراع سوى ما يلاقي من آلام. لقد اخترع العَجَل، أي الدولاب لأنه كان يكره حمل الأثقال الثقيلة، واكتشف أساليب الإضاءة الاصطناعية لأن الظلام كان يضايقه، واكتشف الدواء ليقاوم ألم المرض. إن تقدم العلوم الطبيعية في كل العصور كان مجرد جهود ذكية قام بها الإنسان لحل مشاكل الألم. فالألم يعمل لخير الإنسان، حتى على الصعيد الطبيعي، وذلك بأن يدفع الإنسان في طريق التقدم للحصول على منافع عظيمة. هل من طريقة غير تلك لإنجاز هذا الخير؟
ويصدق هذا الأمر ذاته في مجال الحياة الاجتماعية، إن فضائل الإنسان، ككائن اجتماعي، تنمو وتتقدم عن طريق مشاركته الآخرين في الآلام والصعوبات. والإنسان الذي يعيش في عالم حيث لا يحل به ألم ولا بالناس الذين يعيش بينهم، لا يستطيع أن يتعلم معنى الحب والعطاء والمشاركة. ومن ليست في حياته هذه الفضائل تنمو وتتكالم فهو، في الواقع، فاقد للحياة نفسها. لا نعني بهذا أنا نرحب بالآلام التي تحل بنا أو نفرح بآلام الآخرين، لكننا نعني أن الألم ينتج الخير. قد لا نستطيع التأكيد بأن الخير في كل مرة سيفوق الألم، لكننا نعلم يقيناً أن الشر ينتج خيراً.
كانت هذه أفكار أولية لازمة قبل الدخول في البحث الذي هو موضوع اهتمامنا. إنها توضح حقيقة أصعب وهي أن الله يستخدم الشر ليجري نتائج فدائية في حياة البشر. هناك دور روحي يقوم به الشر ويتممه، وهذا يدل على أن الله يستطيع أن يكون الحاكم المسيطر على العالم على الرغم من وجود الشر فيه. يظهر الشر، من وجهة نظر الإنسان، قضاء يحكم به الله على الخطية. هذا واضح في الكتاب المقدس، ولا سبيل لإثبات العكس، مع أن كثيرين حاولوا ذلك. إن حقيقة دينونة الله وحكمه على الخطية، داخلة في نسيج فكر الكتاب المقدس بشكل تام حتى أنه لا يمكن إزالتها من الكتاب دون إزالة الكتاب نفسه. فإن بولس يصرح في رسالته إلى رومية بأن "غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم" (رومية 1: 18). ويقول أيضاً "كل واحد منا سيعطي عن نفسه حساباً لله "(رومية 14: 12). تأتي العواقب الوخيمة للخطية في هذه الحياة كما في العالم الآتي، وتحل في حياة الذين لم يحصلوا على الخلاص كما في حياة المسيحي الذي اختبر الخلاص.
كيف يمكن لهذه الحقيقة أن تتمم غاية فدائية أو خلاصية؟ أولاً، أن معرفة الإنسان بأن الله يدين الخطية هي أحد العوامل التي يستخدمها الله ليجعل الناس يقبلون الخلاص. إن من أخطاء الفكر العصري هو القول بعدم صلاحية استخدام الخوف كدافع لعمل الحق. طبعاً يجب ألا نعطي الخوف المكانة الأولى في تعاليمنا الدينية، ولكن مع ذلك للخوف مكانه الصحيح. من المستغرب أن نسمع من يقول أن علينا أن نتجنب استخدام الخوف كدافع ديني لئلا نصبح ضيقين شديدي التعصب. لكن بهذا نكون مستخدمين الخوف لئلا نستخدم الخوف. والواقع أن الإنسان في كل نواحي حياته يريد أن يتعلم لأنه يخاف النتائج التي لا بد منها إذا لم يتعلم. وما يصدق هنا لماذا لا يصدق في الحياة الروحية؟ وسواء أكان هذا هو الصحيح أم لا فمن الصعب أن نجد خاطئاً يسعى جاداً ليعمل الحق إن كان يعتقد أن بإمكانه مواصلة عمل الخطية والإفلات من العقاب. إن لم يكن هناك جهنم فلماذا يفتش لتكون له شركة مع الله إن كان يعيش سعيداً بدون تلك الشركة؟ إن معرفة الناس حقيقة الدينونة هي التي تدفعهم لترك الخطية ولتسليم حياتهم لمحبة الله ونعمته فالله وحده الذي يستطيع إنقاذهم لا من عقاب الخطية فقط بل من الخطية ذاتها أيضاً.
هذه الحقيقة ذاتها، أي أن الخطية تورث الألم، هي أحد الدوافع التي يستخدمها الله لتطوير الخلق المسيحي. وطبعاً، يؤثر الألم في مختلف أصناف الناس بمختلف الطرق. والناس الذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده هم وحدهم الذين تعمل كل الأشياء معاً للخير في حياتهم، نعم كل الأشياء بما في ذلك الألم (رومية 8: 28). إن التكوين الإدبي للكون الذي يجلب الدينونة والعقاب على الخطية يدفع الأشرار عميقاً في عصيانهم الله، ولكن هذا التكوين الأدبي هو نفسه يجتذب المسيحي المؤمن في الوقت ذاته في السعي للحياة الصالحة.
كثيراً ما سمعنا وتعلمنا بأن الألم ليس دائماً دليلاً على وجود الخطية في حياة الذي يتألم، وهذا قاد البعض إلى الاعتقاد بأن لا علاقة البتة بين الخطية والألم. أما في كثير من الأحيان فتحل الشرور في حياة فرد أو أمة بسبب شر ذلك الفرد أوتلك الأمة. وفكرة الكتاب المقدس بالنسبة لهذه الحقيقة هي أن الله يعاقب على الخطية. يمكن القول، على الأقل، أن الله أوجد نظاماً أدبياً فيه تنال الخطية دائماً عقابها. ولا حاجة لأن ننظر إلى الله كما لو أنه طاغية يلتذ بإنزال الألم في الآخرين أوأنه يرقب الناس بعين التجسس ويسرع في الانتقام من كل الذين يخطئون إليه. إن هذه الفكرة لا تنسجم مع الصورة التي يصورها الكتاب المقدس لله. لكن الواقع هوأن النظام الأدبي الذي نعيش فيه قد تكون بحيث أن الإنسان لا يستطيع أن يخطئ ويفلت من العقاب. من يسرف في تناول الكحول يصبح مدمناً للمسكر،وإدمان المسكر يقضي عليه. والأمة التي تسرف في تعاطي الخطية تصبح تحت لعنة الضعف والانحلال ولا بد أن يحل بها الدمار. وإذا قامت دولة على الطغيان فأهملت حقوق الناس واحتقرت مطالب الله، فطغيانها ذاك سيؤدي بها إلى الخراب. من الممكن في أحوال كثيرة أن يرى الإنسان العلاقة التي تربط بين الخطية ودينونة الله، لكن ذلك ليس ممكناً دائماً. يعلم الكتاب المقدس أن الله يرسل الجفاف والقحط على الأمم التي تتجاهل حقوقه عليها. على كل حال، يمكننا أن نتأكد من أن دينونة الله لا بد أن تحل، مع أنها لا تحل بسرعة دائماً. إنه هذه الحقيقة في حياة الشخص الشرير تدفعه عميقاً في حياة الخطية، الأمر الذي يؤدي أخيراً إلى هلاكه الأبدي. إنه لا ينتفع من آلامه لأنه يواصل تمرده على الله النعمة الذي يستطيع، بل يريد أن ينقذه من خطاياه. قد نشفق على إنسان كهذا، ولا يمكننا أن نلوم الله على مصيره. الله يريد له الخلاص، فليس من قصده إيقاع الألم بأحد. ما الآلام إلا النتيجة الجانبية، التي لا مفر منها، لرغبة الله الشديدة في جعل الناس يدركون الفداء إدراكاً كاملاً. قد يأسف الله ويحزن لحدوث الآلام، ولكن لا يجد سبيلاً لتجنبها إن كان سيقوم بإنجاز قصده.
يمكن رؤيا الصفات الفدائية الحقيقية التي للآلام وللشر في ذلك الأثر النافع الذي تحدثه في الاشخاص الذين يُخضِعون أنفسهم لله. فالآلام هي التي توجد، أو على الأقل، تسهم في إيجاد خضوع الإيمان في المؤمن كما سبق ولاحظنا. إنها تعمل كمؤدبين روحيين في الحياة المسيحية. والآلام التي يعانيها المسيحيون المؤمنون، سواء كانت نتيجة مباشرة لخطيتهم أم لم تكن، هي دائماً تدفعهم إلى الدخول في شركة أعمق مع الله، وإلى بذل جهد أكبر لخلاص الناس وتحسين أوضاع المجتمع. والآلام بعملها ذاك تحقق في المسيحيين على نحو تقدمي تدريجي ذلك الخُلُق المشابه لخُلُق المسيح. لا غنى للبشر عن الآلام. وما دمنا غير كاملين في سعينا وطلبنا للبر، فلا بد أن يكون هناك نظام للجزاء والعقاب يدفعنا باستمرار لنحقق في حياتنا خلق الله وصفاته تحقيقاً كاملاً.
فمثلاً، يتعرض الطلاب في أية مدرسة لتدريب أو تأديب معين يفرضه المعلمون عليهم، وليس القصد منه معاقبة الذين لن يتعلموا بل، بالأحرى، تقدم الذين يستطيعون الاستفادة والتعلم. توضع في المدارس قواعد معينة للدراسة، فتمنح مكافآت للذين يجيدون وتفرض معاقبات على الذين يهملون. والسبب في وضع هذا النظام هو أن الطلاب طلاب علم وليسوا علماء. عندما يصبح الإنسان عالماً يطل يدرس لأنه يجب الاستزادة من المعرفة. في تلك الحال لا يكون محتاجاً لمن يرغمه على القيام بواجبه. لا يعود في حاجة إلى مكافاة غير مكافأة العلم، ولا يحتاج إلى معاقبة.
يصدق هذا الأمر نفسه في تنشئة الأولاد في البيت. يضع الوالدون لأولادهم حدوداًلكي لا يتعدوها، ويفرضون على من يتعدى على تلك الحدود عقاباً معيناً عندما تدعو الضرورة. يظهر أن هذا الأسلوب ضروري في تربية كل طفل. لكن عندما يكبر الطفل ويصبح رجلاً أو إمرأة وتصبح أخلاقه مستقرة ومتجهة الاتجاه الصحيح لا تظل حاجة لتأديب الأبوين. يشعر أكثر الكبار أنهم متمسكون برغائب والديهم أكثر مما كانوا وهم في الطفولة، فيظل تأثير الأبوين واضحاً في سلوك أبنائهم بعد انقضاء فترة تأديبهم بزمن طويل.
قد يكون هذا هو الذي يجعلنا ننظر إلى السماء كمكان البركات الكاملة التي لا يخالطها ألم. فبعد أن نبلغ كمال نضجنا الروحي لا تظل حاجة لتأديب الألم والموت والحزن التي هي بمثابة معلمين. يظهر بالنسبة للحياة الحاضرة، أن أي عالم يخلو من الحزن والألم والموت لا يمكن أن يكون حقلاً تنشأ فيه الأخلاق وتتقدم. لنفترض أننا علمنا سلفاً أنه لن يصيبنا أي شر، وأن الحياة ستكون حلماً جميلاً ناعماً، وأننا لن نموت، أفلا تخمد هذه الظروف الممتازة كل رغبة فينا في عمل الخير؟ ألا تنحط أخلاق الإنسان انحطاطاً كاملاً ما دام له هذا التأكيد وهذه الطمأنينة؟ نعم، هذا ما سيجري في تلك الحال، ولذلك نعتقد أن وجود الشر في العالم يتفق تماماً مع الفكرة القائلة بأن الله يسطر على العالم ليتمم مقاصده الفدائية.
نقول، أخيراً، أن الله يستخدم الشر لإنجاز فدائنا نهائياً. يتلخص جوهر الشر الطبيعي في الموت. إن أكثر الشر والألم ما كان ليحسب ظلماً أو غير مرغوب فيه لو أنه لا ينتهي بالموت. وكلما نبحث في الشر الطبيعي لا بد من أن نواجه حقيقة الموت ونطرح السؤال لماذا كان على الناس أن يموتوا؟ وينجلي لنا الجواب عن هذا السؤال عندما ندرك أن على الناس أن يموتوا لكي يتمكنوا من الحصول على الفداء كاملاً. الجسد في الحياة البشرية فاسد بسبب الخطية مثلما أن النفس فاسدة. هو، إذن، في حاجة للفداء ليكون فداء الإنسان كاملاً. إن اختبار الموت القيامة ضروريان لفداء الجسد. عندما يذكر سفر التكوين قصة سقوط الإنسان الأول وفشله يقول أن آدم طُرد من جنة عدن لئلا يأكل من شجرة الحياة. والذي نستخلصه من هذا القول هو أن آدم. إذا أكل من شجرة الحياة، فإنه سيحيا إلى الأبد في هذا العالم. إي أنه يكون قد قضي عليه أن يظل طوال الأبدية في حال الخطية والجسد غير الكامل. إن ما يحاول المؤلف قوله هو أن الموت، الذي يصيب الإنسان كلعنة بسبب خطيته، يحل بالإنسان المفدي كبركة متخفية، لا كلعنة. كانت هذه فكرة بولس عندما كان يتكلم بتشوق عن الموت بوصفه الوسيلة التي تمكنه من الاستمتاع بمسكنه السماوي (2كورنثوس 5: 1، 2) ويسائل نفسه فيما إذا كان يرغب في الموت، ذلك الموت الذي كان في نظره ربحاً عظيماً (فيلبي 1: 21- 23). ونجد هذه الفكرة نفسها في رسالة بولس إلى أهل رومية 8: 17- 23 حيث يصف العالم الطبيعي بأنه يئن ويتمخض في بُطله منتظراً القيامة الأخيرة عندما ستشترك الخليقة، أي العالم الطبيعي، في مصير المفديين المجيد. في كل هذه الآيات يريد الله أن يقول لنا أن الموت، الذي يعتبر الشر النهائي الذي يصيب البشر، هو في الحقيقة الباب الذي يؤدي إلى الخير النهائي حسب القصد الإلهي الفدائي.
يتبين من هذه الأبحاث أن من الممكن وجود الشر في عالم يحكمه الله الخير والصلاح. وهناك أفكار أخرى مما يمكن إيراده للتوفيق بين حقيقة وجود الشر في العالم وبين فكرتنا المتعلقة بصلاح الله المسيطر على العالم. من هذه الأفكار الأخرى أن الله يسيطر على الشر الذي يأتي إلى حياتنا ويضبطه ضمن حدود. فهو لا يتركه يجتاح حياتنا بلا ضبط أو سيطرة. هذا ما يعلم به سفر أيوب في العهد القديم وسفر الرؤيا في العهد الجديد. يعالج هذان السفران مشكلة الشر من زاويتين مختلفتين ولكنهما ينتهيان إلى نتيجة واحدة. سفر أيوب يعالج مشكلة الشر بالبحث في أمر إنسان مؤمن بالله، وعلى الرغم من إيمانه وأمانته تحل في حياته الآلام، ويخلص إلى القول أن الله يسيطر على الشر في حياة ذلك المؤمن ويضبطه ضمن حدود. أما سفر الرؤيا فيبحث في مشكلة كنائس آسيا الصغرى التي كانت تستعد لمواجهة جبروت الامبراطورية الرومانية. يقول هذا السفر بأن الله يسمح للشر بأن يستمر لفترة من الزمن وفي شكل يؤدي إلى غاية فدائية، ولكنه آخر الأمر يقضي على ذلك الشر وينهيه. إن الكتاب المقدس يصور لنا الله أباً حكيماً، لا يتدخل بإفراط في حياة أولاده، بل يسهر عليهم ويراقبهم باستمرار، فلا يدع الصعوبات والمحاربات أن تغلبهم ولا يسمح لتجارب الحياة أن تنتصر عليهم.
هناك فكرة أخرى يمكن إضافتها وهي أن الحياة يجب أن ينظر إليها في ضوء الأبدية لا في ضوء الحياة على هذه الأرض. فكثيراً ما يحدث لنا حادث نعتبره شراً أول الأمر ثم يتبين لنا بعد مرور الوقت أنه كان خيراً لا شراً. لقد تعلمنا جميعاً أننا لا نستطيع أن نقيِّم اختبارات الحياة تقييماً دقيقاً ما لم ننظر إلى تلك الاختبارات في ضوء الحياة كلها. إننا في حاجة أن نتعلم أن ننظر إلى اختباراتنا في ضوء الأبدية لكي يكون تقييمنا لتلك الاختبارات تقييماً دقيقاً حقاً. فالكثير مما يؤلم في هذه الحياة قد يكون السبب للأفراح التي سنختبرها في الأبدية. مثال ذلك واعظ شاب كان راعياً لإحدى الكنائس، وعانى في أثناء عمله الكثير من الاضطهاد والمتاعب. وجاء وقت تضايق فيه جداً، وشعر بأنه يواجه أعظم شر يحل في حياته. واجه صاحبنا ذلك الوضع بشجاعة وإيمان وانتصر عليه، ووجد بانتصاره أن ذلك الاختبار الذي حسبه شراً عظيماً كان في الحقيقة من أسعد اختبارات حياته. ويفرح الآن كلما تذكر تلك الأيام الشريرة، لا بما حملته إليه من شر بل بنعمة الله وقوته التي غمرت حياته في أثنائها. فعندما سيقف هذا الواعظ على أسوار المدينة السماوية، ويتطلع إلى خلف مستعيداً ذكريات الحياة الأولى، ناظراً إليها في ضوء الأبدية، فإن فرحه دون شك سيتضاعف.
هناك أيضاً فكرة أخرى تستحق أن نشدد عليها وهي أن الشر لم يكن قط الشيء الذي يقصده الله. الشر شر ولا يمكن أن يكون صالحاً إلا إذا أوجد الخير في حياة البشر، وهذا الخير هو الذي يقصده الله. إذا أوجدت أية طريقة أخرى يمكن بها إنجاز الخير فإن الله، دون شك، يستخدم تلك الطريقة. ولكن حيث لا سبيل لبلوغ خير ما إلا باستخدام الشر فإنه تعالى يستخدم ذلك الشر ويحوله لإيجاد الخير. إننا نرى هذه الحقيقة ممثلة لنا من نواح عديدة في قصة الفداء الواردة في الكتاب المقدس. لقد قصد الله أن يخلص العالم، ولكن، لإنجاز ذلك الخلاص، كان لا بد من الصليب. لذلك قبل الله بحدوث الصلب، لا من أجل فرح الموت بل من أجل مجد الخلاص. وقصد الله أن ينتشر الإنجيل فيعم كل الشعوب، ولكن كان لا بد، في سبيل ذلك، أن تعاني كنيسة أورشليم الاضطهاد لكي ينتشر التلاميذ منها إلى بقاع الأرض حاملين الرسالة. فالاضطهاد لذلك كان ضرورياً وقد سمح به الله واستخدمه لعمل الخير. كان في قصد الله أن يجعل من بولس رسولاً عظيماً، غير أننا نجد بولس وكأنه يقول عن نفسه أنه كان ذا طبيعة خاصة بحيث كان من الضروري أن تعمل "شوكة في الجسد" على إبقائه مذعناً لإرادة الله، لذلك سمح الله لتلك الشوكة أن تكون في حياة بولس واستخدمها للخير (2كورنثوس 12: 7- 9). وهذه هي حال اختباراتنا في الحياة. يريد الله لنا الخير، ويسمح بالشر أن يصيبنا، ولكنه بنعمته وقوته يحول هذا الشر إلى أداة للخير.
آخر ما نقوله في هذا الموضوع، والنغمة التي بها ننهي كل هذا البحث في قصد الله في التاريخ، هو أن إيماننا يجب أن يقبل أحياناً ما لا تستطيع عقولنا أن تتحقق منه أو أن تفسره. وتصبح كل المشاكل المتعلقة بوجود الشر في العالم مسألة ثقتنا بالله- هل نستطيع أن نثق به، على الرغم من تلك المشاكل، أم لا نستطيع؟ يقول يوحنا (1يوحنا 5: 4) أن الغلبة التي بها نغلب العالم هي إيماننا. الإيمان هو الغلبة والانتصار. لا يقول يوحنا أن الإيمان يأتي بالغلبة بل أن الإيمان هو نفسه الغلبة، إننا نواجه اختبارات الحياة وما تحملها إلينا من مشاكل فكرية. فإذا استطعنا أن ننهض ونقف فوق ظروفنا ومحدودياتنا، وأن نمارس إيماناً خلاقاً قوياً بالله، فإننا نكون بذلك قد أحرزنا انتصار الحياة. وأني بهذا لا أدعو إلى الاعتقاد الأعمى بصلاح كل الأشياء، لأننا نعترف بأن الأشياء ليست جميعها صالحة وخيرة في ذاتها. وإنما أحث على الإيمان الصابر المؤسس على الصخر الثابت- على الاعتقاد بصلاح الله وسيادته المهيمنة.
*مذهب التأليه الطبيعي (Deism) هو المذهب القائل بوجود اله خالق ولكنه لا يتدخل في شؤؤن الخليقة أو البشر. هو الاعتقاد بوجود الله وإنكار الوحي، الاعتقاد بأن الله خلق العالم ومنحه أسباب التطور الذاتي ثم تخلّى عنه.
- عدد الزيارات: 6808