الفصل السابع: قصد الله في اكتمال الدهور
في العهد الجديد نظرتان، الأولى إلى الأمام والأخرى إلى الوراء. إن إيمان المسيحيين بنهاية المسيح ونهاية عمله يلوح واضحاً كالنور اللامع الصافي على صفحات العهد الجديد. إلا أن كتاب العهد الجديد اعتقدوا بأن التحقيق النهائي لفداء الله سيكون في المستقبل بعد التاريخ. لقد تطلع أولئك الرسل إلى الأمام وتوقعوا مجيء المسسيح ثانية، وقيامة الموتى، ودينونة العالم، وقيام النظام الأبدي عندما يسود حكم الله سيادة كاملة.
قد يعترض البعض فينكرون أن هذا الإيمان هو جزء لا يتجزأ من الإيمان المسيحي ، ويعلنون أن العبارات التي تتناول قضايا ذلك الإيمان ما هي إلا بقايا خرافة يهودية وقد رفضها كتاب العهد الجديد المتأخرون. لكن من يدرس العهد الجديد يكتشف بأن هذا الاعتقدا هو جزء لا يتجزأ من العقيدة اللاهوتية المسيحية وأنه اعتقاد جميع كتاب العهد الجديد. لقد وعد يسوع تلاميذه بان يأتي ثانية ويأخذهم إلى المكان الذي أعده لهم حتى "حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً" (يوحنا 14: 2، 3). وجاء في إنجيل متى قول يسوع بأن كل الشعوب سيقفون أمامه للدينونة الأخيرة (متى 25: 31- 36). وكانت الكنيسة الأولى تعتقد بأن الله سيرسل يسوع المسيح "الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبياءه القديسين " (أعمال 3: 21). وبولس أيضاً كان يعلم بوجود نظام إلهي للقيامة. فهو يقول في رسالته الاولى إلى أهل كورنثوس: "المسيح باكورة ثم الذين للمسيح في مجيئه. وبعد ذلك النهاية، متى سلم الملك لله الآب، متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة. لأنه يجب أن يملك حتة يضع جميع الأعداء تحت قدميه. آخر عدو يبطل هو الموت" (1كورنثوس 15: 23- 26). ويصر كاتب الرسالة إلى العبرانيين على القول مع بولس بأن حكم المسيح الروحي الحالي سيدوم إلى أن "توضع أعداءه موطئاً لقدميه" (عبرانيين 10: 13). ويقول الكاتب ذاته أيضاً- "وكما وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة، هكذا المسيح أيضاً، بعدما قدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه" (عبرانيين 9: 27، 22). ويرى يوحنا أن ظهور المسيح الأخير لدى مجيئه سيكون ذروة الاختبار المسيحي، فنراه يقول في رسالته الأولى: "أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله، ولم يظهر بعد مادا سنكون. ولكن نعلم أنه، إذا أظهر، نكون مثله لأننا سنراه كما هو" (1يوحنا 3: 2).
يشتهر سفر الرؤيا بتصويره آخر الزمن ومجيء المسيح نهائياً. يجب أن يعتبر هذا التعليم ويقبل كجزء من إيمان المسيحيين الأساسي.
لكن، من ناحية أخرى، يجب إلا يعطى هذا التعليم المقام الأول في الإيمان. إن مجيء المسيح الأول هو الأول في الأهمية وليس من حيث الزمن وحسب. إنه الأول في الأهمية في عمل الله في الفداء. إن كل الذي سبق فقلناه في الفصل الخامس من هذا الكتاب يبين هذه الحقيقة. لقد تم فداء الإنسان في خدمة المسيح على الأرض. وبالفداء أصبح كل ما سيجري في حياة الإنسان في المستقبل مضموناً. يجب ألا يشغلنا التفكير بالسماء إلى حد تحويلنا عن حمل الإنجيل إلى العالم. يجب ألا تستولي التخمينات المتعلقة بالأمور الأخيرة على أفكارنا فلا نعود نرى أولوية الأمور الأولى وأهميتها.
ليس في مجال قصدنا من هذا الكتاب أن نبحث بحثاً كاملاً في تعاليم العهد الجديد المتعلقة بالحياة القادمة أي بعد الموت. إننا إنما نتتبع تلك الدراما العظيمة، دراما الفداء التي ابتدأت بالخليقة وتبلغ ذروتها في السماء. لذلك لن يشتمل هذا البحث على المسائل التي تشغل أفكار عدد كبير من الناس. إن الكثير من هذه المسائل لا تجد لها جواباً على اساس معطيات العهد الجديد. بينما نجد في العهد الجديد صورة واضحة للأحداث الرئيسية في أعمال الفداء النهائية. أولاً، سيكون ظهور نهائي للمسيح أمام عيون البشر. إن مجيئه الثاني هذا، بالمفارقة مع مجيئه الأول، سيظهره في حقيقته المجيدة كلها (رؤيا 1: 7) ولن يكون مجيئه ذاك متعلقاً بتطهير الخطايا (عبرانيين 9: 28)، وسيوقع الحزن والخوف في قلوب بعض الناس (رؤيا1: 7) وسيملأ قلوب البعض الآخر بالبهجة المجيدة. ثانياً، ستكون قيامة لجميع الموتى (يوحنا 5 : 28-29) سواء في ذلك الذين فعلوا الشر في هذه الحياة أو الذين فعلوا الصلاح. ثالثاً، ستكون دينونة نهائية لجميع البشر- سيعلن الحكم الإلهي على أساس الحياة التي نحياها على الارض كما سيعلن لكل فرد سبب ذلك الحكم (متى 25: 31- 41، رؤيا20: 11- 15). وأخيراً، سيتقرر لكل الناس مصيرهم الأبدي. فالبعض سيطرد من حضرة الله إلى الأبد ويعاقب في جهنم (متى25: 46 والرؤيا20: 15). أما البعض الآخر فسيدخل إلى حضرة الله حيث يتمتعون بالسعادة الأبدية (متى25: 34 والرؤيا21: 1- 7).
من الجدير بنا أن نتذكر أن اهتمام كتاب العهد الجديد كان منصرفاً بشكل رئيسي إلى الفداء وبلوغه ذورته في السماء. ليس في العهد الجديد ما يثبت العقيدة التي تقول بأن الخلاص سيشمل الجميع في النهاية (Universalism). ولكن من الملاحظ أن أعظم الاهتمام في العهد الجديد منصرف إلى الفداء لا إلى العقاب. فالكتاب يتكلم عن حياة المفديين التي سيتمتعون بها في السماء فيصفها بأروع الأوصاف وفقاً لأسمى وأمجد اختبارات هذه الحياة الحاضرة. ففي السماء منازل (يوحنا 14: 2). وهي شبيهة بمدينة عظيمة (رؤيا 21: 1- 7)، أو شبيهة بجنة جميلة (رؤيا22: 1- 2) أو شبيهة باختبار عبادة الله في هيكل كامل (رؤيا 21: 22). توصف السماء أحياناً وصفاً سلبياً. فهي خالية تماماً من أي من الإختبارات المحزنة في الحياة. فلا دموع فيها ولا موت ولا فراق ولا خطية- بهذا الأسلوب كان البشر دائماً يصورون الحياة الكاملة.
والتشديد، في ذلك كله، لا يقع على الوصف الحرفي لأفراح السماء- فليس من وصف يستطيع أن يفي بذلك الغرض. بل هناك تشديد على هذه الحقيقة وهي أن حلم الله من أجل البشر (إن جاز التعبير) سيتحقق أخيراً في السماء. وهذا مبين بالمقارنة والمفارقة بين السماء من جهة وجنة عدن وحالة الإنسان الأولى من الجهة الأخرى.
يتكلم لنا سفر التكوين بلغة شعرية فيقول أنه بعد خلق العالم الطبيعي خلق الله الإنسان على صورته (تكوين 1: 27). ذلك أنه بعد أن أصبح العالم جاهزاً خلق الله الإنسان كائناً حياً وأعطاه ما يضمن له العيش الرغيد والتقدم الخلقي وذلك بأن أعد له جنة. "وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً ووضع هناك آدم الذي جبله" (تكوين 2: 8). وأذكر أن الجنة كرمز كانت ذات معنى كبير لكتّاب الكتاب المقدس، فقد عاشوا في بلاد قاحلة قليلة المطر وكانوا يحلمون بجنائن ذات أشجار بهيجة ومياه كثيرة كمساكن مثالية للعيش فيها. والواقع أن اللغة التصويرية التي في الكتاب المقدس انتقلت إلى لغتنا، فأصبحت كلمة "عدن" رمزاً للحياة الهانئة في فردوس النعيم. ونجد هذا المجاز يدخل أيضاً في وصف السماء في سفر الرؤيا. "وأراني نهراً صافياً من ماء حياة لامعاً كبلور خارجاً من عرش الله والخروف. في وسط سوقها وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتي عشرة ثمرة وتعطي كل شهر ثمرها. وورق الشجرة لشفاء الأمم" (رؤيا 22: 1، 2).
هناك صورة مجازية أخرى للحياة المثالية وقد وردت في سفر الرؤيا- وهي شجرة الحياة. جاء في سفر التكوين أن الله غرس هذه الشجرة "في وسط الجنة" (تكوين 2: 9). على أنه لم يذكر قط أن إنساناً أكل من ثمر هذه الشجرة. بل جاء في تكوين 3: 24 أنه عندما جاءت الخطية طرد الله آدم وحواء من الجنة "وأقام الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة" (تكوين 3: 24). فالذي نستنتجه من ذلك هو أنه إن أكل الأنسان من شجرة الحياة وهو في حال الخطية فسيقضى عليه أن يعيش إلى الأبد في هذا العالم غير الكامل. لكن السماء ستشهد وصول الإنسان مجدداً إلى شجرة الحياة. "وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتي عشرة ثمرة وتعطي كل شهر ثمرها" (رؤيا 22: 2). لقد صيغ هذا الوصف عن قصد ليؤكد إمكان الوصول إلى "شجرة الحياة"- فهي مغروسة على جانبي النهر- وإنها دائمة الثمر فهي "تعطي كل شهر ثمرها". ويظهر من المؤكد أن كاتب سفر الرؤيا كان يفكر لدى وصفه السماء بعودة الإنسان لإحراز أمجاد الحياة التي خسرها بسبب الخطية.
وهذا الافتراض يزداد يقيناً بوصف العلاقة التي ستقوم في السماء بين الله وشعبه المفدىّ. يظهر من سفر التكوين أن الله اعتاد أن يمشي في جنة عدن "عند هبوب ريح النهار" (تكوين 3: 8)، فيلتقيه الإنسان وتكون له شركة معه. لكن هذه الشركة فُقِدت بسبب الخطية. إن القصة الواردة في الكتاب المقدس، كما سبق أن أشرنا، تدور كلها حول القصد الإلهي في الفداء وعمل الله في التخطيط لاستعادة الشركة المفقودة على صعيد جديد أرفع من الصعيد السابق. يظهر هذا الأمر واضحاً في وصف السماء كما جاء في الرؤيا: "هوذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم" (رؤيا 21: 3). "ولم أر فيها هيكلاً لأن الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها. والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمرليضيئا فيها لأن مجد الله قد أنارها والخروف سراجها" (رؤيا 21: 22، 23). "ولا تكون لعنة ما فيما بعد. وعرش الله والخروف يكون فيها وعبيده يخدمونه. وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم" (رؤيا 22: 3، 4). تشير هذه العبارات كلها إلى الشركة الجميلة والوثيقة بين الإنسان والله والتي هي هدف قصد الله في الفداء الذي هو في دور الإتمام في العالم اليوم.
لن تكون "السماء الجديدة: نسخة مطابقة "لعدن" القديمة. فبينما بين الاثنتين أوجه تشابه هناك أيضاً أوجه تناقض ومخالفة، الأمر الذي يبين أن السماء ليست مجرد استعادة للحالة التي فقدها الإنسان. السماء افتداء الإنسان ونقله إلى الحياة المثالية. فقد جاء في الرؤيا: "السماء الأولى والأرض الأولى مضتا" (رؤيا 21: 1). هذه الأرض التي نعيش الآن عليها، حسب قصة سفر التكوين، أرض ملعونة بسبب خطية الإنسان (تكوين 3: 17- 19)، أرض مليئة بالهم والاضطراب، والحزن، والموت والتمخض بالآلام، والتشوق لفداء الإنسان لكي تشترك هي أيضاً في ذلك الفداء. (قارن رومية 8: 22- 23). الأرض القديمة تصلح للإنسان ليعيش في خطيته فيها، وقد تكون مسرحاً للفداء. لكنها ليست الوضع المناسب للحياة المثالية. إن موضعاً مثل هذا يستدعي وجود "سماء جديدة وأرض جديدة"(رؤيا 21: 1).
إن المجد السامي الذي للحياة الجديدة في السماء مشدد عليه أيضاً بحقيقة أخرى وهي أنه "لا تكون لعنة ما" (رؤيا 22: 3). "ولن يدخلها شيء نجس" (رؤيا 21: 27). إنه لتغيير بيّن من جنة سفر التكوين التي احتوت على "شجرة معرفة الخير والشر" (تكوين2: 9) وكانت عرضة لهجوم تجارب إبليس الغادرة (تكوين 3: 1). إن هذه الاشياء في الجنة القديمة كانت أدوات سقوط الإنسان، لكن لن يسمح لمثلها بأن تفسد حياة المفديين في سماء الله الجديدة.
هناك تشديد أكثر على هذه الحقيقة متضمن في دوام حياة الإنسان في السماء الجديدة: "وهم سيملكون إلى أبد الابدين" (رؤيا22: 5). هنا مفارقة كبيرة بين التمتع الأبدي بلذات الحياة، من جهة، وحياة الإنسان الأول في جنة عدن وحياة الإنسان على الأرض من الجهة الأخرى، وضع الإنسان في الجنة، غير أن ذلك اتبع بتهديد: "من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأمل منها. لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت" (تكوين 2: 16- 17). والإنسان أكل من تلك الشجرة، فلُعن بالموت والحزن والألم نتيجة لذلك (تكوين 3: 16- 19). من ذلك اليوم والإنسان على الأرض يأكل من ثمر الحزن الناتج من حكم الخطية وسيادتها. لذلك نجد يعقوب يقول أمام فرعون: "أيام سني غربتي مئة وثلاثون سنة. قليلة ورديئة كانت أيام سني حياتي" (تكوين 47: 9). وصاح أيوب: "الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعباً" (أيوب 14: 1). وكل الذين عاشوا على هذه الأرض اختبروا الحقيقة المرة وهي أن الاضطراب والحزن يعششان في جوانب حياتنا وحتى وسط أعظم أفراحنا. وكل لحظة سعيدة لا بد أن يغشاها ظل من الشعور بأنها لن تدوم إلى الأبد. لكن الأمر ليس كذلك في السماء. السماء أبدية. هنالك لا نهاية للأفراح والغبطة.
أخيراً، أن المفارقة بين الجديد والقديم واضحة في أن أخلاق الإنسان في السماء ستصبح نقية في البر نقاء البلور. لما خلق الإنسان الأول كان مرشحاً للبر، كان بريئاً ولكن لم يكن باراً. كان خُلُقُه في حاجة للنضج والتطور، الأمر الذي لم يتم بسبب دخول الخطية إلى الحياة البشرية. كان قصد الله الفدائي هو إيصال الإنسان الساقط إلى البر الخلقي، وهوالذي يظل يبدو بعيداً عن متناولنا حتى بعد نوال الخلاص بالنعمة. لكن الأمر يتغير في السماء إذ يؤكد العهد الجديد أننا سنكون كاملين هناك. "طوبى للذين يصنعون وصاياه* لكي يكون سلطانهم على شجرة الحياة ويدخلوا من الأبواب إلى المدينة. لأن خارجاً الكلاب والسحرة والزناة والقتلة وعبدة الأوثان وكل من يحب ويصنع كذباً" (رؤيا 22: 14- 15). لا بد أن قصد الله يتحقق أخيراً. فسيكون المفديون أبراراً ويسكنون في شركة أبدية مع الإله القدوس.
هذا هو إيمان الكتاب المقدس، الإيمان المسيحي الحقيقي. فالله لم ييأس ولن يفشل. الفداء تم وهو في الوقت ذاته في طريق الإتمام. الله هو المحرك لكل التاريخ، وهدف كل التاريخ هو الفداء. هذا ما نؤمن به أنه الحق.
*يغسلون ثيابهم" بدلاً من "يصنعون وصاياه" بموجب النص الأدق للأصل اليوناني حسب الإكتشافات المتأخرة لمخطوطات العهد الجديد.
- عدد الزيارات: 4067