القسم الثاني: قصد الله والإنسان الفرد - مقدمة: اهتمام الله بالفرد
إن قصد الله، المعبّر عنه في الاختيار، ليس فقط قصداً عالميّ المدى. إنه أيضاً قصد يتناول الفرد. ومهما عظمت أهمية خطة الله للكون ككل. يجب ألاّ يغرب عن بالنا عظم أهمية الإنسان الفرد في خطة الله. إن هذا لخطر قد نتعرض له. مرّ عصر كان الناس فيه يشدّدون كثيراً على مسألة الفرد والفردية، وجاء عصرنا هذا فأصبحنا في خطر الانكفاء عن الفردية والذهاب بعيداً في الاتجاه المعاكس. إن تشديد العصر الحديث على النشاط الجماعي، والحركات الجماهيرية. الإنجيل الاجتماعي، كثيراً ما يقضي على الاهتمام بالفرد (1). بل أن علماء الكتاب المقدس أصبحوا مشغولين "بعمل الفداء العظيم" حتى أنهم نسوا أن الفداء، في الدرجة الأولى، فداء الإنسان الفرد. نجد على سبيل المثال أن هـ. هـ. راولي (H. H. Rowley) في كتابه "عقيدة الكتاب المقدس في الاختيار"، وهو الذي قد يعتبر أهم كتاب حديث في هذا الموضوع، لا يذكر شيء عن مصير الإنسان الفرد (2). إن البحث الكامل في عقيدة الاختيار يوجب معالجة اختيار الله للإنسان الفرد لينال هذا الإنسان الخلاص، ويقوم بالخدمة، ويدخل المجد. ليس اختيار الله للفرد أمراً فرعياً، بل هو أساسيّ. كان اهتمام الله دائماً، وبالدرجة الأولى، بالإنسان الفرد وبما هو لخيره، مع أن الإنسان كان في أغلب الأحيان يجهل هذه الحقيقة.
ليس أدل على هذه الحقيقة مما نراه في خدمة يسوع التي كانت موجّهة لسد حاجة الإنسان الفرد (3). لقد أثبتت خدمة يسوع، بقدر ما أثبت تعليمه، ما للإنسان الفرد في نظر الله من قيمة غير محدودة اهتمام الله بالفرد.
(4). كانت معجزات الشفاء تستهدف انتشال الفرد من هوّة الشقاء والفاقة. إن قصة يسوع والخدمة التي قام بها طافحة بالدليل على أنه لم يستطع قط التحول عن سماع الاستغاثة الصادرة من قلب أي إنسان، بل كان دائماً يجيب دعوة الداعي ويسد حاجة المستغيث. وما شفاؤه المفلوج (مرقس1:2-12) والرجل ذا اليد اليابسة (مرقس1:3-5) وابنة المرأة الفينيقية – السورية (مرقس24:7-30) وبرتيماوس الأعمى (مرقس46:10-52) وكثيرين غيرهم، الأمثلة تبين عطفه العظيم على الناس من رجال ونساء واهتمامه الشديد بسد حاجاتهم. وعندما انتقده البعض على مجالسته أفراداً من الذين نبذهم المجتمع في ذلك العصر، أجاب أولئك المنتقدين بالقول: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة" (مرقس17:2). وعندما قابل رجلاً ورأى فيه توبة صحيحة صادقة فرح جداً وقال إن "ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك" (لوقا10:19).
ما سر هذا الاهتمام من جانب يسوع بالإنسان الفرد؟ لقد كان يسوع يرى انه انعكاس لفكر الله. فالله هو الذي يهتم بالفرد. أجاب يسوع الذين انتقدوه على مصاحبته الخطاة والعشارين بثلاثة أمثال قالها لهم، وهي مثل الخروف الضال ومثل الدرهم المفقود ومثل الأخوين (لوقا 15). وأبرز ما في هذه الأمثال اهتمام الأب بالأفراد الضالين و الذين هم في حاجة. نرى موقف يسوع نفسه من قيمة الإنسان في إصراره على أن حياة الإنسان أعظم أهمية من العالم المادي كله (مرقس 36:8)، وأن سد حاجته أولى و أهم من سد حاجة الحيوانات (متى12:12)، وإن العمل لخيره ولسعادته أهم من المحافظة على المؤسسات والتقاليد الدينية (مرقس 27:2).
عندما كان يسوع يعلّم كان يشدد على اهتمام الله بالإنسان الفرد. نراه يقول أن عبادة الله الحقة هي العبادة الروحية لأن الله روح (يوحنا24:4). لذلك فهي أساساً غير مقتصرة على أي مكان، أو تقليد أو أسلوب، أو مؤسسة، إذ هي لقاء النفس الأمينة المخلصة بالإله الحي. نجد هذا التشدد واضحاً في تعاليم يسوع عن نبوة الله. نظر اليهود إلى الله على أنه أب لهم كشعب، وكانت علاقة الفرد اليهودي بالله عن طريق العلاقة بالشعب. كانت علاقة الفرد، إذن، غير مباشرة بل علاقة عن طريق الشعب ومستمدة من العلاقة به. جاء يسوع وغير هذا كله. لقد علّم يسوع أن الله أب للمؤمن. وقال بأن علاقة الإنسان بالله علاقة مباشرة، وشخصية، وجوهرية، للمؤمن الفرد الحق، بوصفه ابناً لله، في أن يختار الاجتماع بالمؤمنين الآخرين والاشتراك معهم في ما يسمى بالكنيسة ولكن مع ذلك يظل للمؤمن الفرد علاقته المباشرة والجوهرية بالله كل إنسان مؤمن يعرف الله ويعبده كشخص وفرد لا ككيان نصف شخصي في مؤسسة دينية حيث تختفي حياته الشخصية . لقد علّم يسوع أن الله الأب بعتني بأولاده عناية شخصية دقيقة ، بل لقد قال: "أما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة " (متى 10:30). إن يسوع بتصريحات كهذه إنمّا شدد على حقيقة معرفة الله وعنايته بأبسط تفاصيل حياتنا. لم تكن ليسوع النظرة العصرية المعروفة هذه الأيام والقائلة بأن الله يشرف على شؤون الأمة وقضاياها الكبيرة ولكنه غير منشغل بشؤون الفرد. كان يسوع يعتقد أنه ليست للإنسان الفرد قضية، مهما كانت صغيرة وتافهة ، إلاّ وتحظى باهتمام الله.
كتب ت.و.مانسون ( T. W.Manson) فقال أن كل تعليم يسوع عن أبوة الله يمكن تلخيصه بالصلاة الربانية (متى 9:6-13). إن هذه الصلاة، التي يجتمع فيها كل ما يمكن أن نطلبه أو نرغب فيه من الأب، تعطينا فكرة صادقة عن الله الذي نؤمن به. من الممكن قسمة هذه الصلاة إلى مجموعين رئيسيتين: مجموعة الطلبات الأولى التي هي – "ليتقدس اسمك" و"ليأت ملكوتك " و "لتكن مشيئتك"، ويمكن أن ندعوها بالقضايا العلمية. ومجموعة الطلبات الثانية، وهي – "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم" و "اغفر لنا ذنوبنا" و "نجنا من الشرير"، فتتعلق بحاجات الإنسان الفرد اليومية. صحيح أننا قد لا نستطيع التشديد كثيراً على تقسيم الصلاة الربانية بالشكل المذكور، لكن مانسون على حق في القول بأن هذه الصلاة تبين اهتمام الله بالإنسان الفرد وكذلك باهتمامه بشؤون العالم. هذه هي أبوة الله وما تعنيه في تعاليم يسوع.
إن ما سبق قوله لا يعني أن يسوع ابتعد كلياً عن تعاليم العهد القديم، بل إنما غيّر التشديد. فبعد أن كان الاهتمام في العهد القديم منصرفاً إلى الأمة أصبح في العهد الجديد منصرفاً إلى الإنسان الفرد. كانت آراء يسوع تتفق تماماً مع صميم تعاليم العهد القديم. هناك فكرة شائعة تقول أن ديانة العهد القديم تتصف بالجماعية، وأنها كانت تحصر تعاملها مع شعب إسرائيل. ليس هذا كل ما في الأمر. فالعهد القديم يقول الكثير عن علاقة الفرد بالله (8). كانت الشرائع اليهودية موجّهة إلى الفرد وقد صيغت على ذلك الأساس إذ أنها تخاطب الفرد ، مثل :"لا تقتل، لا تسرق."وكثير من تلك الشرائع عبّر، بشكل غير مباشر، عن قيمة الفرد الرفيعة. فلا يجوز للمرء أن يكذب أو يشهد بالزور على شخص آخر، ولا أن يسرق منه أو يقتله أو يزني معه، لأن لكل شخص قيمته الرفيعة وأهميته. لا يحق أن نعتبر أي إنسان مجرد وسيلة، إذ أن كل فرد هو في ذاته غاية. إن ما فعله يسوع بصميم تعليم العهد القديم هو أنه جمع أشعة ذلك التعليم في بؤرة دقيقة وأكد على أن اهتمام الله بالإنسان الفرد اهتمام أوليّ ورئيسي وليس اهتماماً جانبياً أو ثانوياً.
كان هذا هو التشديد في العهد القديم. نرى ذلك واضحاً في سفر أرميا حيث أعلن هذا النبي أن الله سيقيم عهداً جديداً (أرميا 31:31_34). لقد اعتبر كاتب الرسالة إلى العبرانيين هذه الآيات في ارميا نبوة مباشرة تتكلم عن صميم الديانة المسيحية (راجع عبرانيين 8:8-12). إن المظاهر الإيجابية التي اتصّف بها العهد الجديد هي، أولاً، الاتجاه إلى الداخل: "أجعل شريعتي في داخلهم". وثانياً الفردية :"كلهم سيعرفونني". وثالثاً الغفران: "ولا أذكر خطيتهم بعد". لكن لا بد من الاعتراف بأن اليهود أخطأوا في تفسير تعليم الله على نحو جعل الفرد غير ذي أهمية، مع أن هذا لم يكن قط قصد الله.
إننا نرى صدق هذا القول. لا في تعاليم يسوع وحسب، بل أيضاً في اهتمام المجتمع المسيحي بالإنسان الفرد. لقد أظهر هذا الموقف جميع كتّاب أسفار العهد الجديد (رومية 10:8-31). وشدّد يوحنا على الاختبارات المتعلقة بحياة الفرد، مثل الغفران، والولادة الثانية، ومحبة الإنسان لأخيه، غير ذلك من الاختبارات. إن جميع هذه الحقيقة ذاتها عندما يوصي بأن يعامل الفقير بالاحترام ذاته الذي يعامل به الغني في اجتماعات المسيحيين (يعقوب 2:1-8).
لا حاجة لقول المزيد في هذه القضية، ويمكن القبول بها كإحدى القضايا المسلم بها والرئيسية في علم اللاهوت الكتابي. ولنأتِ الآن إلى بحث اختيار الله للإنسان الفرد للخلاص، وللخدمة، وللمجد. إن ما سبق ذكره في القسم الأول من هذا الكتاب، على الرغم من أهميته لفهم قصد الله في العالم، ليس سوى الخلفية للبحث الذي سنشرع به الآن. إن كل تحرّكِ قصدِ الله في الفداء يظل بلا معنى أو جدوى ما لم يؤدّ، آخر الأمر، إلى خلاص الإنسان الفرد. يمكن أن نقول بثقة أن هذا الخلاص كان منذ البداية موضوع اهتمام الله الرئيسي.
إن الطريقة التي اعتمدناها للسير في هذا البحث الجديد تتطلب منا كلمة توضيح. سنبدأ بالبحث في معاملات الله الواقعية مع الفرد، أولاً في خلاص الذين حصلوا على الخلاص، وثانياً في هلاك الذين لم يحصلوا على الخلاص. سنفعل هذا لأننا نجد في هذا البحث من المعطيات التي نستند إليها أكثر جداً مما نجد عندما نبحث في قصد الله الأبدي. وهذا يعني أننا سنحاول أن نربط بين معاملات الله الواقعية مع البشر وبين قصده الأبدي. سنستخدم طريقتين للوصول إلى الحق. أولاً، سنحاول الربط منطقياً بين الاعتقاد المسلم به والقائل بأن الله يفعل ما يفعل بناء على قصد، وبين النتيجة الفعلية لمعاملاته مع الناس. ثم سننظر في بعض المشاكل التي تنشأ في الفكر البشري عندما تعرض له هذه الحقائق. وأخيراً سنعمل على الربط بين هذه الحقيقة بأكملها وبين عيشنا الحياة المسيحية في شركة مع الله وفي الخضوع لإرادته.
- عدد الزيارات: 6183