الفصل الأول: التقارب الصائب - لقد تكلم الله
لقد تكلم الله
الإنسان مخلوق سؤول، محب للاستطلاع، جُبل عقله على البحث والتنقيب، لا يهدأ له بال، ولكنه عندما يغوص دائماً في أعماق المجهول، جرياً وراء المعرفة، بهمة لا تعرف الكلل، وكأن حياته رحلة استكشاف، دأبه البحث والدرس، والتساؤل والاستقصاء، يلازمه ملازمة الظل للجسد، هذا السؤال : "لماذا؟"
ولكن عندما يبلغ الإنسان في تفكيره، حد البحث عن الله تعالى، يقف حائراً مشدوهاً، يتخبط في الظلام، ويتعثر في دياجير الدجى، فيضيع! وهل في هذه غرابة؟ لأن الله، أياً كان ومهما كان، كائن سرمدي، دائم غير محدود، بينما نحن البشر، كائنات فانية محدودة... إنه فوق إدراكنا، ولذلك مع أن عقولنا آلات عجيبة فعّالة ومتوقدة في الميادين الأخرى، تضحي عديمة النفع في هذا المضمار، فهي أقل من أن ترقى إلى فكر الله السرمدي فلا يوجد سلّم، ولكن يوجد فقط هوّة واسعة لا حد لها، وحقاً قال أيوب: "أإلى عمق الله تتصل؟" (أيوب 11: 7) أنه لمن المحال أن نحقق ذلك، ولو لم يكن الله، قد بادر وتدارك الأمر، لبقيت الحالة على ما هي عليه، ولظل الإنسان بلا رجاء، يتخبط في دياجير"اللا أدرية"، مثله مثل بيلاطس البنطي وهو يتساءل قائلاً: "ما هو الحق؟" (يوحنا 18: 38) دون أن يتلقى جواباً، ولأصبح هذا الإنسان متعبداً، تجاوباً مع طبيعته، وقد نقش على مذابحه القول: "لإله مجهول" (أعمال 17: 23).
ولكن لقد تكلم الله!!
لقد بادر وأعلن نفسه، فأضحت العقيدة المسيحية للإعلان والوحي، عقيدة معقولة جوهرية، و"كشف" الله أمام عقولنا، ما كاد أن يظل مخفياً عنها لولا ذلك، وعسانا نشاهد جزءاً من هذا الإعلان، في الطبيعة، إذ "السموات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه" (مزمور 19: 1) وأيضاً: "معرفة الله ظاهرة فيهم (أي في الناس) لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق الله العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر" (رومية 1: 19،20) ولعل هذا ما يسمى عادة "الإعلان العام أو الطبيعي".
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، ولكنه يعرّف كل بني البشر في كل مكان، يعرّفهم وجود الله، وشيئاً عن سلطانه الإلهي، مجده وأمانته، ولكن إذا أراد الإنسان أن يعرف الله شخصياً، وأن ينال غفران خطاياه، وأن يدخل في شركة وعلاقة مع الله، ظهرت حاجته أكثر، إلى إعلان عملي حبي... وإن ما يحتاج إليه الإنسان، هو أن يكشف له الله نفسه، لاسيما في قداسته ومحبته، وقدرته على الخلاص من الخطيئة، وقد سُرَّ الله أن يفعل ذلك، وهذا نسميه "بالوحي الخاص أو الوحي الفائق الطبيعة" جاء بتعاقب أنبياء العهد القديم ورسل العهد الجديد، ووجد الوسيلة الرئيسية الفعّالة للتعبير عنه، في شخص وعمل ابنه الوحيد، يسوع المسيح.
ويوضح الكتاب هذا النوع من الإعلان ويصفه بالقول: "لقد تكلم الله"... ويعرف الإنسان عادة، ما يجول بفكر غيره بسهولة عن طريق كلامه، وإن ما يصدق على الناس، بشأن رغبتهم في الإتصال ببعضهم البعض، يصدق بالأحرى، على الله الذي أعلن ما في فكره غير المحدود، لأفكارنا وعقولنا المحدودة "لأنه كما علت السموات عن الأرض هكذا علت طرق الله عن طرقنا وأفكاره عن أفكارنا" (أشعياء 55: 9)...وكان من المستحيل علينا أن نفهمها، لو لم يضعها الله في كلمات، وبهذه الوسيلة وصلت "كلمة الله" إلى أنبياء كثيرين، إلى أن جاء يسوع المسيح أخيراً"والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا" (يوحنا1: 1، 14). وقد كتب الرسول بولس في رسالته الأولى إلى كنيسة كورنثوس 1: 21 قولاً مشابهاً لهذا حين قال: "لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف بالحكمة استحسن الله أن يخلّص المؤمنين بجهالة الكرازة" ومن هذا يتضح أن الإنسان لم يعرف الله بواسطة حكمته بل بواسطة "كلمة الله" التي نكرز بها، لم يعرفه بواسطة عقله البشري، بل بواسطة الوحي الإلهي- وإذ أعلن الله نفسه في المسيح، يستطيع المؤمن المسيحي أن يجابه "اللاأدريين" وأصحاب الخرافات والأساطير، بكل جرأة وجسارة، ويقول لهم ما قاله بولس إلى أهل أثينا في أريوس باغوس: "فالذي تتقونه وأنتم تجهلونه هذا أنا أنادي لكم به" (أعمال 17: 23).
ولعل جانباً كبيراً من الجدل أو الخصومة، القائمة بين العلم والدين، نشأ بسبب جهل هذه الحقيقة أو تجاهلها... فقد تفشل الوسائل العملية في علاج الأمور الدينية، ذلك لأن المعرفة العملية تنمو وتتزايد، عن طريق الملاحظة والتجاوب، وتُبنى على المعلومات المستقاة عن الحواس الخمس الجسدية، وأنّى لهذه أن تصل إلى ما وراء الطبيعة، حيث لا تجدي مثل هذه المعلومات، والاستنتاجات نفعاً، فإن الله- في هذه الأيام- لا يُلْمس ولا يُسْمع ولا يُرى، بينما جاء وقت، اختاره الله لكي يتكلم فيه، وظهر في جسد بشري يُنظر ويُلمس، ولذلك بدأ يوحنا الرسول رسالته الأولى بقوله: "الذي كان من البدء، الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا... نخبركم به..." (يو 1: 1- 3).
- عدد الزيارات: 8939