المقدمة
يبدي اليوم، عدد كبير من الناس، اهتمامهم بالمسيحية، ويميلون ظاهرياً إليها، لكنهم لا يقتنعون داخلياً، بالحق الذي تحويه، ويرون أنها – عقلياً – ليست جديرة بالإكرام والاحترام،ربما لأنهم تربّوا في بيوت مسيحية، ونشأوا نشأة التسليم بقبولها كما هي بدون فحص، ولكن لما جاء الوقت، وفتح أمامهم باب البحث والتنقيب، آثروا أن ينبذوا دين طفولتهم، دون أن يكلفوا أنفسهم، مشقة الدرس و الاستقصاء، عن صلاحها وإثبات صحتها.
وقد جئت بكتابي هذا، لأمثال هؤلاء المسيحيين، الباحثين عن صدق المسيحية وتطبيقها عملياً، دون أن أحاول كتابة مقدمة جامعة شاملة للإيمان المسيحي أو للحياة المسيحية الفضلى،... بل قصرت همي على تقديم بيان واضح صريح عن جوهر المسيحية الأصلية،ولعل نقطة انطلاقنا- أو بالحري ارتكازنا- في هذا البحث، هي شخصية يسوع التاريخية، فقد كان إنساناً، وُلد ونما و عمل، وأكل وشرب ونام، تألم ومات مثل باقي الناس .... ورُبّ سؤال يعترضنا: "هل يسوع المسيح هو الله؟ أو ليست ألوهية يسوع أسطورة بارعة، ابتدعها المسيحيون؟ وهل من دليل يدعم ما أكّده المسيحيون، بأن ابن النجار الذي من ناصرة الجليل، هو ابن الله الوحيد؟"
إن هذا السؤال جوهري، لا يكننا أن نمرّ به مرور الكرام، بل يجب معالجته بكل أمانة ودقة... فلو لم يكن يسوع، هو الله الذي ظهر في الجسد، لانهارت المسيحية من أساسها، رأساً على عقب، دون أن يبقى فيها شيء يستحق الذكر، اللهم إلاً بعض الآداب النبيلة الراقية، و الأفكار الجميلة الرائعة، وتكون بذلك فقدت ميزتها الفريدة.
إلا أن هناك من الأدلة والبراهين، على ألوهية يسوع، ما هو من الجودة والقوة والواقع التاريخي، بحيث تقنع الباحث الأمين، وترضيه، دونما تضحية أو تساهل في معرفته العقلية... وبين هذه البراهين القاطعة، دعاوى يسوع، وفيها من الجرأة و الرصانة، ما يثير العجب و الدهشة ... لا سيما فيما يختص بطبيعته و سجاياه الفريدة، التي لا يدانيه فيها الإنسان.
ولئن رأيناه ضيفاً آتياً من عالم آخر، إلاّ أننا نرى قوته و سلطانه، ولطفه ورقته، وبره وحنانه، وعطفه على الأطفال، وحبه للمحتقرين المرذولين، وسلطانه على نفسه، وإنكار ذاته... نرى هذه وقد نالت جميعها إعجاب العالم... وفضلاً عن ذلك، فإن موته، بالطريقة الظالمة الغاشمة، لم يكن نهاية حياته، بل كما يؤكد لنا الكتاب المقدس، بأنه قام من بين الأموات، وأن قيامته، لا يشوبها شك كما أثبتتها البراهين الملموسة.
على فرض أن يسوع هو ابن الله، هل المسيحية الأصلية تعني مجرد التسليم بهذه الحقيقة؟ للجواب على هذا السؤال أقول كلا... لأن بعد الاقتناع بألوهية شخص المسيح، يجب أن نفحص طبيعة عمله... وما هو القصد من مجيئه إلى العالم؟ ويجيب الكتاب عن هذا السؤال، بقوله : "جاء إلى العالم ليخلص الخطاة" – إن يسوع الناصري، هو المخلّص المرسَل من السماء الذي نحتاجه نحن كخطاة... نحتاجه لكي يغفر خطايانا، ويردّنا إلى الشركة مع الله، الكلي القداسة، الذي فصلتنا عنه خطايانا، و يحررنا من الأثرة والأنانية، ويعطينا القوة أن نحيا الحياة المثلى، ويعلمنا أن نحب بعضنا بعضاً – من أعداء وأصدقاء على السواء – هذا هو معنى "الخلاص"، هذا ما جاء المسيح، لكي يهبنا إياه، بموته وقيامته.
إذاً، هل المسيحية الأصلية، هي الاعتقاد بأن يسوع هو ابن الله، الذي جاء ليكون مخلص العالم؟ كلا! فإنها ليست هكذا... فلا يكفي أن نقبل ونسلم، بأن المسيح شخص إلهي، ولا أن نؤمن بعمل المسيح الخلاصي، لأن المسيحية ليست مجرد عقيدة، لكنها تتضمن العمل... ولئن وصل إيماننا العقلي، درجة تفوق النقد، إلا أنه ينبغي أن نترجم اعتقاداتنا إلى حياة عملية و أفعال حيّة.
فماذا يجب أن نفعل إذاً؟
يجب أن نسلم ذواتنا... وقلوبنا... وعقولنا.. ونفوسنا.. وإرادتنا.. شخصياً.. وبدون تحفظ.. إلى يسوع المسيح... لنتواضع قدامه، ونتوكل عليه كمخلص لنا، ونخضع له كسيّدنا وربنا، ومن ثم نتقدم إلى الصفوف، لنأخذ مكاننا كأعضاء أمناء في الكنيسة، وكمواطنين مسؤولين في المجتمع.
هذه هي "المسيحية الأصلية" وهي موضوع كتابنا، ولكن نحتاج – قبل أن نشرع في بحث البراهين، على ألوهية يسوع المسيح – إلى فصل تمهيدي، يتناول شرح "التقارب الصائب" أو معالجة الدعوى المسيحية، القائلة بأننا يمكن أن نجد الله في يسوع المسيح، علاجاً منطقياً سليماً... وجديراً بنا، ونحن ندرس هذه الدعوى، أن نتذكر أن الله نفسه يبحث عنا ويفتش علينا، وبأنه يجب علينا نحن أن نبحث عنه ونطلب.
المؤلف
- عدد الزيارات: 2975