الفصل السابع عشر: فرح القداسة
"لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس" (رومية 14: 17).
يريد الله أن تكون الحياة المسيحية مُفعمة بالفرح وليس بالكدح. أما الفكرة التي تصور القداسة بأنها ترتيب صارم فهي تشويه مضلل. ففي الواقع أن العكس هو الصحيح. لأن من يسلك في القداسة فقط هو الذي يختبر الفرح الحقيقي.
قال الرب يسوع: "إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبّتي كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته. كلمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم" (يوحنا 15: 10و11). وفي هذا التصريح يربط الرب يسوع الطاعة بالفرح حسب علاقة السبب والنتيجة، أي أن الفرح ينتج عن الطاعة. فالذي يطيع، أي الذي يسير في منهج القداسة كنمط حياة، وحده يختبر الفرح النابع من لَدُن الرب.
كيف تنتج القداسة الفرح؟ لا ننسى أولاً أن الفرح ينبع من الشركة مع الرب. فقد قال داود: "أمامك شبع سرور. في يمينك نعم إلى الأبد" (مزمور 16: 11). الله هو مصدر كل فرح حقيقي يُنعم به على الذين يسلكون بالشركة معه. فلما اقترف داود خطيته الفظيعة من قتل وزنى، طلب إلى الرب في صلاة التوبة: "وُدّ لي بهجة خلاصك" (مزمور 51: 12). فحياة العصيان وحياة الفرح لا تلتقيان.
واختبارنا اليومي لمحبة المسيح مرتبط بإطاعتنا له. لا يعني هذا أن محبته مشروطة بطاعتنا، فمن شأن ذلك أن يصبح معاملة ناموسية لكن اختبارنا لمحبته يتوقف على طاعتنا له.
يلاحظ الدكتور وليم هندريكسن (Dr. William Hendriksen) أن محبة الله تتقدم طاعتنا وتتبعها في الوقت عينه. ويقول أن محبة الله "إذ تتقدم محبتنا تنشئ فينا توقاً شديداً للعمل بوصايا لمسيح، ثم إذ تتبع محبتنا تكافئنا لأننا عملنا بتلك التعاليم.
سببٌ آخر يدعو للفرح وهو أن أعلم أني أطيع الله –أي أني لم أعد أقاومه من ناحية معينة من حياتي. ويظهر هذا الفرح بشكل خاص بعد صراع مرير بين الروح القدس والطبيعة الساقطة، عندما نتغلب بالنعمة نهائياً على خطية معينة كانت تحكم قبضتها علينا. وقد نسمي هذا فرح النصرة؛ أما أنا فأوثر تسميته فرح الطاعة.
علاوة على فرح الشركة مع الله القدوس، فإن حياة القداسة تنشئ فرح توقع المكافأة.
قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا. ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي فجلس في يمين عرش الله" (عبرانيين 12: 1و2). فما حث يسوع على الاحتمال هو توقّعه لفرح المكافأة، فلا شدة أو مشقة كان لها أن تحرمه هذا التوقع.
في مََثََََل الوزنات قال السيد للعبدين اللذين استثمرا وزناتهما: "نعمَّا أيها العبد الصالح والأمين...ادخل إلى فرح سيدك" (متى 25: 21-23). وإحدى الوزنات التي يهبها الله لكل مؤمن مسيحي هي إمكانية السلوك في القداسة لكونه تحرر من سيادة الخطية. ونحن أيضاً، لنا أن نتشوق لدخول فرح سيدنا فيما نسلك في القداسة إلى آخر يوم من حياتنا. وليس الفرح فقط نتيجة حياة مقدسة إنما يصحّ القول أن الفرح يسبب حياة مقدسة. فقد قال نحميا للمسبيّين المكتئبين العائدين إلى أورشليم: "فرح الرب هو قوتكم" (نحميا 8: 10). والمؤمن المسيحي الذي يعيش في العصيان يفتقر إلى الفرح والرجاء. لكنه عندما يدرك أن الرب يسوع قد انتشله من قبضة الخطية ويعرف أنه متحد بصاحب كل قوة وسلطان، وأنه من الممكن أن يسلك في الطاعة، يتألق أمام ناظريه نور الرجاء. وإذ يضع رجاءه في المسيح، يأخذ باختبار الفرح. وبقوة الفرح يبدأ بالانتصار على الخطايا التي يسهل أن يقع في فخّها. ويكتشف أنّ فرح السّيرة المقدسة أكثر إرواءً وإشباعاً بكثير من التمتّع الوقتي بالخطية.
ولكن، لكي نختبر هذا الفرح علينا أن نقوم بحسم بعض الخيارات: فنختار التخلي عن الخطية، ليس فقط لأنها تهزمنا بل لأنها تحزن قلب الله، ونختار إجراء حساباتنا على أساس كوننا أمواتاً عن الخطية، محررين من سلطانها وسيادتها، وفي وسعنا الآن أن نصدّها. ونختار تحمل مسؤوليتنا في تدريب أنفسنا على الطاعة.
إن الله قد أعدّ كامل العدّة لنا للسير في منهج القداسة. فقد حرّرنا من حكم الخطية، ووهبنا روحه القدوس، وأعلن في الكلمة المقدسة إرادته بخصوص سيرة القداسة، وهو العامل فينا كي نريد مسرته ونعمل من أجلها. وقد أقام رعاة ومعلمين لحثّنا على السلوك في نهج القداسة؛ وهو يستجيب لصلواتنا عندما نصرخ متضرعين، طالبين قوة لمواجهة التجربة.
والحقيقة أن الخيار هو لنا. فماذا نختار؟ هل سنتحمل مسؤوليتنا وندرب أنفسنا للعيش في طاعة مستمرة للإرادة الإلهية؟ هل سنواظب رغم السّقطات العديدة مصمّمين على المضيّ قُدماً؟ هل سنقرر أن القداسة الشخصية تستحق ثمن كبح شهوات الجسد ورغباته؟
سبق أن أشرنا في مقدمة هذا الكتاب إلى المزارع الذي يتكل على الله ويتمّم مسؤولياته اللازمة لإنتاج المحصول. فهو لا يتراخى وينتظر تدخل الله، بل بالحري يعمل بنفسه، ويثق بأن الله سيوفي قسطه من العمل. فعلينا أن نحتذي بمثال هذا المزارع، إذا ابتغينا إحراز التقدم في مجال القداسة. أليس قول الله "كونوا قدّيسين لأني أنا قدّوس" أوضح وأصرح من أن نناقشه؟ وهو بالطبع لم يأمرنا بالقداسة دون أن يدبّر الوسيلة لتنفيذها. فلنا الامتياز أن نسلك في القداسة، وكذلك علينا القرار والمسؤولية. فإذا اتخذت هذا القرار وتحمّلت مسؤوليتك فلا بدّ أن تختبر ملء الفرح الذي وعد به المسيح جميع الذين يسلكون سبيل طاعته.
- عدد الزيارات: 1694